استراتيجيات الإخضاع المعاكس – الثقافة والكرامة
03-11-2016, 12:02 PM
تمتلئ النصوص الأنثروبولوجية باستراتيجيات مختلفة للإخضاع تمثِّل تقليديًّا جزءًا من استراتيجية الهيمنة التي استخدمتها القوى الأورو-أمريكية للتعامُل مع الشعوب الأخرى. والواضح أن هذه الاستراتيجيات ترتبط بمبدأ التقدُّم، وهو يُعَدُّ مفهومًا حديثًا ظهَرَ لأول مرة مع الحضارات الصناعية الأولى في أوروبا؛ حيث كان الناس، وما زالوا، يُصنَّفون ضمن فئات مختلفة بحسب تطوُّرهم الاجتماعي. وعلى الرغم من جهود علماء الأنثروبولوجيا الأورو-أمريكيين لنقد نظرية التطوُّر الأُحادي الخط في بدايات القرن العشرين، فإن الأنثروبولوجيا قد اشتركت في تشكيل استراتيجيات الإخضاع التي تلتها؛ مثل: «الحداثة»؛ وتعني أن بعض الناس لا يُعتبَرون عصريين بالرغم من أنهم معاصرون؛ و«التأخُّر» وهي لفظة تشير إلى الجماعات التي لم تَفِ بمعايير التطوُّر. ومن المصطلحات الأخرى «العِرقيةُ»، وهو عنصر لا يمتلكه سوى مجموعة معينة من البشر. وفي وصف الأشخاص بالإشارة إلى الأصول التي انحدروا منها، في تعبيرات مثل أفرو-أمريكي، أو مكسيكي-أمريكي، أو عربي-أمريكي، في حين أن تعبيرات أخرى مثل أنجلو-أمريكي أو فرنسي-أمريكي أو أمريكي-إسرائيلي، لا تُستَخدَم إلا فيما ندر.

وقد رسَّخَ المفكِّرون الغربيون استراتيجياتِ الإخضاع تلك من خلال مبدأ الافتقار (نادر، ٢٠٠٥)؛ كقول البعض إن المجتمعات الإسلامية تفتقر إلى وجود قانون قائم على العقلانية، وتلك كانت بصمة فيبر، وما زالت تُستخدَم حتى اليوم لتبرير إخضاع الشعب العراقي الذي هو «بحاجة» إلى سيادة قانونية أكثر عقلانيةً. ويُقال كذلك إن الصينيين يفتقرون إلى القضاء، هذا إن كان يمكن الزعم بأن لديهم قانونًا على الإطلاق. أما مفهوم حقوق الإنسان، فعلى ما يبدو ينطبق في الأساس على الثقافات غير الغربية؛ مثل الأماكن التي يُقال إن النساء المسلمات فيها بحاجةٍ إلى حمايتنا من أقاربهن الرجال من ناحية الأب. هذا علاوةً على مسمَّيات أخرى تستخدمها مؤسسات اقتصادية قوية مثل البنك الدولي للتعبير عن درجات التبعية؛ مثل تصنيف العالَم إلى عالَمٍ أول وعالَمٍ ثانٍ وعالَمٍ ثالث، بل وحتى عالَمٍ رابع. وفي كل هذا دليل على أن التطوُّر الأُحادي الخط ما زال قائمًا وفعَّالًا.

أنا شخصيًّا ترعرعت في بلدة صناعية في ولاية كونيتيكت، يعيش بها أناسٌ يُشار إليهم بأصولهم — أمريكيون-إيطاليون، وأمريكيون-بولنديون، وأمريكيون-أيرلنديون، وأمريكيون-لبنانيون أو سوريون — في مقابل أناسٍ آخَرين يبدو أن أجدادَهم أتوا إلى البلاد على ظهر السفينة مايفلاور؛ ولذا لا ينحدرون من أي «عِرق». وعلى أي حال، فقد شعرتُ أنني مدفوعة — وإن كان عن غير وعي ذاتي مني — إلى الخضوع باتجاهٍ معاكِسٍ منذ فترة طويلة ترجع إلى عام ١٩٦٩م في مقالِي «الدراسة الأنثروبولوجية للمستويات العليا في الهيكل الاجتماعي»، الذي نُشِرَ في كتاب ديل هايمس «إعادة اختراع الأنثروبولوجيا» (١٩٦٩)؛ دعوتُ فيه إلى دراسة أي موضوع خاضع للبحث الأنثروبولوجي دراسةً متكاملةً تشمل كافةَ الجوانب؛ كأنْ نشمل البنوكَ التي تمتنع عن منح القروض للفقراء عند دراستنا فقراءَ الولايات المتحدة ساكني أحياء الأقليات أو الجيتو؛ ونشمل المستعمرين عند إجراء دراسات إثنوجرافية على الشعوب الأفريقية؛ وندرس النخب إلى جانب الفقراء، والمضطهدين والمستعمَرين، حتى نقدِّمَ دراساتٍ أنثروبولوجيةً ملائمةً أكثر، بل علمية أكثر أيضًا. فكيف يتسنَّى لنا فهم أفريقيا مثلًا دون فهم الاستعمار واستمراره في فترةٍ من المفترض أنها تالية للاستعمار؟ لم يزَل البريطانيون يمتلكون مناجِمَ الماس في سيراليون، بينما يتحكَّم المزايدون الأجانب في نفط العراق؛ لأنهم يعتقدون أنهم أدرى من غيرهم بالاستخدام الأمثل لهذا المورد الثمين، علاوةً على أن بعض القادة العراقيين يرغبون في وجود تلك الشركات أيضًا.

أعقاب حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة

في أعقاب حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، واجهنا سيلًا من حركات الاختلاف أو «التنوُّع». ظهر دعاةُ التنوُّع من حيث لا يدري أحد، ولكن يبدو أنهم واجَهوا صعوبةً في قبول فرضية أن أيَّ اختلافات بين البشر تُعَدُّ اختلافاتٍ سطحيةً مقارنةً بتقدير ما يشتركون فيه جميعًا. وهكذا يتبلور مفهومُ إخضاع الأعراق ويدوم من خلال خبرة متفانية في الهندسة الاجتماعية والثقافية، وفي الاختلاف باعتباره «مشكلةً». وقد يتساءل البعض: متى يُشكِّل الاختلافُ مشكلةً على الإطلاق؟ متى يُحرَم الأمريكيون من حقِّهم في الاقتراع؟ متى يكون رأْبُ الفجوة بين المساواة والاختلاف مسألةً غاية في الأهمية؟ ومتى تفقد أهميتها؟

طالما كان التركيز على الاختلاف، وإبرازه لتيسير عمليات الإقصاء، من سمات السيطرة والهيمنة الاستعمارية، وبالمثل فإن أيديولوجية استخراج التجانس من التنوُّع هي أساس الهندسة الثقافية التي تتبعها الولايات المتحدة للتعامل مع الأقليات، وتجازف من خلالها بنشأة فكرٍ شبيهٍ بالفاشية الثقافية! فمثلًا تضمن أيديولوجيات التجانُس أن نشرب جميعًا الكولا وأن تتشابه أذواقنا الاستهلاكية، ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه هو: مَن المستفيد من الاختلاف أو التجانُس؟ وأين يظهر التعايش أو الاحترام المتبادل؟ إن الأوروبيين لديهم هلعٌ من المهاجرين المسلمين، وما يحملونه من عادات ودين، ولكن هل خاف المصريون أن يجتاح التجَّار الأوروبيون الإسكندرية؟ علينا أن ننقل تساؤلاتنا عبر التاريخ. في عام ١٩٩٦م صدر كتاب «العلم المُجرَّد: بحث أنثروبولوجي حول الحدود والقوة والمعرفة» (نادر، ١٩٩٦)، وتناوَلَ جزئيًّا النتائج المترتبة على خضوع أساليب علمية مختلفة لأسلوب علمي واحد؛ فحتى في أوروبا وحدها تتعدَّد الأساليب العلمية؛ لذلك كشفنا في هذا الكتاب عن أسباب أهمية الطبيعة التعدُّدية للعلم والاعتزاز بها.

وطالما كانت دولة الأمن القومي — وما زالت — مهتمةً بكيفية الاستفادة من علم الأنثروبولوجيا. وقد استفدتُ في مقالي «العنصر الخفي: أثر الحرب الباردة على الأنثروبولوجيا» (نادر، ١٩٩٧) — كما استفاد غيري من علماء الأنثروبولوجيا مثل ديفيد برايس — من قانون حرية المعلومات في توسيع نطاق معرفتنا باستخدام «الاستخبارات الأنثروبولوجية» (٢٠٠٨) لخدمة السلطة. ومشاركةُ علماء الأنثروبولوجيا في إعمار الشرق الأوسط ليست بجديدة، ولكنها في تصاعُد منذ بدايات القرن العشرين. فبعد انقضاء الحرب العالمية الثانية استدعى فرانكلين ديلانو روزفلت عالِمَ الآثار المتخصِّص في شئون الشرق الأوسط هنري فيلد، لرغبته في معرفة المناطق غير المأهولة في الشرق الأوسط. والمعلوم أن الأورو-أمريكيين طالما عرفوا أفضلَ الطرق لاستغلال «المناطق غير المأهولة»، ولم يكُن روزفلت يختلف عنهم، بالأخص في الوقت الذي كان احتياطي النفط فيه يُعَدُّ من أهم الموارد، بالإضافة إلى النقاش الدائر حينها حول نقل لاجئي الحرب العالمية الثانية إلى المنطقة لتأسيس موضع قدم للغرب فيها. لقد كان اكتشاف النفط، وازدياد الرغبة فيه، سببًا منذ اللحظة الأولى في زعزعة استقرار أجزاء من الشرق الأوسط وأفريقيا وبعض الأماكن القليلة السكان في أمريكا الشمالية.

ولكن في مقابل كل عالِم أنثروبولوجي يقبل العمل لمثل هذه الأغراض (في مشروع المضمار الإنساني مثلًا الذي أُطلِقَ خلال فترة رئاسة جورج بوش الابن)، يوجد آخَرون يهتمُّون بقضايا الرفاهية الجماعية للشعوب، وبالنقاشات المعاصرة حول استغلال الأنثروبولوجيا لأغراض عسكرية (جونزاليس، ٢٠٠٩). غير أن أغلب الناس، بمن فيهم علماء الأنثروبولوجيا، لا يبالون. ولكن تغيير العالم لا يتطلَّب سوى عددٍ قليل من الأشخاص كما تقول مارجريت ميد. وإن لم نصدِّق ذلك، فَلْنتأمَّلْ أولًا العشر سنوات السابقة والتالية في تاريخ واشنطن العاصمة في ظل رئاسة بوش الابن، وأثر الليبرالية الجديدة في خدمة الإمبراطورية.

قد يأتي اليوم الذي نشهد فيه إقامة معارض للكتاب تُعرَض فيها دراساتٌ متميزة في الأنثروبولوجيا العامة، ولسوف أحرص على عرض كتاب «السباحة ضد تيار نهر دجلة» (٢٠٠٧) لعالِمة الأنثروبولوجيا والصحفية باربرا نمري عزيز، التي توثِّق فيه التبعاتِ القاتلةَ لاثني عشر عامًا من العقوبات الاقتصادية، التي فرضتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والأمم المتحدة خلال الفترة السابقة لغزو العراق عام ٢٠٠٣م، وتسبَّبَتْ في إزهاق أرواح ما يُقدَّر بنحو ١٫٥ مليون شخص، بينما كنَّا نحن نُشيح بأبصارنا ونتجاهل الوضع. إن الباحثين المَهَرَة لا يكتفون بدراسة المجتمعات المنكوبة، بل يشيرون إلى أسباب نكبتهم، مقيمين الروابطَ بين التحوُّلات المحلية والقومية (دوكاس، ٢٠٠٣؛ شيبر-هيوز وفاكونت، ٢٠٠٣).

استراتيجيات الإخضاع المعاكس

وحتى تكتمل الصورة، فإن استراتيجيات الإخضاع المعاكس هي نقيض الدراسات التي تركِّز على الضحايا، وتختلف كذلك عن أساليب البحث من منظور الرفاهية الاجتماعية، بل تربط استراتيجيات الإخضاع المعاكس بين مبحوثيها وعمليات التغيير الأشمل. وهذا هو ما يجيده علماء الأنثروبولوجيا؛ إذ يتأمَّلون سلالةَ الإنسان العاقل على مدار الآلاف من السنين، وبعد حدوث ما يكفي من التطوُّر لإقامة الدول المركزية، يتفكَّرون في الوجهة المُحتمَلة لذلك الكائن البشري، وعسى أن تزوِّدنا دراسةُ التاريخ بمنظورٍ مفيد للبحث.

سافَرَ ميرزا أبو طالب خان (١٨١٤) من الهند إلى إنجلترا في القرن الثامن عشر، وكتب الجبرتي (١٧٩٨) — وهو أعظم مؤرِّخي العرب — عن نابليون في مصر؛ نابليون الذي كان ينادي بالحرية والتحرير بينما هو يمارس العكس. وقد ارتحل هذان الرجلان الشريفان في قومهما حينما كان الشرق هو العالَم، وقبل سيطرة مفاهيم الاستعلاء الغربية، ليُعلِّمانا الكثيرَ عن أنفسنا سلبًا وإيجابًا؛ إذ لم تكُن دراساتُهما النقديةُ أُحاديةَ الاتجاه. فعلى سبيل المثال: يناقش أبو طالب أولًا «كم الرعب» الذي تحتويه العقوباتُ التي يفرضها النظام القانوني البريطاني في الهند، ثم يعقد مقارَنةً بينها وبين محاكم كالكتا، من خلال الاستشهاد بدعاوى هندية معروفة يجري فيها إعادة الشهود الذين يُتَّهَمون بالكذب إلى بيوتهم دون جزاء. لقد تأمَّلَ أبو طالب حالَ قومه وهو يُجرِي دراسته، وجاء نقده في النهاية بنَّاءً؛ فاقترح أن يحصل المحامون، مثل القضاة، على أتعابهم من المال العام للتخلُّص من أي دوافع للتأخير قد تنبني على دواعٍ مالية. وبالإضافة إلى دراسته النقدية للحريات القانونية الإنجليزية، نجده يقارن بين الحريات الممنوحة للمرأة الهندية والمرأة البريطانية، في محاولةٍ لتبرئة ساحة المرأة الآسيوية من الآراء المُلصَقَة بها؛ فهو لا يكتفي بدحض صورة المرأة الآسيوية (النخبوية) المقهورة، بل يتقدَّم بادِّعاءٍ أجرأ بأنها تتمتَّع بحريات أكثر مقارَنةً بالمرأة الأوروبية؛ إذ من حقِّها حيازةُ ممتلكات منفردة، وأن تديرها دون تدخُّلٍ من رجال عائلتها أو جماعتها.

وبالمثل، تسود الكثير من المعتقدات غير العلمية في نقاشاتٍ حول الطاقة بين بعض علماء الطاقة ورجال السياسة والاقتصاد: الطاقة النووية «أرخص من أن تُقاس»، التغيير يعني الحفاظ على الوضع الراهن، التقدُّم مساوٍ للنمو، إجمالي الإنتاج القومي يعني زيادةَ الرفاهية، نمو الطاقة يعني تحقيق نموٍّ اقتصاديٍّ أكبر، زيادة الإنفاق على الطاقة لا يغيِّر أسلوبَ الحياة بينما يغيِّره نقصُ الإنفاق، الحلول الفنية قادرةٌ على حلِّ المشكلات الإنسانية والحيلولة دون وقوع الكوارث، الحل النظري للمشكلات مساوٍ لحلِّها على أرض الواقع، الأرقام حقيقية، يمكن التخطيط للمستقبل، حفظ الطاقة وتوفيرها أساليب قمعية، كلما زاد الحجم كان ذلك أفضل، إما النمو وإما الفشل (نادر ٢٠١٠). وليست تلك سوى مجموعة صغيرة من المعتقدات أوردها هنا كأمثلة، وتوجد بيانات تدحض تقريبًا كلَّ هذه المعتقدات التي تقودنا إلى خوض الحروب على الموارد والمعاناة من مآسٍ صحية يمكن تجنُّبها. وما أقلَّ العلماء والأطباء الذين يدركون الأوهامَ والضلالاتِ المترسخة في نماذجهم!

ويجمع كتاب «الغنيمة: عندما تكون سيادةُ القانون غيرَ قانونية» (ماتاي ونادر، ٢٠٠٨) بين طيَّاته خلاصةَ ٥٠٠ عام من التوسُّع الأورو-أمريكي والأوهام والضلالات المرتبطة بالاستعمار الأورو-أمريكي، وفيه أردنا أنا وأوجو ماتاي التوثيقَ لاستغلال أيديولوجية سيادة القانون في المغامرات الإمبريالية، منذ أن اتَّخَذ كولومبوس كاتب عدل اسمه رودريجو إسكوبيدا وصعد به إلى ظهر السفينة سانتا ماريا في رحلته إلى العالم الجديد.

جون لوك

ساق جون لوك في إنجلترا (١٦٩٨) وإيميريش دي فاتيل في سويسرا (١٧٩٧) معنى الغنيمة بالقانون؛ فهي: «أكبر مساحة من الأرض يستطيع الرجل حرثها وزراعتها وتحسينها وفِلاحتها واستخدامها»، وبفكرة الأراضي المُباحة (ماتاي ونادر، ٢٠٠٨: ٦٧) التي يمكن تخصيصها للسلطات التي تُقام. في عام ٢٠٠٣م أرسل الرئيس بوش بول بريمر إلى العراق بزعم فرْضِ سيادة القانون، في مكانٍ من المفترض أنه لا يعرف القانونَ؛ لأنه كان تحت حكم ديكتاتوري، وطبَع بول بريمر بدوره ١٠٠ أمرٍ لتبرير نهب العراق، ومَنَح بموجبها الأفضليةَ للشركات الأمريكية باعتباره — آنذاك — رئيسَ سلطة الائتلاف المؤقتة (ماتاي ونادر، ٢٠٠٨: ١١٨)، وهي ذات الوصفة التي استُخدِمَت للنهب منذ ما يقرب من ٥٠٠ عام على الأقل، ومدَّ فترةِ حظرِ صدام حسين عملَ النقاباتِ العمالية. وسمح الأمر رقم (٣٩) بخصخصة المائتي شركة العراقية المملوكة للدولة، والسماح بامتلاك الأجانب حصصًا تصل إلى ١٠٠٪ من حجم الشركات العراقية، ومعاملة الشركات الأجنبية نفس «معاملة الشركات الوطنية»، وتحويل جميع الأرباح والأموال الأخرى تحويلًا غير مقيَّدٍ ومُعفًى من الضرائب إلى خارج البلد، ومنح تراخيص حيازة تصل مُددها إلى ٤٠ عامًا. أما الأمر رقم (١٧) فقد منح المقاولين الأجانب حصانةً تامةً من القوانين العراقية. وبذلك فإن أوامر بريمر حرمَتِ العراق فعليًّا من إمكانية منح الأفضلية للشركات العراقية أو الموظفين العراقيين في أعمال الإعمار؛ هذا فضلًا عن السماح للمنتَجات الأجنبية بإغراق السوق العراقية؛ ممَّا يجبر المنتجين المحليين على ترك العمل. كذلك منح الأمرُ التنفيذي الأمريكي رقم ١٣٣٠٣ الصادر في مايو ٢٠٠٣م حصانة شاملة للشركات الأمريكية التي تتملك أو تسيطر على النفط العراقي أو المنتجات العراقية. إن أوامر بريمر غير قانونية بموجب القانون الدولي الذي ينصُّ على أنه لا يجوز لأي دولة مستعمِرَة أن تحوِّل المجتمعَ الذي هزمته إلى مجتمعٍ مماثِل لها، وما زلنا بانتظار أن نشهد إن كان لكلِّ هذه الأوامر أثرٌ ممتدٌّ أم لا.

إنَّ لمفهوم سيادة القانون تاريخًا عريقًا ظلَّ يُشار إليه طوال ذلك التاريخ باعتباره «مبدأً إيجابيًّا»، ولكن من الأهمية بمكان، كجزء من الاستراتيجية المُتَّبَعة التي تركِّز على الصالح العام، أن يُوقَف استغلالُ مبدأ سيادة القانون استغلالًا غامضًا يتناسب واحتياجات كل طرف من الأطراف السياسية كما لو كان رمزًا أو سببًا للوجود؛ عند احتلال العراق أو أي دولة أخرى على سبيل المثال. وعليه يتعيَّن اعتبار سيادة القانون غيرَ قانونية عندما تُستَخدَم بوصفها عقيدةً أساسيةً في الخطاب الأمريكي حول السياسة الخارجية — جزءًا ضخمًا من «عبء الرجل الأبيض» — أيْ عندما تُستَخدَم لتبرير الإمبريالية، سواء في العراق أم في أي مكان آخَر. وينبغي اعتبار سيادة القانون غير قانونية عندما تُطبَّق بأسلوب إجرامي وتعسُّفي وبحسب الأهواء، جاعلةً من المواطنين الأضعف ضحايا، أو حين تنتهك روح ونص معاهداتٍ مثل اتفاقية جنيف التي تهدف إلى الحد من الحروب المتعلِّقة بالنهب وكسب الغنائم، أو حين يتعمَّد أصحاب السلطة وبأسلوب منهجي عدمَ تطبيق القانون، أو تطبيقَه بناءً على معايير مزدوجة أو من خلال التمييز بين فئات مختلفة؛ أما أسلوب الإخضاع المعاكس فلا يتيح إخفاءَ الانتهاكات وراء أيديولوجيات سيادة القانون. كما يتناول كذلك مغزى تسمية المناطق الجغرافية؛ فكان ألفريد ثاير ماهان، أحد أبرز مناصري القوة البحرية الأمريكية، هو مَن أطلق تسميةَ «الشرق الأوسط» عام ١٩٠٧م، التي صارت تُستخدَم حتى يومنا هذا، ولكن مع إثارة الجدل حول معنى التسمية، فهو أوسطُ مقارَنةً بماذا؟ وإلى الشرق من أين؟ (كوبيس، ١٩٧٦).


سحر الحرف والكلام


شكرا للأخ صقر الأوراس على التوقيع