حقيقة الغلو وانحرافات الفكر المادي المعاصر الجزء الثاني من الحلقة السابقة-سيد مبارك
05-08-2018, 04:58 PM

حقيقة الغلو وانحرافات الفكر المادي المعاصر
الجزء الثاني من الحلقة
رابط الجزء الأول للمتابعة
إنَّ الحمد لله نحمده، ونَسْتعينه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شُرور أنفُسِنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أمَّا بعد:
نتابع في هذه المقالة مع ماسبق بيانه في الجزء الأول حقيقة الغلو في الدين واقسامه لندرك الداء والدواء.
أولاً: حقيقة الغلو في الدين: -
الغلو كما جاء في لسان العرب: غلا: الغلاء: نقيض الرخص. غلا السعر وغيره يغلو غلاء، ممدود، فهو غال وغلي؛ الأخيرة عن كراع. وأغلاه الله: جعله غاليا. وغالى بالشيء: اشتراه بثمن غال.
والغلو: الإعداء. وغلا بالسهم يغلو غلوا وغلوا وغالى به غلاء: رفع يده يريد به أقصى الغاية وهو من التجاوز (1 )
قلت: فالغلو إذاً هو مجاوزة الحد المطلوب شرعاً من العبد فلا يكتفي العبد بما شرعه الله ورسوله-صلي الله عليه وسلم-بل يزيد فيه برأيه وهواه فيغالي ويظن أنه محبوب عند الله وهؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالي:{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } (2 )
-وفسر الحافظ بن كثير الآية فقال ما مختصره: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ } أي: نخبركم { بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا }؟ ثم فسرهم فقال: { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي: عملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة، { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } أي" يعتقدون أنهم على شيء، وأنهم مقبولون محبوبون.
وقوله: { أولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ } أي: جحدوا آيات الله في الدنيا، وبراهينه التي أقام على وحدانيته، وصدق رسله، وكذبوا بالدار الآخرة، { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } أي: لا نثقل موازينهم؛ لأنها خالية عن الخير .اهـ (3 )
ولذلك حذر نبينا-صلي الله عليه وسلم من هذا الغلو فيما رواه أنس-رضي الله عنه- قال: "أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أنام على فراش فحمد الله وأثنى عليه فقال "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" ( 4)
وقوله-صلي الله عليه وسلم-"فمن رغب عن سنتي فليس مني" واضح صريح بأن المغالي في الدين بالزيادة أو النقصان غير راغب بسنته ومعرض عنها وهذا ما بينه الحافظ ابن حجر- رحمه الله -في شرحه للحديث في فتح الباري فقال: المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلي غيره، والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني، ولمح بذلك إلي طريق الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالي وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التزموه، وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنيفية السمحة فيفطر ليتقوى على الصوم وينام ليتقوى على القيام ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل. وقوله فليس مني إن كانت الرغبة بضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه فمعنى " فليس مني " أي على طريقتي ولا يلزم أن يخرج عن الملة وإن كان إعراضا وتنطعا يفضي إلي اعتقاد أرجحية عمله فمعنى فليس مني ليس على ملتي لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر.اهـ(5 )
قلت: و (الغلو) مصطلح ورد في القرآن الكريم في موضعين؛ وها هما:
- قوله تعالي:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ في دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ}( 6)
-و قوله تعالي:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ في دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}( 7)
وقد ورد الغلو في السنة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال: قال رسول الله –صلي الله عليه وسلم-: " إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين " (8 )
قال ابن تيمية في شرح هذا الحديث:
وقوله: «إياكم والغلو في الدين» عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال. والغلو: مجاوزة الحد بأن يزاد في حمد الشيء أو ذمه على ما يستحق، ونحو ذلك، والنصارى أكثر غلوا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف.
وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن في قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}(9 )
وسبب هذا اللفظ عام: رمي الجمار. وهو داخل فيه، فالغلو فيه مثل الرمي بالحجارة الكبار، ونحو ذلك. بناء على أنه أبلغ من الحصى الصغار ثم علل ذلك: بأن ما أهلك من قبلنا إلا الغلو في الدين كما نراه في النصارى. وذلك يقتضي: أن مجانبة هديهم مطلقا أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه أن يكون هالكا".اهـ (10 )
قلت: ولأهل العلم في بيان الغلو شرعاً ما يزيد من فهم المعني الحقيقي للغلو منها:
-ما ذكره ابن القيم-رحمه الله-قال ما مختصره وبتصرف: -
إنهما لطرفا إفراط وتفريط وغلو وتقصير وزيادة ونقصان وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الأمرين في غير موضع كقوله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} وقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}(11 ) ثم قال-رحمه الله-:
فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه وخير الناس النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ولم يلحقوا بغلو المعتدين وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطا وهي الخيار العدل لتوسطها بين الطرفين المذمومين والعدل هو الوسط بين طرفى الجور والتفريط والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف والأوساط محمية بأطرافها فخيار الأمور أوساطها قال الشاعر:
كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا.اهـ ( 12)
-وقال ابن العثيمين في الفتاوي ما مختصره: والناس في العبادة طرفان ووسط؛ فمنهم المفرط، ومنهم المفرط، ومنهم المتوسط.
فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وكون الإنسان معتدلا لا يميل إلى هذا ولا إلى هذا، هذا هو الواجب؛ فلا يجوز التشدد في الدين والمبالغة، ولا التهاون وعدم المبالاة، بل كن وسطا بين هذا وهذا.
والغلو له أقسام كثيرة؛ منها: الغلو في العقيدة، ومنها: الغلو في العبادة، ومنها: الغلو في المعاملة، ومنها: الغلو في العادات. اهـ (13 )
قلت: وجميع أقوال علمائنا سلفاً وخلفاً متقاربة في المعني الذي ذكرناه هنا فالغلو في حقيقته هو مجاوزة الحد الشرعي مهما كان نوعه بالإفراط أو التفريط والشيطان لا يبالي بأيهما ظفر ففيهما خروج عن حد الوسطية والاعتدال الذي أمر به الشرع المطهر.
والحاصل مما سبق ذكره يتبين لنا أن المغالي في الدين يشعر بأن ما طلبه الشارع قليل ولا يكفي ويؤدي ذلك به إلي الإفراط أو التفريط ويخشي عليه من استعمال الفكر وتقديم العقل علي النص فينحرف به ويتأول أحكام وشرائع الدين علي هواه ليكون ملائم للعصر حسب ظنه وتأويله الفاسد وهواه المضل الذي يحثه علي طاعة نفسه الأمارة بالسوء فيقول علي الله ورسوله بغير علم.
أقسام الغلو في الدين:
أن الغلو ينقسم إلي نوعين كما هو معلوم عند أهل العلم وهما:
القسم الأول: الغلو الاعتقادي الكلي
القسم الثاني: الغلو العملي الجزئي
وإيضاح هذين القسمين يساعد على فهم حقيقة الغلو في الدين بصفة عامة ، وتحديد مفهومه، وهذا بيان لحقيقة كل منهما:
القسم الأول: الغلو الكلي الاعتقادي:
والمراد به ما كان متعلقـاً بالعقيـدة كالغلو في الأئمة واقطاب الصوفية ومدعي النبوة وما اشبه هذا والغلو الاعتقادي أشد خطراً من العملي ؛ إذا الغلو الاعتقادي هـو المـؤدي إلي الانشـقاقات وظهور الجماعات والفرق التكفيرية والمذاهب الشاذة وانتشار الإلحاد وانصاره والأفكار المنحرفة الشاذة إلي غير ذلك مما سوف نبينه عند طرح أنواع الغلو والانحراف.
ولقد حذر علمائنا سلفاً وخلفاً من هذ النوع لخطورته في كثير من مؤلفاتهم القيمة لخطورتهما علي صلاح الامة وهويتها.
نذكر هنا قول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-قال ما مختصره: وهكذا هو الواقع في أهل ملتنا، مثلما نجده بين الطوائف المتنازعة في أصول دينها، وكثير من فروعه، من أهل الأصول والفروع. ممن يغلب عليه الموسوية والعيسوية، حتى يبقى فيهم شبه من الأمتين اللتين قالت كل واحدة: ليست الأخرى على شيء.
كما نجد المتفقه المتمسك من الدين بالأعمال الظاهرة، والمتصوف المتمسك منه بأعمال باطنة، كل منهما ينفي طريقة الآخر، ويدّعي أنه ليس من أهل الدين، أو يعرض عنه إعراض من لا يعدّه من الدين؛ فتقع بينهم العدأوة والبغضاء).اهـ(( 14)
القسم الثاني: الغلو العملي الجزئي:
الغلو العملي الجزئي وهو متعلق بالعبادات ويكون بالإفراط أو التفريط والخروج عن الشرع الحكيم ومثال ذلك: وصل الصيام والأعراض عن الزواج دون عذر، والاسراف في الوضوء وغير ذلك، وكذلك في العادات كالأفراط في الطعام والشراب والملبس وما أشبهه فمقصوده التشدد والتنطع بالزيادة أو النقصان.
وينطبق علي هؤلاء قوله تعالي:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }( 15)
-قال السعدي في تفسيره لهذه الآية ما مختصره: يقول تعالي:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } من المطاعم والمشارب، فإنها نعم أنعم الله بها عليكم، فاحمدوه إذ أحلها لكم، واشكروه ولا تردوا نعمته بكفرها أو عدم قبولها، أو اعتقاد تحريمها، فتجمعون بذلك بين القول على الله الكذب، وكفر النعمة، واعتقاد الحلال الطيب حراما خبيثا، فإن هذا من الاعتداء.
والله قد نهى عن الاعتداء فقال: { وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم على ذلك. اهـ(16 )
ثانياً: حقيقة الانحراف الفكري:
الانحراف في اللغة: من: حَرَف عَنْهُ حَرْفاً: مالَ وعَدَل، وحَرَف الشيءَ عن وجهه حَرْفاً: صرَفَه وغيَّره، وحَرَّفَ الشيءَ: أماله، وحَرَّفَ الكلام: غيّره وصرفه عن معانيه، وانْحَرَفَ: مال، ويُقال: انْحراف مزاجُه:مال عن الاعتدال. (17 ))
ونستطيع أن نقول أن الانحراف هو الخُروجُ عَنْ جادًّةِ الصَّوابِ، أي عَنْ كل ما هُوَ مأْلوفٌ وَمُتَعارَفٌ عَلَيْهِ مِنْ عادَاتٍ وَسُلوكٍ وأعراف في دنيا الناس، ويُعد مصطلح " الانحراف الفكري " له مرادفات كثيره انتشرت في عالمنا المعاصر منها التطرف والتشدد والإرهاب. الخ
والانحراف الفكري ليس له تعريف ومصلحات محدده وذلك لأسباب عديدة وجوانب كثيره فهنالك انحراف فكري ديني وانحراف فكري سياسي وانحراف فكري ثقافي وانحراف فكري اعلامي وغير ذلك كثير.
ويمكن القول إجمالاً إن الانحراف الفكري سواء كان ديني أو مادي هو الفكر الذي لا يلتزم بالقواعد الدينية والتقاليد والأعراف والنظم الاجتماعية السائدة والملزمة لأفراد المجتمع.
والمتأمل لتعريف الغلو يجد أنه لا يختلف عن الانحراف في مفهومه وخروجه عن حد الاعتدال بل نستطيع أن نقول إن الانحراف الفكري بأنواعه المختلفة من أهم مظاهر الغلو واشنعه ولهذا فعندما نتحدث عن الغلو فأننا نقصد بالتبعة ما ينشأ عنه من أثار ومظاهر وانحراف فكري سواء كان ديني أو مادي عن حدود الوسطية والاعتدال.
لأن كل منهما يقدم صاحبه العقل علي النقل، وهو متنوع ومتلون يتغير مفهومه بتغير الزمان والمكان، فما يُعد غلواً وانحرافاً فكرياً في مجتمع ما أو بيئة معينة لا يُعد كذلك في مجتمع آخر؛ وكذلك قد يكون غلواً منحرفاً في الماضي في بعض المجتمعات وفي عصرنا هذا مقبول ومن مظاهر الرقي والتحضر الزائف وذلك لاختلاف القيم والعرف والمعايير الدينية والاجتماعية في كل عصر ومصر.
ولا يغيب عن القارئ الكريم أن مفهومنا واطروحتنا في هذا البحث عن الغلو والانحراف الفكري إنما ينبع من تعاليم شريعتنا الغراء التي هي من لدن الخبير العليم-جل في علاه- بوسطيتها واعتدالها وما فيها من رقي وسمو وثبات لا تتغير ولا تتبدل ثوابتها واصولها العامة في كل عصر ومصر وليس عن الفكر البشري وما فيه من انحرافات وتجاوزات واهواء وأخطاء تعاني منها ومازال حتي يومنا هذا البشرية جمعاء لخروجها عن سبيل الله –تعالي – وشريعته التي تجمع خير الدنيا والآخرة لمن سلك الطريق القويم ومضي علي الصراط المستقيم بلا شك ولا ريب كما أوصي تعالي رسوله-صلي الله عليه وسلم- ومن تبعه من المؤمنين أن يقولوا وقوله حق: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ }(18 )
قال السعدي في بيانها ما مختصره: يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { قُلْ } للناس { هَذِهِ سَبِيلِي } أي: طريقي التي أدعو إليها، وهي السبيل الموصلة إلى الله وإلى دار كرامته، المتضمنة للعلم بالحق والعمل به وإيثاره، وإخلاص الدين لله وحده لا شريك له، { أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } أي: أحثُّ الخلق والعباد إلى الوصول إلى ربهم، وأرغِّبهم في ذلك وأرهِّبهم مما يبعدهم عنه.
ومع هذا فأنا { عَلَى بَصِيرَةٍ } من ديني، أي: على علم ويقين من غير شك ولا امتراء ولا مرية. { وَ } كذلك { مَنِ اتَّبَعَنِي } يدعو إلى الله كما أدعو على بصيرة من أمره. { وَسُبْحَانَ اللَّهِ } عما نسب إليه مما لا يليق بجلاله، أو ينافي كماله.
{ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } في جميع أموري، بل أعبد الله مخلصا له الدين.اهـ(19 )
اقسام الانحراف الفكري:
قلنا إن الغلو نوعين بصفة إجمالية اعتقادي كلي وعملي جزئي وقد بينا مفهوم كل منهما ونفس الأمر مع الانحراف في الفكر فهو قسمين إجمالاً وهما:
الأول: انحراف فكري عن الدين وثوابته ومثاله تأويل الآيات والنصوص النبوية علي غير معناها لغرض في النفس وخلاف ما اجمع عليه العلماء مع الإقرار بالنصوص وبتحكيم الشرع والإيمان بها وتتجلي أعظم مظاهره بكثرة الفرق والأحزاب والجماعات الضالة قليلة الفقه والبضاعة كثيرة المال والرجال وكذلك تحريض خطباء الفتنة وأهل الدنيا والاهواء والعصبيات وتمردهم علي العقيدة الصحيحة والمنهج القويم وربما يصل الأمر لسفك دماء بعضهم بعضاً ونهب أموالهم وانتهاك حرماتهم كما هو مشاهد في كثير من المجتمعات الإسلامية لأثبات الذات وحب السيطرة ونشر أيديولوجيتهم وافكارهم علي العامة والخاصة ويساهم في هذا الانحراف ضعف الدولة أو تهاونها علي مواجهتهم وعجز العلماء وغلبة أهل الاهواء من الحد من خطورته وعلاجه.
والثاني: انحراف فكري مادي وهو ما لا يعترف بتحكيم الشرع ويلحد في الدين ومثاله الفكر الوجودي والشيوعي وما أشبه ذلك.
هذا كله بصفة إجمالية وايجاز وسوف نخصص مقالات أخري في بيان تفاصيل هذا الغلو بنوعيه والانحراف الفكري بقسميه الديني والمادي لشدة خطورتهما على البلاد والعباد أن شاء الله تعالي في الحلقات التالية من البحث والله المستعان.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وآله وصحبه أجمعين، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
.
------------------------
(1 ) -انظر "لسان العرب" لابن منظور-(15/132) مختصراً وبتصرف –فصل الغين المعجمة-نشر دار صادر – بيروت- الطبعة: الثالثة - 1414 هـ
(2 ) - الكهف: الآيات من 103-105
(3 ) - انظر "تفسير القرآن العظيم "للحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي( 5 /202)-تحقيق سامي بن محمد سلامة-دار طيبة للنشر والتوزيع –الطبعة الثانية (1420هـ - 1999 م)
( 4) -أخرجه مسلم -(برقم/ 1401)- باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه
(5 ) - انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري(9/105) شرح حديث رقم (5063)-لابن حجر العسقلاني-نشر دار المعرفة - بيروت، 1379- ترقيم/ محمد فؤاد عبد الباقي
( 6) -النساء: 171
(7 ) - المائدة: 77
(8 ) - -انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 1283)-لمحمد ناصر الدين الالباني-نشر مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض- الطبعة: الأولى.
( 9) - النساء: 171
(10 ) -انظر اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم(1/ 328-329)-لشيخ الإسلام ابن تيمية -تحقيق :ناصر عبد الكريم العقل-الطبعة السابعة-نشر دار عالم الكتب-1419سنة هـ -1999م
(11 ) - الروم : 38
(12 ) - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن قيم الجوزية(1/281)-تحقيق محمد حامد الفقي نشر دار المعرفة-بيروت-سنة1395 - 1975
(13) - انظر مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين(9/368)- جمع وترتيب : فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان -الناشر : دار الوطن - دار الثريا- الطبعة : الأخيرة - 1413 هـ

(14 ) - انظر " مجموع الفتاوى" لابن تيمي(1/14) -تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم- نشر مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية-سنة: 1416هـ/1995م
(15 ) – المائدة:87
( 16) - نظر " تيسير الرحمن في تفسير كلام المنان" لعبد الرحمن بن ناصر السعدي (ص/ )- الناشر : مؤسسة الرسالة- تحقيق : عبد الرحمن بن معلا اللويحق- الطبعة : الأولى 1420هـ -2000 م.
( 17) - انظر المعجم الوسيط "مصطفى إبراهيم وآخرون" – نشر دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع –القاهرة- ص 167
(18 ) - يوسف: 108
(19 ) - الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي (ص/406-407 )- الناشر : مؤسسة الرسالة- تحقيق : عبد الرحمن بن معلا اللويحق- الطبعة الأولى 1420هـ -2000 م