المستشرقون والأفكار والأحكام المسبقة!!؟
22-05-2016, 12:37 PM
المستشرقون والأفكار والأحكام المسبقة!!؟

د. إسماعيل علي محمد



الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:



من ملامح منهج البحث الاستشراقي: اعتقاد أمور، وتكوين آراء وافتراضات مقدَّمًا، ثم التماس التأييد لها!!؟:
إن من مقتضيات البحث العلميِّ النزيهِ: أن يبدأَ المرء في بحثه لأمر ما، وهو خالي الذهن من أحكام مسبقة!!؟، ثم يكوِّنَ آراءه من خلال ما تجمّع لديه من أدلة ومعطيات، فيستخلص النتائج من المقدمات.
أما المستشرقون، فقد خالفوا هذا المنهج، واختاروا لأنفسهم منهجًا مغايرًا في الدراسات الإسلامية، حيث يقومون بالاعتقاد قبل الدليل، والاستنتاج قبل المقدمات!!؟، فيكون في رأس أحدهم فكرة مسبقة، ثم يحاول جاهدًا أن يلتمس لها الأدلة، ولو أدى ذلك إلى تشويه الحقائق، أو بتر النصوص، أو استخدام أية وسيلة غير شريفة.
يقول الدكتور:(حسين الهراوي):" إني لأعلم أن المستشرقين ينقصهم في مباحثهم عن الإسلام الروحُ العلميةُ، وإن لهم في الاستقصاء طريقة لا تشرِّف العلم، وهى أنهم يفرضون فرْضًا ثم يلتمسون الدليل عليه، فإذا وجدوا في القرآن: ما يَهدِم نظريتهم: تجاهلوه!!؟، والتمسوا الآيات التي تناسب المعنى المراد!!؟، ولا مانع من بترها إذا اقتضى الحال، أو تحريفِ معناها حسب الرغبة!!؟".[1].
" وعلى الجملة، فإن طريقة الاستقراء والاستنتاج التي يتّبعها أكثر المستشرقين: تذكِّرنا بوقائع دواوين التفتيش، تلك الدواوين التي أنشأتها الكنيسة الكاثوليكية لخصومها في العصور الوسطى، أي أن تلك الطريقة: لم يتفق لها أبدًا أن نظرت في القرائن التاريخية بتجرد، ولكنها كانت في كل دعوى تبدأ باستنتاج متّفَق عليه من قبل: قد أملاه تعصبها لرأيها".[2].

موقف المستشرقين منربانية الإسلاممثال على هذا النهج:
وقد برز هذا النهج الفاسد - على سبيل المثال - في موقف الجموع الغفيرة من المستشرقين من قضية ربانية الإسلام، ونبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهم يصرون على الاعتقاد بأن الإسلام ليس دينًا أوحاه الله إليه صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم - في زعمهم - لم يوحَ إليه بشيء!!؟.
ثم طفقوا يحاولون إثباتَ هذا الاعتقاد أو بالأحرى هذا الوهم، فقاموا بافتراض عدة افتراضات سلفا، ثم أخذوا يلتمسون لها الإثباتات والأدلة، فافترضوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لفّق الدينَ الذي جاء به، وهو الإسلام من اليهودية والنصرانية!!؟، وأخذوا يبحثون عن أدلة تثبت صلة الإسلام باليهودية والنصرانية -في زعمهم- حتى أعياهم البحث، ومِن حظِّهم العثِر: أن بحوثهم العريضة لتأييد افتراضاتهم السابقة: قد باءت بالفشل، ولم تَثبت أمام النقد العلميّ، وكلّلت الخيبة مساعيَهم الآثمة الخبيثةَ، وأبطل بعضهم حجةَ بعض!!؟، بل لم يَسْلم الأمر في بعض الأحيان من نقض أحدهم لما ذهب هو إليه من دلائل، حتى لكأنهم يتيهون في بيداء من الخرافات، أو يغرقون في بحرٍ متلاطم من التخبط والتناقض، ونعوذ بالله من الخذلان.
ومن الأمثلة على هذا المسلك ما فعله:( المستشرق اليهوديّ الألمانيّ : ولهلم رودلف) في كتابه:" صلة القرآن باليهودية والمسيحية"، حيث إن الأساس الذي قام عليه البحث هو: ما اعتقده المؤلِّف من أن القرآن من عمل محمد صلى الله عليه وسلم، ونتاج فكره!!؟، فذهب يبحث عن المصادر التي مدت النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المعلومات -في زعمه- فأتعبه البحث كثيرًا، ولم ينته به إلا إلى افتراضات لم يجد لها دليلًا!!؟[3].
وقد أفصح "رودلف" نفسُه عنهذا المسلك، فقال صراحة:
" إننا لمضطرون أن نفترض أن اليهودية والمسيحية قد عرفتا السبيل على نحو ما إلى مكة، التي يعنينا أمرُها كثيرًا، لأنها موطن محمد، وإن لم يكن ثَمّ ما يثبت أنه كان بها يهود أو مسيحيون في عهد محمد، ومن العسير أن نظن أنه كان بها كثير منهم، وإلا لاحتفظت لنا السير بأنباء إسهابًا مما تناهى إلينا ".[4].
فهو يعترف: أنه لم يكن في مكة أتباع لليهودية ولا النصرانية، لأن ما وصل إلينا من أنباء ليس فيها ما يشير إلى وجود أحدٍ من أتباعهما يمكن أن يتتلمذ عليه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ومع هذا، فهو يستمر في غيّه ولجاجته!!؟، ويحاول جاهدًا تلمّسَ ما يؤيد معتقدَه الفاسدَ، وظنَّه السيئَ في القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم.. فأين هذا من المنهج العلمي!!؟.
وقد سار على نفس المنهج:( المستشرق: ألويس اشبرنجر وهو: مستشرق بريطاني من أصل نمساوي، حيث كتب مؤلَّفًا عن حياة محمد، ولم يكن له من همِّ سوى البحث عن أي شيء يدعم بها ظنّه السيئ في الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي كوّنه سلفا، وأخذ يتخيل المساوئ والمعايب، ويلصقها بالنبي صلى الله عليه وسلم، لدرجة أنه قال -فيما رواه عنه:( المستشرق الألماني: جوستاف بفانموللر): " يجب على كاتب السيرة: أن يقوم بالدور الخبيث لممثِّل الاتهام، وأن يستخرجَ مساوئَ أخلاقِه (يعني: النبيَّ صلى الله عليه وسلم) من كلمات مدْح محبّيه".[5].
ولا عجب أن نرى:( المستشرقَ الألمانَّي: رودي بارت) يقول عن كتاب (اشبرنجر: حياة محمد):" إنه كتاب جاء مخيّبا للآمال في أكثر من ناحية، وأنه لم يراعِ شروطَ ولا متطلباتِ التقرير العلميّ".[6].
ونحن نسألالمستشرقين وتلامذتهم:
هل من طبيعة المنهج العلميّ ومقتضياتِه: أن يقوم الباحث بالدور الخبيث لممثل الاتهام، وينفِّذَ هذا الدورَ ببراعة، ويتعاملَ مع المعطيات بسوء نية، وخبث طوية؟!!.
وهل يقومالمستشرقون بتطبيق هذا المنهجعندما يدرسون أو يبحثون في شيء غيرالإسلام!!؟.
إن هذا المنهج في البحث – بحق - لَمنكرٌ قبيح.

الكتابة عنالإسلامبما تصوره المستشرقون، لا من واقع ما يعتقدالمسلمون:
إن من المبادئ الأولية للمنهج العلميِّ التي يجب إتباعها في معالجة الأمور التاريخية والعقدية ونحوها: أن يُقرِّر الباحث وجهة نظر من يكتب عنهم كاملة في وضوح، لا يكون معه مجال للغموض أو سوء التأويل، ثم إنْ بدا له راْيٌ مخالفٌ أو نقدٌ ما: ذكره على أنه رأيُه هو، وجعَله منفصلًا عن اعتقاد من يكتب عنهم، ويعرض مواقفهم وواقعهم.
ومن هذا المنطلق، فإن على المستشرقين حينما يكتبون عن الإسلام: أن يلتزموا الموضوعية والحقيقة في الحديث عن الدين الإسلامي، ويصوروا ما يعتقده المسلمون في دينهم ونبيهم وقرآنهم تصويرًا أمينًا صادقًا، فيكونوا أُمَناء في البحث، وهم أحرارٌ بعد ذلك في أن يعتقدوا ما يشاؤون!!؟.
" غير أن هذا المنهج المنطقيَّ والطبيعيَّ في العرض: قلّما يُتّبع مع الأسف، وكثيرًا ما يحدث العكس، فيتعرض القارئ نتيجة لذلك – ما لم يكن على علم - إلى شيء من الإيحاء برأي معين، أو يتعرض على الأقل إلى اختلاط في الأمور يجعله عاجزًا عن التمييز بين الأصل المتوارَث لدى جماعة المسلمين، وبين رأي الكاتب.
وهكذا نجد كثيرًا من المستشرقين الذين يُحمِّلون غيرَهم أعباءَ معارفِهم الخاصة: يُهمِلون ملاحظةً أوليةً للمنهج العلميّ في معالجة المسائل التاريخيةِ، فهم يؤكدون مثلا: أن القرآن من إنشاء محمد!!؟، ثم يذهبون مذهبًا بعيدًا في تأسيس الأحكام التاريخية والعقدية والأدبية وغيرها على هذا التأكيد، وسرْعان ما ترتفع هذه بمحض الشهرة إلى مرتبه الحقائق!!؟". [7].
إننا لا نطالب المستشرقين حينما يكتبون عن الإسلام بأن يعتقدوا ما نعتقد نحن المسلمين، ولكن نطالبهم بالأمانة؛ نطالبهم بأن يقولوا لقرّائهم: إنّ إيمان المسلمين بصدق نبيهم، وربانية رسالته وقرآنه هو: الأساس الذي يقوم عليه الكيان الإسلاميُّ كلُّه.

هوامش:
[1] موسوعة مقدمات العلوم والمناهج، أنور الجندي 4/848.
[2] الإسلام على مفترق الطرق، ص ٥٠.
[3] راجع: صور استشراقية، د. عبد الجليل شلبي، ص ٤٩ - ٩٥، حيث عَرَض بالتفصيل لمزاعم هذا المستشرق وافتراءاته، وبيّن تهافتَها وبطلانَها.
[4] السابق، ص ٥٠.
[5] راجع: الإسلام في تصورات الغرب، ص ١٦١ – ١٦٣.
[6] السابق، ص ١٦١ هامش، نقلًا عن: الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، للمستشرق "رودي بارت"، ص 23.
[7] المستشرقون الناطقون بالإنجليزية. ملحق بكتاب الفكر الإسلامي الحديث ص ٤83 – 484.