العــــــــصا البيــــــــضاء
05-07-2017, 11:55 AM
العصا البيضاء

مسح نظاراته السوداء بطرف ثوبه...
ثم أجال بصره يمينا و شمالا كأنه ينتظر أحدا.
أخيرا تسمر نظره في سماء صارخة الزرقة... الحق أن الرجل كان وسيما و أجمل ما في سحنته عيناه الزرقاوان .
كنت للتو قد جلست على مقعدي في هذا المقهى الأثير إلى نفسي ،و أنا ألتمس ظلا ألوذ به في هذا اليوم القائظ.
- ماذا تشرب يا سيدي ؟-
سألتني النادلة الأنيقة بصوت أنثوي رخيم يشبه واحة فيحاء في فلاة قاحلة.
قلت و أنا أتعمد إطالة الحوار حتى أمتع العين بمحاسنها إلى أقصى حد :
- أخشى ما أخشاه أن الشراب الذي أنشده غير متاح هنا-
- أطلب و سيجاب طلبك في الحين - ردت الفتاة في شرود.
- أبتغي شرابا أعد من الرحيق الذي يترنح فوق شفتيك – همست و أنا أغمز بعيني اليمنى .
بهتت الفتاة من طيشي و نزقي ..و تورم خذها بحمرة آسرة و قالت:
– أنت تبالغ يا سيدي . أنا في انتظار طلبك –
- بعض العصير المثلج من فضلك – أجبتها في حزم أخيرا.
كان صاحبنا قد ارتدى نظاراته مجددا و أخذ يرتشف قهوته قرير العين.
كانت أناقته محط إعجاب رواد المقهى.
ذقن حليق بعناية. بدلة باريسية فاخرة . وحذاء أسود لامع من روما.
طك..طك...طك ...طك...عادت النادلة ثانية تحمل إلي ذلك العصير المثلج و جديلتها المعطرة تتدلى في خجل على كتفها الأيمن .
أثلج صدري لقاءها مجددا...و رحت أفترس أنوثتها الفائرة بنظري الظمآن.
قالت و هي تبتسم و كأن الشمس قد أشرقت من شفتيها :
– ها هو ذا عصيرك يا سيدي . بالصحة و الهناء-
- أشكرك على كرمك الأميري يا آنستي – أجبتها ذاهلا.
و مضت الفتاة لحالها كالنسيم العليل...
و مضى قلبي يقفز في أثرها و أنا أحاول جاهدا أن أسترده إلى قواعده الجدباء فما أفلحت.
فرغ الرجل الأنيق من ارتشاف قهوته . كان جاثما على كرسيه قبالتي لا تفصلنا سوى أمتار قليلة.
أشعل سيجارا عملاقا كتلك السجائر التي يقتنيها المترفون من كـــــــــــــــــــــــــــــوبا...
أخذ يرنو إلي من خلف نظاراته المهيبة . اقتلعني سيل نظراته من النهر المخملي الذي كانت تسبح فيه أفكاري رفقة تلك الجديلة الآسرة...
أمعن صاحبنا في التحديق نحوي كأنه يعرفني . و ارتعت من ذلك الموقف ،و ساورني شك عارم .و هنا ألحت علي تلك المقولة الفلسفية ( أنا أشك إذن فأنا موجود )...
و سمعت هاتفا من أعماقي السحيقة يهمس:
– إن الرجل يدبر لك مكيدة فاحترس -
استحوذت الريبة على تفكيري ، و تمادى صاحب النظارات السوداء في تأملي دونما توقف ...
وأمسى المقهى خاليا من رواده ما عدا...أنا... و ذلك الشخص الغريب الأطوار .
وحيدين و متقابلين مثل ديكين متوثبين فوق هذه البقعة التي تئن تحت قيظ الشمس.
لقد تعكر مزاجي للغياب المفاجئ لتلك النادلة الفاتنة .و لافتقادي لتلك الجديلة المخملية.
أخيرا قررت أن أواجهه بنفس السلاح ...و أن أقاتل ذودا عن حصوني.
تطلعت إليه بعينين حانقتين . كان يرمقني رابط الجأش هادئ القسمات ..استفزتني نظاراته السوداء و أثارت حفيظتي بسمته الواثقة و توازنه المريب...
و شعرت بدماء غاضبة تسري في عروقي ...انقبضت عضلات وجهي و أفرجت عن سؤال مقتضب :
– ما الذي يحملك على أن تتطلع إلي؟ هل تعرفني يا هذا ؟ -
خمدت تلك البسمة بين شفتيه ...لكن نظراته المتلاحقة نحوي لم تنقطع قط حتى كدت أن أفقد أعصابي ...
قلت في ضجر:
- لا أعتقد أنك أخرس كي لا تحفل بسؤالي ..أجب لم لا تتوقف عن التحديق في وجهي؟ -
أخرج صاحبنا قطعة نقدية و وضعها على الطاولة ثمنا للقهوة .
وانتصب واقفا بعد جهد شاق و هو يستند على كرسيه...ثم أخرج عصا بيضاء اللون ،و مضى يتلمس الطريق بتلك العصا خشية أن يسقط أو مخافة أن يصطدم بتلك الكراسي المتناثرة ..
ذهلت حقا و تملكني الخجل من نفسي .. كانت أول و آخر جملة نطق بها قبل أن يمضي: – لا حول و لا قوة إلا بالله –
التعديل الأخير تم بواسطة أبو المجد مصطفى ; 08-07-2017 الساعة 06:57 PM