عندما تنزف الشمس
09-06-2017, 08:08 AM
عندما تنزف الشمس

هواء مارسيليا يحملك إلى عوالم من الخيال و الفن و الرسم و الموسيقى و الجنون..
و يضعك بين قامات شامخة مثل فولتير و بيكاسو و ألبير كامو و موزارت.
مرسيليا كتاب مفتوح على الشمس و البحر لا يسأم المرء من التقلب بين أوراقه و تلمس سطوره.
مرسيليا تسكن الأنين حينا. و تحتضن نشوة الفرح أحيانا كثيرة...
لا زالت تفصلني عن موعد القطار دقائق طويلة. اليوم هو موعد الامتحانات و يجب أن أصل في الوقت المضبوط..
قلبت بصري في هذه الجمجمة العظمية القابعة بجانبي. فحصتها من كل الجوانب..
لقد كانت رأس أنثى أو رجل في ما مضى ...لا أدري.
في يوم من الأيام كانت تزدحم بالأفكار و الآمال و الحسابات و مشاريع الحب و ذكريات الفشل...
اشتريت تلك الجمجمة من تاجر هندي كان يتجول دائما في أحياء الأفارقة جنوب مارسيليا...
الحق أن تلك الجمجمة أفادتني كثيرا في استيعاب محاضرات الجراحة و الطب..
القطار كان يلتهم المسافات التهاما. في الأفق البعيد يسترخي البحر الأزرق ليحرس مارسيليا مثل عسكري وفي.
من زجاج القطار تتسلل إلى أنفي رائحة القواقع البحرية و زوارق الصيد المتناثرة كما قطع اللؤلؤ...
ما أروع عطر مرسيليا مع لحظات الفجر...سوف يصل القطار إلى كلية الطب بعد قليل.
رمقتها من بعيد. كانت ممددة على المقعد و قد أنهكها الإرهاق..
بدا لي أنها لم تتذوق نكهة الرقاد ليومين كاملين...تضم إلى صدرها حزمة من الكتب و الدفاتر.
كانت جميلة جدا و ملامحها تدل على أنها من الشام..
اقتربت من الفتاة أكثر. فستان مهتريء تعتليه القذارة و حذاء بالي من موضة قديمة جدا.
انكسر قلبي أمام ذلك المشهد البائس..لكن الفتاة انتبهت من غفوتها و قالت بصوت خفيض و آسر:
- لم تحدق في وجهي هكذا ؟ هل تعرفني ؟-
أجبتها و قد استبد بي شيء من الخجل:
- معذرة على جرأتي. لكن قلبي رق لحالك –
فاضت العبرات من جفنيها الجميلين و راحت تنتحب بحرارة و اشرأبت نحونا رقاب المسافرين و تملكني حرج شديد.
جلست بجانب الفتاة . رائحة العرق كانت تبعث من فستانها المترهل. ربما لم تغتسل منذ أمد سحيق ..
لكن شعرها السرمدي الذهبي ابتلع كل تلك العيوب و النقائص.
مسحت الدموع بكفيها و قالت و هي تحرص ألا يستمع إليها أحد غيري:
- أدرس في السنة الثانية صيدلة. و طردوني من المدينة الجامعية فليس لدي نقود-
سكتت قليلا و أردفت:
- أعيش في العراء وسط هذا العالم المترع بالذئاب-
- لم أتذوق طعم الرغيف منذ أيام و سوف يفصلونني من الجامعة إذا لم أسدد مستحقات الدراسة –
و سرعان ما أجهشت الفتاة مرة أخرى بالبكاء. ثم أمسكت بيدي برفق و قالت :
- سيدي أنت فتى شهم. أرجوك ساعدني –
منحت تلك الأنثى شيئا من المال. ودعتها و قد تركت عندها نصف قلبي.
و لاحقا استثمرت علاقاتي و طرقت أبواب معارفي و عادت الفتاة إلى مزاولة الدراسة و رجعت منتصرة إلى المدينة الجامعية...
انسلخت أيام الامتحان ببطء يحاكي مسير السلحفاة.
و ذات مساء دخل علي صديقي كمال مصافحا و هو يصيح :
- أهلا بالطبيب الطازج. سوف نحتفي الليلة بنهاية العذاب و الامتحانات-
و همس في سمعي بهدوء و ثقة :
- راقصة جديدة أقبلت من الشام إلى ملهى " مولان غوج " –
كمال يحفظ كل أسماء الملاهي المنتشرة في مدينة مرسيليا مثل الفطر البري ..
أمسك بيدي و أرغمني على دخول ذلك الملهى المتواري وسط ظلام الأزقة.
كان الملهى مكتظا بالرواد..ظفرنا بطاولة في أقصى القاعة و دخلت الراقصة و ضج المكان بالهتاف.
قال كمال و هو يغمز بعينه اليمنى:
- أحلام قنبلة شامية بأتم معنى الكلمة. سوف تروقك كثيرا –
سلطوا الأضواء على الراقصة الفاتنة أحلام..
حدقت في الفتاة طويلا واختلج قلبي و تسارعت نبضاته و جف الريق في حلقي و شعرت كأن الكرة الأرضية توقفت عن الدوران إلى ما لا نهاية
.