تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
  • ملف العضو
  • معلومات
أبو المجد مصطفى
عضو فعال
  • تاريخ التسجيل : 28-03-2016
  • المشاركات : 191
  • معدل تقييم المستوى :

    9

  • أبو المجد مصطفى is on a distinguished road
أبو المجد مصطفى
عضو فعال
جحــــود
04-09-2017, 10:34 AM
جحــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــود

جلس يرتشف قهوة المساء و هو يرمق السيارات التي يئن بها هذا الشارع الصاخب أبدا ..
هنا يتعانق العرق و الدخان و الجلبة و البشر فتحيل المكان و الزمان إلى سيمفونية مسرحية لا تنتهي...
يشاهد أطوار تلك المسرحية ذلك البواب و يفكك طلاسمها بسهولة و يسر و هو يرتشف من ذلك الفنجان الأثير إلى نفسه...
كان العم زيدان –و هو الاسم الذي كنا ندعوه به- ملازما للعمارة و حارسها الأمين ،فهو يعرف قاطنيها فردا فردا .بل يعرف أقاربهم و أصدقائهم أيضا.
لقد أمضى الرجل سنوات موغلة في الطول من عمره في ذلك المكان و بات موضع إكبار و تقدير الكبار و الصغار جميعا.
أخذت مقعدي إلى جواره فلقد كنت آنس بحلاوة حديثه و جمال معشره ...
ناولني فنجان مترعا من قهوة باذخة. رنوت إلى تلك التجاعيد التي سلكت لها أخاديدا غائرة في جبينه الأسمر... وسرعان ما قرأت بين التواءاتها مروءة أهل الريف و طيبتهم .
سألته: منذ متى قدمت من قريتك إلى هذه المدينة الرحيبة و الصاخبة؟
أجاب الرجل مبتسما و كان ذلك دأبه دوما : منذ أكثر من عشرين سنة أو يزيد.
صمت الكهل كأنما يعتصر ذاكرته و ينبش في دفاتر الماضي السحيق و قال بعد لأي: قبل هذا كنت في القرية مع شقيقي الأكبر أقاسمه المسكن و المتجر،و حين طالبته بنصيبي في أموال التجارة ماطلني و التوى علي بالمال ثم طردني و أهلي من المسكن . فلم أجد بدا من الضرب في الأرض و التماس عمل و بيت يأويني ،ووجدتني في هذه المدينة حارسا لهذه العمارة.
و قاطعته مغضبا : ما الذي حملك على أن تذعن لطيش أخيك؟ و لماذا لم تشتكي به و تسترد حقك و حق بنيك ؟.
تطلع الكهل إلى العصافير المحلقة فوق الشجرة السامقة في الرصيف المقابل ..
تلك الشجرة تكاد تعانق سقف السماء الصقيل وتتذوق زرقته الأزلية ..و قال :لست من طينة الرجال الذين يكثرون الشكاة أو يتسكعون في أروقة المحاكم و إثارة الخصومة.
سبح الرجل في واحة من الصمت الطويل .ثم نطق بعد أن اعتراني اليأس من أنه لا ينطق: أتعلم يا صديقي أن تلك الشجرة المنتصبة أمامك هناك نمت و ترعرعت بين ناظري.
غرسوها فسيلة ضعيفة وطرية العود . لقد كانت شيئا يعبث به الصغار و تتحرش به الهوام و هاهي اليوم كائن آخر ينتفع منه الجميع.
سيو..سيو..سيو..أمعنت العصافير في طيرانها حول الشجرة المورقة. كانت شامخة كما الطود. و الحانية كالأم الرءوم .. .
همست للرجل: و ما أخبار و لدك حسان فقد أطال المكث هناك في المهجر ؟.

كان الكهل لا يزال بصره متسمرا على الشجرة و أطيارها و أجاب و هو يدس رقبته في جوف معطفه من شدة البرد : عشرة أعوام كأنها قرون أنفقها في تلك البلاد البعيدة دارسا للهندسة ،لكن ما يمعن في إيلامي و وحشتي هو انقطاع رسائله منذ فترة طويلة.
توقفت سيارة أمامنا و فزع البواب إلى السائق بعد أن استأذنني ...
جاءني يحمل رسالة في يده بعد أن ودع السائق بحرارة. قال لي و قد أشرق وجهه بالسعادة : سي أحمد أنت رجل مبارك و فأل خير. هذا كتاب من ولدي حسان أسألك أن تقرأه لي.
سعدت كثيرا لفرحة هذا الرجل الطيب ...
إن سعادته بلا ريب تفوق فرحة تلك العصافير التي تقفز جذلانة على الأغصان ... قرأت الرسالة في روية و البواب يرمقني بعينين يتلألأ منهما الفرح و الحبور حينا و الترقب و الإشفاق من المجهول حينا آخر...
قلت : أبشر يا عم زيدان إن ولدك قد نال شهادة الهندسة و سوف يكون بين أحضانك قريبا.
و هنا تزاحمت أدمع الفرحة في مآقي الرجل .أخذ يشكرني بكل مفردات الثناء و الشكر..
في مساء بارد و كثيف الضباب .جلست إليه كعادتي نحتسي فناجين القهوة التي تجيد زوجه إعدادها .
و فجأة قطع علي نشوة استمتاعي بنكهة تلك القهوة الفاخرة قائلا : أنظر إلى تلك الشجرة ،لقد هجرتها العصافير اليوم.
أدهشتني ملاحظته النفاذة والتي غفلت عنها.. بدت الأغصان شاحبة و خالية من الأوراق و مرح الأطيار الجميلة..
و أجبت ذاهلا : مثلها كمثل الأم المرتاعة لفقد أبناءها في يوم عاصف مطير .
قال الرجل متأثرا و كأنني لمست وترا آلمه : أتدري كم أشتاق للقاء حسان ؟ بل إن البكاء يغالبني أحيانا لولا أن أتحلى بالصبر و أواسي النفس بأن حسان هناك من أجل الدرس و التحصيل و سرعان ما يؤوب إلى موطنه و إلي .
في هذا الحين كانت تلك الشجرة تتهادى على عزف منفرد لريح هينة تداعب الأفنان الشاحبة أملا في أن ترد إليها الحياة. و تدفع عنها سطوة الخريف الذي بدأ يزحف رويدا رويدا حاملا معه الوحشة و البرد و الصمت و المجهول.
و هممت بالحديث....لكن(بيب...بيب...بيب...بيب) توقفت قبالتنا سيارة فارهة تبهر الألباب ...
انتصب عم زيدان كعادته حين يقرع سمعه منبه السيارات...تماما كما يفعل منبه بافلوف في تجارب علوم الأحياء...
راح يتفرس في هوية الشخص الذي يقود المركبة ،و حدق في ملامحه و أمعن في التحديق حتى أدهشني أمره .ثم أفرج بعد لأي عن صيحة ضج لها المكان : من؟ ولدي حسان ؟ مرحبا بك يا قرة عيني.
و هرع إلى فتح باب السيارة و نزل شاب وسيم الطلعة و أنيق الثياب ،و راح الوالد يقبل ولده في سرور و سعادة عارمين و أخذ يتلمس شعره و وجهه و يديه ... لكن قسمات الشاب كانت كالجليد يكتنفها البرود و عدم الاكتراث. .
قال الولد بعد أن تطلع إلى الرجل مليا : أما زلت قابعا أمام هذه العمارة تحرسها مذ تركتك ؟؟؟.

وقف عم زيدان ذاهلا أمام هذا الاستقبال الجاف و هذه الرعونة القاتلة... قال و قد تلاشت البسمة من وجهه للتو مثلما يتلاشى النهار أمام زحف الليل :أجل يا بني لا زلت بوابا ،و بفضل راتبي الزهيد أتيح لك أن تدرس هناك في المهجر.

قال المهندس في ازدراء قاتل و هو يركب سيارته الفارهة : أرجو منك أن تتخلى قريبا عن هذه الحرفة البغيضة . فأنا أكره أن يعلم صحبي أن أبي بواب..
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية بلحاج بن الشريف
بلحاج بن الشريف
عضو فعال
  • تاريخ التسجيل : 31-07-2015
  • الدولة : الجزائر
  • المشاركات : 345
  • معدل تقييم المستوى :

    9

  • بلحاج بن الشريف is on a distinguished road
الصورة الرمزية بلحاج بن الشريف
بلحاج بن الشريف
عضو فعال
رد: جحــــود
04-09-2017, 09:44 PM
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو المجد مصطفى مشاهدة المشاركة
جحــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــود


جاءني يحمل رسالة في يده بعد أن ودع السائق بحرارة. قال لي و قد أشرق وجهه بالسعادة : سي أحمد أنت رجل مبارك و فأل خير. هذا كتاب من ولدي حسان أسألك أن تقرأه لي.


رائع هذا المقطع من الأقصوصة المشوقة ،
يذكرنا بذلك الزمان الجميل الذي كانت فيه الرسالة سيدة في التواصل ، لا ميساج و لا فيسبوك و لا بورطابل ... كانت الرسالة المكتوبة رسول الحب و المودة و البشارة ... كم كنا نسعد و نتفاءل برؤية موزع البريد متوجها نحو حينا .. لعله يحمل لنا رسالة من حبيب ..

بارك الله فيك يا سي مصطفى ، قصة هادفة جدا ، و يبدو أن العم زيدان ، كُتب عليه أن يقضي حياته متنقلا من صدمة إلى صدمة محزنة .. بعد صدمة تنكر الأخ الشقيق له ، يصدم بتنكر فلذة كبده .. كان الله في عونه ..
هذه الظاهرة ، ظاهرة تنكر الأبناء لأبائهم بسبب وضعهم الاجتماعي البسيط قديمة جدا في كثير من المجتمعات على اختلاف أجناسها .. سببها ضعف الوعي و النضج الفكري ، الذي يتحمل جزء من مسؤوليته الأولياء في تنشئة أبنائهم على الاعتزاز باصولهم و الرضا بنصيبهم من الحياة .

بلادي و إن جارتْ علي عزيزة ٌ** و قومي و إن ضنوا علي كِرامُ
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 


الساعة الآن 10:52 AM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى