~ اَلأَرْض ~
26-03-2015, 04:15 PM
~ اَلأَرْض ~

_ ما الذي ينقص الأرض لِكي تُنبت يا جَدي ؟
_ نَنقُصها نحن يا بُنيّ !
_ كيف ذلك ؟ لقد زرعنا فيها البذور و سقيناها ، فمَاذا بقي لنا لِنصنعه ؟
_ بقيَ لنا أن نذوب فيها لكي نُعيد تنشئتها من جديد !
فجأة ؛ انتبه الجدُّ عَمار إلى وجه حفيده المذهول ، و تذكر أنه ما زال طفلا بريئا ، و لا داعي لِدفع تفكيره إلى هموم الحياة ، و مشاكل " الأرض " تُربة و زراعة ، فانفجر ضاحكًا يُغيّر مجرى الحديث :
_ إِنني أُمازحك يا صغيري ، أسرع الآن و انظر إذا كانت جدتك قد أنهت تحضير مائدة الغداء .
ابتسم باسم بعفوية ، قبّل جده و غادر يترنح و يشدو ألحان الطفولة ، لقد نسي كلّ ما سمعه قبل قليل ، كم هي جميلة الشكوى للأطفال – بعد الله تعالى - ، أن تتحدث بكل ما يختلج قلبك ، بكل ما يضيق به خاطرك ، و بجميع ما يعتصر روحك . أن تهذي لمخلوقات ملائكية صغيرة لا تنفك تبتسم لك ، كأنها لا تُبالي بشيء ، أو ربما تُريد التخفيف عنك ، و حتى إن تعجبت من حديثك ؛ فتعبيرات استغرابها تُثير البهجة .
الأطفال زينة الحياة الدنيا ، و باسم قلب والديه ، و النبض الذي تبقى في جديه ، شاء الله أن يكون وحيدا ، بعد أن تعرضت أمه لحادث أدّى إلى انعدام فرصتها في الحمل مُجددا ، لينال بذلك كل الدلال و الحب ، و أيضا النصيب الأكبر من الوحدة على مستوى العائلة و المدرسة ، لحدّ الآن جده هو صديقه الوحيد إن أمكن قول ذلك .
_ جدي ! لقد ساعدتُ جدتي في ترتيب المائدة .
_ أحسنت يا صديقي البطل !
_ تناولا الآن الغداء ثم أكملا أحاديثكما التي لا تنتهي لاحقا .
_ دعينا و شأننا يا امرأة ، لقد اشتقتُ لحفيدي .
_ لا تنسى أنه حفيدي أيضا ، لقد أخذته معك صباحا إلى الحقل ، لذا سيذهب معي فيما بعد إلى خمّ الدجاج ليُخبرني عن مغاماراته .
_ بالتأكيد لن أسمح بذلك !
يُتابع باسم باستمتاع و مرح حوار جديه ، يُعجبه أسلوب كلامهما ، احترامهما لبعضهما ، اهتمامهما لبعضهما ، يُعجبه شيء آخر لا يعرفه بعد ؛ حبهما و وفاؤهما لبعضهما .
_ الأمر لا يعود إليك ؛ باسم هل تود الذهاب مع جدك أم مع جدتك ؟
_ مع جدي ، إلى الحقل !
_ لكن الدجاجات أخبرتني أنها مُشتاقة إليك كثيرا .
بدت على وجهه ملامح التفكير كالكبار ، ثم أطرق يهز كتفيه :
_ ممم حسنا إذن ، سأزور الدجاجات .
علتْ أصوات الضحك ذلك البيت الخالي من الضجيج بغير طفل في داخله ، و هكذا قرّر باسم أن يُمضي بقية اليوم مع جدته ، دون أن ينسى أنه سيعود بعد غد إلى المدرسة ، هو تلميذ مُجتهد يُحبّ طلب العلم لكنه يُحبذ لو يبقى أكثر مع جديه.
الزمن بطيء جدا ، أو رُبما هو أسرع من اللازم ، ها هو ذا الجد يجلس وحيدا في الحقل ، إلا من بعض أسراب الطيور المُهاجرة ، و أحاديث التشجيع و التنافس بين البذور ، يتذكر كيف كان - بالأمس فقط – والد باسم يلعب بين الزّرع و يتحدّى " الفزّاعة " . رُبما لهذا يُحبّ الأجداد أحفادهم ، يُعيدونهم إلى زمن مضى ، يرون فيهم براءة أبنائهم قبل أن تفعل فيهم الحياة فعلتها الشنيعة ، والد باسم بار بوالديه ، لكنه مُتكبر عن أمه الأرض ، كثيرا ما يتجادل مع أبيه حول هاته الحقول التي يلهث وراء تهيئتها و زراعتها ، يبذلُ لها الوقت و الجهد و يخسر صحته دون نتائج جيدة أو تحقيق أرباح كبيرة ، الأرض في نظر الجد هي الدم الذي يجري في عروقه ، يجب العمل لها و إفناء العمر في خدمتها دون مُقابل ، بل إن هذا واجبٌ مُقدس على أمل أن تُسامحنا ذات يوم و تحيا لنا من جديد ، أمّا ابنه فلا تعدو عنده مُجرد مساحة بيع و شراء ، بما أنها ليست خصبة كثيرًا فالأفضل استثمارها في مشاريع صناعية و التخلي عن فلاحتها .
الدجاجات أيضا تهيم بأرضها حُبا ، دائما تلثمها و هي تقتاتُ منها ، و باسم يُحب التربة التي يلهو بها بحرص شديد ، لِيُحافظ على نظافته . جدة باسم عجوز قوية ، تعصب رأسها دوما بمحرمة ، تعتني بدجاجاتها ، و تصنع " الطواجين " لأهل القرية ، حكيمة و خفيفة الظل و يُصاحبها الجميع .
_ جدتي ؛ ماذا ينقص الأرض لكي تُنبت ؟
_ ماذا تقصد ؟ !
_ قال جدي أننا يجب أن نذوب فيها ، ماذا يعني هذا ؟
دُهشت الجدة ، هي بالتأكيد تعلم ماذا يريد بهذا الحديث ، فالمرأة هي بيت أسرار زوجها و موطن أحزانه و أشجانه ، لا شك أن قلب عمار يحترق على أرضه ؛ ما دفعه إلى هذا الإدلاء الخطير لطفل صغير .
دعوني الآن أتراجع عمّا قلته قبل قليل ، يجب أن نكون أكثر حرصا في الأشياء التي نقولها للأطفال ، فقد ينسونها لبعض الوقت ، لكن عقلهم يستمر في البحث عنها ، و مُحاولة تفسيرها بأي موقف قد يُصادفهم في الحياة ، و حين ينضجون كليا سيفهمونها بعمق أكبر .
_ جدتي ، إنه أذان المغرب .
_ أجل يا ولدي ، اذهب إلى جدك لتقصدا المسجد .
_ حاضر !
احتست العائلة الصغيرة شوربة الجدة اللذيذة و خلدت للنوم بعد أداء صلاة العشاء .
القرية تستيقظ باكرًا ، تُشمّر عن ذراع الجدّ و تطرح عنها ثوب الكسل ، يستمتع باسم بمشاهدة شروق الشمس ، و يُعكّر صفوه انتهاء عطلته الأسبوعية ، حضر والدهُ صباحًا لاصطحابه إلى المنزل ، و عندما كان يُعانق جدته و يودعها ، تنحنح جده و قال :
_ في العطلة الربيعية يا بني ، أرجو أن تأتوا جميعكم لقضاء بعض الوقت هنا ، فقد اشتقنا لكم ، و الأرض كذلك !
ابتسم الوالد مُجاملاً و تمتم :
_ إن شاء الله .
في طريق العودة ، كانت عينا باسم مُتسمرتان على كل شيء في القرية ، كأنه يُودعها و يُقبلها جميعا ، و نفسهُ مُتقدة بالهمة و العزيمة ، لوعد والده له بأن يُعيده في العطلة في حال تفوقَ في دراسته .
حلّت العطلة أخيرا ، و في ذات صباح ربيعي جميل ، كان باسم يلهو كعادته في الحديقة الخلفية للمنزل ، عندما سمع صوت نحيب من داخل البيت فدلف مسرعا ، وجد جارتهم تتحدث الى أمه التي غرقت في البكاء بعد أن نقلت لها الخبر ، تعجب من هذا المنظر وتوجه إلى أمه ببراءة :
_ لماذا تبكين يا أمي ؟ الكبار لا يبكون !
كفكفت الوالدة عبراتها وأجابته وهي تشهق :
_ لقد توفي جدك يا بني .
_ وماذا يعني ذلك ؟
احتضنته بقوة كأنها تطلب منه أن يواسيها و يسري عنها :
_ جدك عمار مات وغادر هذه الحياة ولن يعود اليها أبدا .
_ و أين سيذهب ؟
_ إلى الجنة ان شاء الله .
سمع باسم صوت فتح الباب فجرى يستقبل والده الذي امتقع وجهه ، و توجه إلى الداخل مُباشرة و هُو يُردد :
_ إنا لله و إنا إليه راجعون ، لله ما أعطى و ما أخذ .
_ جهزي نفسكِ ، يجب أن لا نتأخر أكثر !
كان العزاء بسيطا و لائقا في نفس الوقت ؛ بمن أفنى عمره في خدمة الأرض ، حضر كل من في القرية ، و توافد الخلان من خارجها أيضا . كانت الجدة و زوجة ابنها تتوسطان الغرفة التي تجمعت بها النسوة اللاتي أحطن بهما و أخذن يُذكرناهما بوجوب الرضى بقضاء الله و قدره . لاحظ باسم اختفاء جميع الرجال وقت صلاة الظهر و لم يعودوا إلا بعد مدة من الزمن ، و عندما استفسر قيل له أنهم ذهبوا ليدفنوا الجد عمار ، فمصيره كمصير أي إنسان ؛ يحفرون له حفرة يضعونه فيها و ينصرفون ، و لا يبقى معه شيء سوى ما عمل من خير أو شر . لم يفقه باسم الكثير ، لكن عقله ظل مشغولا بفكرة الدفن ، و سرعان ما صرّح بما يشغله فور وصول أبيه :
_ أبي ؛ قُل لهم ألا يبكوا على جدي لأنه حقق ما أراده .
_ ماذا تقول يا بني ؟ !
_ أجل لقد فعل ذلك من أجل الأرض !
_ لقد قال جدي أننا يجب أن نذوب في الأرض ، لكي تُسامحنا و تُنبتَ لنا ما نُريد .
خيّم السكون الكوني على كل القرية ، و همّت الشمس بالغروب باكرًا ، حدّق الحاضرون ببعضهم البعض في حيرة و دهشة ، و ما زال هذا الطفل الصغير يُردّد عليهم أمنية جدّه و العبرات تخنقه ، حزنا على جده و على ذلك الشيء الذي لا يعرف معناه بعد ( الأرض ) .


بقلمي
بروال آمال
ديسمبر 2014


التعديل الأخير تم بواسطة بـــروال آمـــال ; 26-03-2015 الساعة 04:20 PM