متى رجع المسلمون من الحبشة؟
12-03-2017, 11:28 AM




اشتهر بين مؤرخي السيرة أن المهاجرين هجرة الحبشة الثانية قد رجعوا إلى المدينة في العام السابع من الهجرة، والواقع أن هذا هو جزء من الحقيقة، أما الحقيقة كاملة فإنهم رجعوا على فترات مختلفة، يمكن أن نحدِّد منها ثلاثًا على الأقل..

أما المجموعة الأولى فقد رجعت مبكرًا جدًّا؛ وذلك بعد حوالي عامين من هجرتهم؛ أي في أوَّل العام الثالث عشر تقريبًا!

يُؤَكِّد هذا الكلام أم سلمة رضي الله عنها حيث ختمت روايتها عن الحبشة بقولها: «حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ بِمَكَّةَ». فهذا تصريح بالعودة إلى مكة، وفي رواية ابن إسحاق تفصيل آخر حيث قالت: «ثُمَّ أَقَمْنَا عِنْدَهُ حَتَّى خرج من خرج منا إِلَى مَكَّة وَأقَام من أَقَامَ».

فمجموعة من المسلمين -كان فيها أم سلمة رضي الله عنها وزوجها- عادت إلى مكة المكرمة، ومجموعة أخرى أقامت مدَّة أطول في الحبشة كما سيتبيَّن.

ويُؤَكِّد -أيضًا- هذا الأمر أننا اطَّلعنا على عدد من قصص الهجرة من مكة إلى المدينة، يُشارك فيها فريق من الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة قبل ذلك؛ مما يُؤَكِّد أنهم عادوا إلى مكة، ثم انطلقوا منها إلى المدينة، ومن هؤلاء أبو سلمة وأم سلمة رضي الله عنهما، وقصة هجرتهما إلى المدينة من مكة مشهورة؛ ومنهم عثمان بن مظعون رضي الله عنه الذي كان من أوائل مَنْ مات بالمدينة فهذا يعني أنه أتى مكة أولًا ثم هاجر مبكرًا إلى المدينة، ومنهم عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي هاجر كذلك إلى المدينة من مكة مع زوجته رقية رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكر ابن إسحاق أن العائدين إلى مكة كانوا ثلاثة وثلاثين؛ ولكنه ذكر ذلك بغير سند، فالله أعلم[1].

وسوف نتعرَّض لما حدث لبعض هؤلاء عند الحديث عن الفترة التي رجعوا فيها إلى مكة بإذن الله.

أما لماذا عادوا إلى مكة؟ ولماذا ذكرنا أن هذه العودة غالبًا ما كانت في أول العام الثالث عشر من البعثة؟ فهو بسبب أنهم سمعوا على الأغلب ببيعة العقبة الأولى، التي كانت في آخر العام الثاني عشر من البعثة؛ ومن ثَمَّ فقد اطمأنوا إلى وجود مكان آخر يمكن أن يُهاجروا إليه، وهو المدينة؛ وذلك في حال تعرُّضهم للأذى مرَّة أخرى في مكة بعد عودتهم، ولقد تعرَّضوا للأذى فعلًا بعد العودة، ولم يجد أبو سلمة بن عبد الأسد مَنْ يُجيره بعد وفاة أبي طالب، الذي أجاره بعد رجوعه من هجرة الحبشة الأولى، فقرَّر أن يُهاجر إلى المدينة؛ وذلك قبل بيعة العقبة الثانية بعام، كما تقول رواية ابن إسحاق حيث قال: «فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَاسْمُهُ: عَبْدُ اللهِ، هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ بَيْعَةِ أَصْحَابِ الْعَقَبَةِ بِسَنَةٍ، وَكَانَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا آذَتْهُ قُرَيْشٌ وَبَلَغَهُ إسْلَامُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الأَنْصَارِ، خَرَجَ إلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا»[2].

ففي هذه الرواية يتَّضح أن أبا سلمة رضي الله عنه هاجر قبل بيعة العقبة الثانية بسنة؛ أي بعد بيعة العقبة الأولى بقليل، وهذا يعني أن هذا كان هو زمن العودة إلى مكة، وسوف نتناول هذه الفترة بتفصيل أكثر لاحقًا إن شاء الله.

كانت هذه هي المجموعة الأولى من العائدين إلى مكة.

أما المجموعة الثانية فقد عادت إلى المدينة بعد سماعها بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ». فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ المَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ إِلَى المَدِينَةِ[3].

فهذه الرواية تذكر أن «عامَّة» المهاجرين إلى الحبشة قد عادوا إلى المدينة في أول أيام الهجرة النبوية إليها؛ ولذلك نرى الكثير من أسماء المهاجرين إلى الحبشة موجودة في أحداث المدينة الأولى، كغزوتي بدر وأُحُد وغيرهما؛ ومنهم على سبيل المثال: الزبير بن العوام، وعبد الله بن جحش، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم رضي الله عنهم جميعًا.

وقد تأخر عن هؤلاء قليلًا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ لكنه لحق بهم قبل بدر؛ حيث يقول في روايته عن الحبشة: «ثُمَّ تَعَجَّلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَدْرَكَ بَدْرًا»[4]. وهو يقصد هنا التعجل عن جعفر رضي الله عنه ومن مكث معه في أرض الحبشة إلى العام السابع من الهجرة، وكلمة: «حَتَّى أَدْرَكَ بَدْرًا». توحي أنه وصل قبيل بدر بقليل؛ أي في العام الثاني من الهجرة، وليس عند أولها.

أما المجموعة الثالثة فهي التي مكثت في الحبشة حتى أواخر العام السادس من الهجرة أو أوائل العام السابع، ويقودها جعفر نفسه رضي الله عنه، ومعه زوجته أسماء بنت عميس، وأبو موسى الأشعري وبعض أصحابه رضي الله عنهم جميعًا، ويبدو أنه من حينٍ إلى آخر كان يتركهم بعضهم إلى المدينة؛ لأن هذه المجموعة الأخيرة كانت ستة عشر رجلًا فقط كما ذكر ابن إسحاق، ومعهم أربع نساء تقريبًا وخمسة أطفال[5].

فهؤلاء هم مجمل مَنْ هاجروا إلى الحبشة في الهجرة الثانية، وكانوا يحملون همَّ الحفاظ على الدعوة، والاطمئنان إلى وجود بؤرة دائمة تحمل الإسلام، وقد كانوا يعودون إلى مكة أو المدينة حسب الظروف والأحداث، وأعتقد أن ذلك دومًا كان بأوامر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يرد في السُّنَّة أنه عاتب أحدهم على عودته مبكرًا أو متأخرًا، فسكوته على ذلك يؤكد معرفته ورضاه، وهذا الرجوع الممنهج متوقَّع بعد مشكلة العودة من الهجرة الأولى للحبشة، التي صاحبتها آلام كثيرة نتيجة عدم التحقق من الأمر قبل العودة، فاستفاد المسلمون من الدرس، وجاءت الهجرة الثانية ناجحة بكل المقاييس.

وما أجمل أن نختم هذه المسألة برؤية متفائلة لعبد الله بن الحارث السهمي رضي الله عنه، وهو أحد المهاجرين إلى الحبشة، وهو يتحدَّث عن هذه الفترة في حياة المسلمين بحبٍّ كبير، وعاطفة جياشة؛ بل يحضُّ المسلمين على ترك البلاد التي يتعرَّضون فيها للأذى، والهجرة إلى أرض الله الواسعة..

يقول عبد الله بن الحارث رضي الله عنه:

يَا رَاكِبًا بَلِّغَــــنْ عَنِّي مُغَلْـــــــغَـــلَـــــــــــةً[6] *** مَنْ كَانَ يَرْجُــــــــو بَلاغَ اللهِ وَالدِّينِ

كُلَّ امْرِئٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ مُضْطَـــــــــــــــــــــــهَدٍ *** بِبَطْنِ مَكَّةَ مَقْهُـــــــــــــــورٍ وَمَفْتُونِ

أَنَّا وَجَــــــــــــــــــــــــــــــــــــدْنَا بِلادَ اللهِ وَاسِعَةً *** تُنْجِي مِنَ الذُّلِّ وَالْمَخْــــــــزَاةِ وَالْهُونِ

فَلَا تُقِيمُـــــــــــــــــــــــــوا عَلَى ذُلِّ الحَيَاةِ وَخِزْ *** يٍ فِي الْمَمَاتِ وَعَيْبٍ غَيْرِ مَأْمُــــــونِ

إِنَّا تَبِعْنَا رَسُولَ اللهِ وَاطَّــــــــــــــــــــــــرَحُوا[7] *** قَوْلَ النَّبِيِّ وَعَالُوا[8] فِي الْمـــــَوَازِينِ

فَاجْعَلْ عَذَابَكَ فِـــــــــــــــــــــي الْقَوْمِ الَّذِينَ بَغَوْا *** وَعَائِذًا بِكَ أَنْ يَغْلُوا فَيُطْغُونِــــــــــي[9]

لقد رأينا في هذه الأبيات عبد الله بن الحارث رضي الله عنه يدعو المسلمين إلى الاقتداء به في ترك البلاد التي يُضطهد فيها المسلمون، والهجرة إلى بلد آمن يعبدون اللهَ فيه دون إيذاء، حتى لو كان هذا البلد نصرانيًّا كما في حالتنا هنا، فإذا أخذنا في الاعتبار أن البلد التي يدعو المسلمين إلى تركها هي مكة، وأن فيها آنذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أدركنا مدى الراحة النفسية التي وصل إليها عبد الله بن الحارث رضي الله عنه في الحبشة، حتى صار يدعو المسلمين إلى ترك أعظم مدن الدنيا، وأكرم خلق الله صلى الله عليه وسلم، لكي تتوفَّر لهم فرصة عبادة لله دون إيذاء أو اضطهاد..

إنها نظرة جديدة للهجرة، ويمكن أن تُساعد كثيرًا بعض إخواننا وأخواتنا من أفراد الجاليات المسلمة الموجودة في الغرب والشرق، الذين ابتلُوا في بلادهم الأصلية بما قد يفتنهم عن دينهم؛ خاصة إذا جعلوا هدفهم الرئيس من الهجرة هو عبادة الله في أمان، والنجاة من فتنة الظالمين.

وهذه النقطة الأخيرة ستأخذنا إلى الحديث عن بعض الأمور الخاصة بالجاليات المسلمة في البلاد غير المسلمة، وهو موضوع المسألة القادمة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ



[1] انظر: ابن إسحاق: السير والمغازي ص 223- 226، وعنه ابن هشام: السيرة النبوية 1/369، والطبري: تاريخ الرسل والملوك، 2/338، وابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 2/377، وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/139، وابن كثير: البداية والنهاية 3/113، والصالحي: سبل الهدى والرشاد 2/369. وذكر ذلك -أيضًا- ابن سعد عن محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، قال: حدثني سيف بن سليمان، عن ابن أبي نجيح قال: وحدثني عتبة بن جبيرة الأشهلي، عن يعقوب بن عمر بن قتادة. انظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/162.

[2] ابن هشام: السيرة النبوية 1/468، والطبري: تاريخ الرسل والملوك، 2/369، وابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 3/43، وقال ابن حجر: جزم ابن عقبة بأن أول من قدم المدينة من المهاجرين مطلقًا أبو سلمة بن عبد الأسد، وكان رجع من الحبشة إلى مكة فأوذي بمكة، فبلغه ما وقع للاثني عشر من الأنصار في العقبة الأولى فتوجه إلى المدينة في أثناء السنة. انظر: ابن حجر: فتح الباري 7/261.

[3] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، (3692).

[4] أحمد (4400)، وأبو داود الطيالسي (344)، والبيهقي: دلائل النبوة 2/298، وقال ابن كثير عن رواية الإمام أحمد: وهذا إسناد جيد قوي وسياق حسن. انظر: ابن كثير: البداية والنهاية 3/88.

[5] ابن هشام: السيرة النبوية 2/359-362، والطبري: تاريخ الرسل والملوك، 2/343، وابن كثير: البداية والنهاية 4/235.

[6] المُغَلْغَلة: الرسالة، ورسالة مُغَلْغَلة: محمولة من بلدٍ إلى بلد. ابن منظور: لسان العرب، 11/499.

[7] اطَّرَحَوا؛ أي أبعدوا. ابن منظور: لسان العرب، 2/528.

[8] عالَ الميزانُ يَعِيل: جار، والعَوْل المَيْل في الحُكْم إلى الجَوْر، عال يَعُولُ عَوْلًا: جار ومال عن الحق. ابن منظور: لسان العرب 11/481.

[9] ابن إسحاق: السير والمغازي ص221، وابن هشام: السيرة النبوية 1/330، 331، والذهبي: تاريخ الإسلام 1/185.

د.راغب السرجاني