التحذير من التشاؤم بالبنات
19-01-2017, 03:21 PM
يا أبا البنات

"التحذير من التشاؤم بالبنات"

الحمد لله الذي أعزَّنا بالإسلام، وهدانا سبل السلام، ومنَّ علينا بأعدل شرع، وأحسن حكم، وأقوم دِين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلَق الخلق وهو عليم بهم، خبير بما يصلحهم، حكيم بما شرعه عليهم، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أرحم الخلق ببناته، وأرأف الناس في تعاملاته.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.

أما بعد:
فقد تسلَّلَت إلى مجتمعنا الحاضر أمور من عادات الجاهليَّة الأولى التي حذَّر منها الإسلام وبيَّن خطرها من خلال النصوص الشرعيَّة، ومن خلال المواقف العمليَّة التي سطرها النبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم في تعاملاته معبناته، وفي توجيهاته لغيره من الآباء، مما يبيِّن أهميَّة العناية بالبنات، وخطورة التشاؤم والكراهية منهنَّ، فمما كان قبل الإسلام: أن الأب لا يكاد يَقدر على الخروج أمام الناس إذا بُشِّر بالأنثى، بل يبقى "متغيرًا مغتمًّا من الكآبة والحياء من الناس، بل إنه كظيمٌ ممتلئ غمًّا وغيظًا وحزنًا"[1]؛ ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾، فيبقى في هذه الحالة لكراهيته وكراهية قومه لتلك القادِمة المشؤومة بزعمهم، فلا يفكِّر إلا في أمرين:
إمَّا أن يُبقي على البنت فلا يَقلتها، ويمسكها على هوان ومذلَّة، وإمَّا أن يتخلَّص منها ويدفنها في التراب وهي حيَّة، وفي كلا الحالتين بيَّن اللهسوءَحكمهم، وقبح مطيَّتهم: ﴿يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾.

وقد انتشر الوأد في تلك الآونة، حتى إنهم كانوا يعتبرون وأد البنت عارًا يدفن، وخزيًا يختفي، وعورة تُستر، فقد "نظر أعرابي إلى بنت تُدفن فقال: نعم الصهر صاهرتهم، وكانوا إذا هنئوا بها قالوا: أمنكم الله عارها، وكفاكم مؤنتها، وصاهرتم قبرها، وقيل: تقديم الحرم أفضل النعم، وموت الحرة أمان من المعرة، قال:
ولم أرَ نِعمة شملَت كريمًا♦♦♦كعورتِه إذا سُترَتْ بقَبر"[2].

وقد كان دَفن البنات عندهم على طريقين؛ كما بيَّن ذلك ابن حجر رحمه الله بقوله: "كانوا في صِفة الوأد على طريقين: أحدهما أن يأمر امرأته إذا قرب وضعها أن تطلق بجانب حفيرة، فإذا وضعت ذكرًا أبقَته، وإذا وضعت أنثى طرحَتها في الحفيرة، ومنهم من كان إذا صارت البنت سداسيَّة قال لأمِّها: طيِّبيها وزيِّنيها لأزور بها أقاربها، ثمَّ يبعد بها في الصحراء حتى يأتي البئر فيقول لها: انظري فيها، ويدفعها من خلفها، ويطمها؛ والله أعلم"[3].

أحبَّتي الكرام، بعد كل هذه المعاناة التي كانت تعانيها البنت منذ ولادتها حتى تَكبر وتصبح امرأة، جاء الإسلام ليعلِن للناس أنَّ البنت هِبة يفرح بها، ونِعمة يشكر الله عليها، فقال جلَّ في علاه: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾، فجعل الإناثَ هبة، بل وقدمهنَّ على الذكور؛ لأنهنَّ سبب في تَكثير النَّسل، ولتطييب خاطر الآباء لِما قد يحصل من الحزن والكره الذي هو مِن آثار الجاهلية، يقول القاسمي رحمه الله: "وتقديم الإناث، إمَّا لأنها أكثر لتكثير النَّسل، أو لتطييب قلوب آبائهنَّ، تنبيهًا بأنهنَّ سبب لتكثير مخلوقاته، فلا يجوز الحزن من ولادتهنَّ وكراهتهن، كما يشاهد من بعض الجهلة"[4].
واستدلوا بهذه الآية على بركة المرأة التي تلد أول ما تلد أنثى، كما قال واثلة بن الأسقع: "إنَّ مِن يُمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذَّكر، وذلك أن الله تعالى قال: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾، فبدأ بالإناث"[5].

ولم ينته اهتمام الإسلامبالأنثىعند ولادتها؛ بل أكَّد على فضل رعايتها وكفالتها، والقيام بحاجتها، والسَّعي في إسعادها، ورتَّب على ذلك الأجورَ العظيمة، والجوائز الكبيرة، والهبات الرائعة، وجعل البنات حسنات مستمرَّة؛ كما قال محمد بن سليمان: "البنون نعم، والبنات حسنات، والله عز وجل يحاسِب على النِّعم، ويجازي على الحسنات"[6].
عباد الله، في يوم القيامة والناس في كَرب شديد يأتي ذلك الذي أَكرم ابنتيه مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ مَن أكرم مَن أمَر الله بإكرامهنَّ، أكرمه الله من بين الخلائق في يوم الفزع الأكبر، يقول عليه الصلاة والسلام: ((مَن عالَ جاريتين حتى تَبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو))؛ وضمَّ أصابعَه[7]، قال النووي رحمه الله تعالى: "معنى عالهما: قام عليهما بالمؤنة والتربية ونحوهما"[8].

وماذا بعد المحشر؟إمَّا الجنة وإما النار، فمَن أحسن إلى هؤلاء البنات، فقد جعل بينه وبين النار سترًا وحاجزًا، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها، فسألتني فلم تجد عندي شيئًا غير تَمرة واحدة، فأعطيتُها إيَّاها، فأخذتها فقسمَتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئًا، ثم قامت فخرجَت وابنتاها، فدخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فحدَّثتُه حديثها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن ابتُلي من البَنات بشيء، فأحسَن إليهنَّ، كنَّ له سترًا من النار))[9]، ما الإحسان الذي قدَّمته هذه المرأة إلى ابنتيها؟ تمرة واحدة، فكان لها ما كان، فكيف إذا كان الإحسان أكبر من ذلك؟! كيف بمن يَرعاها، ويربِّيها، ويحسن معاملتها طيلة بقائها عنده؟!

وقد علِم النبي صلى الله عليه وسلم كراهية الناس في العادة للبنات، فأشار إليه بقوله: ((مَن ابتُلي من البنات بشيء))، ثمَّ أتى بالخبر اليقين، والوعد الصَّادق، من أنهنَّ ستر من النار، وحماية من العذاب، يقول النووي رحمه الله: "إنما سمَّاه ابتلاء؛ لأن الناس يكرهونهنَّ في العادة"[10]، لكن كما قال الله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، فقد يكون ذلك الابن الذي فرح الأب بمقدمه شقاءً على والديه، وعذابًا يصليان بناره صبح مساء، كما هو حال ذلك الابن الذي قتله الخضِر حين قال: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا*فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾، وأمَّا البنات بسبب رقَّتهنَّ وعاطفتهن، فهنَّ أبر بالأبوين، وأنفع لهما في حال ضَعفهما وعجزهما، و﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾.

إخوة الإسلام، تصِل هذه البنت بمن يرعاها ويحسن إليها إلى حيث الأمان الدائم، والخير المستمر، والنَّعيم المقيم، والظل الوارف، والنَّهر العذب، والفاكهة الكثيرة، والسرر المرفوعة، إنَّها طريقه إلى جنَّة عَرضُها السماوات والأرض، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من رجل تُدرك له ابنتان، فيحسن إليهما ما صحبتاه، أو صحبهما - إلَّا أدخلتاه الجنَّةَ))[11].

والإحسان إلى البنت يكون بعدَّة أمور، بيَّنَتها أحاديث كثيرة؛ من ذلك ما رواه ابن ماجه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن كان له ثلاث بنات فصبر عليهنَّ، وأطعمهنَّ، وسقاهن، وكساهن من جدته - كنَّ له حجابًا من النار يوم القيامة))[12]، وفي مسند أحمد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن كنَّ له ثلاث بنات يؤويهن، ويرحمهنَّ، ويكفلهنَّ، وجبت له الجنة ألبتة))، قال: قيل: يا رسول الله، فإن كانت اثنتين؟ قال: ((وإن كانت اثنتين))، قال: فرأى بعض القوم أن لو قالوا له: واحدة؟ لقال: واحدة[13]، وعند أحمد أيضًا: ((مَن ابتُلي من البنات بشيء فأحسن صحبتهنَّ، كنَّ له سترًا من النار))[14]، وكل هذه "الأوصاف يجمعها لفظ الإحسان"[15]؛ كما قال ابن حجر رحمه الله تعالى.

فمن عدم التوفيق: أن يظنَّ العبد أن الله أهانه حينما وهَب له البنات، بل هنَّ الستر من النار، وهنَّ الطريق إلى الجنة، وإن كانت كِسوة البنات والنفقة عليهنَّ تأخذ ممن يرعاهنَّ أكثر من النفقة على البنين، فالله لن يُضيع أجرَ المحسنين الذين ينالون بسبب نَفقتهم الأجرَ العظيم، والمثوبة الكبيرة، وخيرُ مال يتصدَّق به المرء ما كان في أهله، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((أفضل دينار ينفِقه الرجل، دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفِقه الرجل على دابَّته في سبيل الله، ودينار ينفِقه على أصحابه في سبيل الله))، قال أبو قلابة: وبدأ بالعيال، وأي رجل أعظم أجرًا من رجل ينفِق على عيال صغار يعفهم، أو ينفعهم الله به، ويغنيهم؟![16].
فالله الله في اغتنام هذه الفرص العظيمة، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.

إننا قد نرى اليوم العديد من الهجمات الشرسَة على ديننا الإسلامي الحنيف، وأنه دين يَكره البنات، ويعمل على وأدهنَّ، وينبذهن، ويحتقرهنَّ، فمع النصوص التي علمناها من القرآن والسنة نأتي إلى تطبيق عملي قام به رسول هذه الأمَّة محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وإن أنكَرَ ذلك الغربيُّون وأذنابهم من دعاة التغريب والتخريب، ومن أسرى الدولار ممَّن باعوا دينهم بعرَض من الدنيا قليل، ولا يضر النهار أن يقال له: أنت ليل، وقد ملأ ضياؤه الآفاق.
وكيف يصحُّ في الأذهان شيءٌ♦♦♦إذا احتاج النَّهارُ إلى دليل؟!

فقد كان صلى الله عليه وسلم مِثالًا أعلى في حبِّ بناته، ورعايتهنَّ، والإحسان إليهنَّ؛ فهو الأب الحنون، وهو المربِّي المثالي، وهو صاحِب اللمسة الحانية التي تتمنَّاها كلُّ بنت من أبيها، فما ألينَ كفَّه! وما أحسنَ بسمتَه! وما أعظم عطفه وحنانه! ها هو يقف لِمَقدم ابنته الزهراء رضي الله عنها؛ مما يشعرها بقَدرها الكبير في نفسه، وما ينحت في قلبها حبه، وما يرسم على وجهها تبجيله واحترامه صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة رضي الله عنها عن فاطمة رضي الله عنها: "كانت إذا دخلت على النَّبي صلى الله عليه وسلم، قام إليها فقبَّلها، وأجلسها في مجلسه"[17]، وترسل ابنته زينب رضي الله عنها فداء لفكِّ زوجها أبي العاص، فيَقبَل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، ويرُد عليها فداءها بعدما شاور أصحابَه، وقد رأى أصحابه تأثُّره عندما رأى قلادة زينب رضي الله عنها التي ذكَّرَته بأمِّ المؤمنين خديجة رضي الله عنها، فكان ما أحَبَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة رضوان الله عليها: "لما بعث أهل مكَّة في فداء أسراهم، بعثَت زينب بنت رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بن الربيع بمالٍ، وبعثت فيه بقلادة لها كانت لخديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها، قالت: فلمَّا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ لها رقة شديدة وقال: ((إن رأيتم أن تُطلِقوا لها أسيرَها، وتردُّوا عليها الذي لها، فافعلوا))، فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلَقوه، ورَدُّوا عليها الذي لها"[18].

وها هو عليه الصلاة والسلام يرحِّب بفاطمة رضي الله عنها ويجلسها بجانبه، ويسرُّ لها بالحديث، بأبي أنت وأمِّي يا رسول الله ما أحسن تعاملك، وما أجمل خُلقك، وما أطيب نفسك! عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أقبلَت فاطمة تمشي، كأنَّ مشيتها مشي النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مرحبًا بابنتي))، ثمَّ أجلسها عن يمينه، أو عن شماله، ثم أسرَّ إليها حديثًا..."[19].

وها هو رغم أشغاله وهمومه الكثيرة يلبِّي طلب ابنته، ويبر بقسمها، ويأتيها إلى بيتها ليعزيها، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلَت ابنة النَّبي صلى الله عليه وسلم إليه: إنَّ ابنًا لي قُبض فأتِنا، فأرسل يُقرئ السلام، ويقول: ((إنَّ لله ما أخَذ، وله ما أعطى، وكلٌّ عنده بأجل مسمى، فلتصبِر ولتحتسب))، فأرسلَت إليه تقسم عليه ليأتينَّها، فقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال، فرُفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّبي ونفسه تتقعقع، ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟! فقال: ((هذه رحمةٌ جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يَرحم الله من عباده الرُّحماء))[20].

ويعلِّم ابنته ويربِّيها على الخير، ويعلِّقها بالله سبحانه وتعالى، فعن علي رضي الله عنه: أن فاطمة عليها السلام شكَت ما تلقى من أثر الرحى، فأتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سبيٌ، فانطلقت فلم تجده، فوجدَت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النَّبي صلى الله عليه وسلم أخبرَته عائشة بمجيء فاطمة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبتُ لأقوم، فقال: ((على مكانكما))، فقعد بيننا حتى وجدتُ برد قدميه على صدري، وقال: ((ألا أعلِّمكما خيرًا ممَّا سألتماني؟ إذا أخذتما مضاجعكما تكبِّرا أربعًا وثلاثين، وتسبِّحا ثلاثًا وثلاثين، وتحمدا ثلاثًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم))[21].

أحبِّتي في الله، لو تأمَّل ذلك الذي يكره ويتشاءم من البنات في هذه الهبة العظيمة، لأَوصله تفكيره إلى الكنز المكنون الذي تحمله هذه الدرَّة الجميلة، فها هو "أبو حمزة الضبي يهجر خيمة امرأته، وكان يقيل ويبيتُ عند جيران له، حين ولدَت امرأته بنتًا، فمرَّ يومًا بخبائها، وإذا هي ترقصها، وتقول:
ما لأبي حمزة لا يأتينا؟

يظل في البيت الذي يلينا

غضبان ألَّا نلد البَنينا

تالله ما ذلك في أيدينا

وإنَّما نأخذ ما أُعطينا

ونحن كالأرض لزارِعينا
ننبتُ ما قد زَرعوه فينا

قال: فغدا الشيخ حتى ولج البيتَ، فقبَّل رأس امرأته وابنتها"[22].

"ومن كلام الصاحب بن عباد تَهنئة ببنت: أهلًا وسهلًا بعقيلة النساء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، وأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتنافسون، ونجباء يتلاحقون.
فلو كان النِّساء كمثل هذي
لفُضِّلَت النساء على الرِّجالِ
وما التأنيثُ لاسم الشَّمس عيبٌ
ولا التذكير فَخر للهلال

فادَّرع يا سيدي اغتباطًا، واستأنف نشاطًا؛ فالدنيا مؤنثة والرجال يخدمونها، والذكور يعبدونها، والأرض مؤنثة ومنها خُلقَت البرية، وفيها كثرت الذرية، والسماء مؤنَّثة وقد تزيَّنَت بالكواكب، وحليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة وهي قوام الأبدان، وملاك الحيوان، والجنَّة مؤنثة وبها وُعد المتقون، وفيها ينعم المرسلون.
فهنيئًا هنيئًا ما أوليت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت، وأطال بقاءك ما عرف النسل والولد، وما بقي الأبد"[23].

عباد الله، لا بد أن نعلم أننا مسؤولون عن بناتنا، وأن تربيتنا لهنَّ تكون وفق الشرع، فلا إفراط ولا تفريط، فليس من الحبِّ ولا من الإحسان أن نَسمح لها بارتكاب الحرام، أو نعينها على ذلك، لا بد من مراعاة اللباس بألا يكون عاريًا أو شبه عارٍ، لا بد من مراعاة الحجاب، وأن يكون كيفما يريد الله لا كيفما يريده أهل الموضات والأزياء، لا بد من مراعاة العلاقات، وأن تبتعد البنت عن الرفقة السيئة التي هي سبب كل بلية، فـ ((كلُّكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيَّته...، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيَّته))[24].

ولنعلم أنَّ حُسن تعاملنا مع بناتنا، والسَّماع لهن ولحديثهنَّ، وتشجعيهن على إبداء آرائهنَّ، ومحاورتهن - سببٌ كبير لحسن تربيتهن، وأن يكنَّ سترًا من النار، وطريقًا إلى الجنة.
اللهم
بارك لنا في بناتنا، واجعلهنَّ من الصالحات القانتات المحسنات، اللهمَّ أصلحهنَّ وأصلح بهنَّ، اللهم احفظهنَّ من شر الأشرار وكيد الفجَّار، ومن طوارق الليل والنهار، إلا طارقًا يطرق بخير يا عزيز يا غفار.

اللهمَّ
أعِفَّ بناتنا وبنات المسلمين في كلِّ مكان يا رب العالمين.


هوامش:
[1]بتصرف من "التفسير المنير" للزحيلي (14/ 152).

[2]محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء؛ للراغب الأصفهاني (1/ 397).
[3]بتصرف من فتح الباري؛ لابن حجر (10/ 407).
[4]محاسن التأويل؛ للقاسمي (8/ 375).
[5]تفسير القرطبي (16/ 48).
[6]الآداب الشرعية والمنح المرعية؛ لابن مفلح (1/ 454).
[7]أخرجه مسلم (2631).
[8]شرح النووي على مسلم (16/ 180).
[9]أخرجه البخاري (5995)، ومسلم (2629) بلفظه.
[10]شرح النووي على مسلم (16/ 179).
[11]أخرجه ابن ماجه (3670) بلفظه، وأحمد (3414)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (29788).
[12]أخرجه ابن ماجه (3669) بلفظه، وأحمد (16950)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (64888).
[13]أخرجه أحمد برقم (13835)، قال الألباني في صحيح الترغيب: صحيح لغيره (1975).
[14]أخرجه أحمد (25529)، وصححه الأرنؤوط وغيره في تحقيق المسند (43/ 181).
[15]فتح الباري؛ لابن حجر (10/ 428).
[16]أخرجه مسلم (994).
[17]أخرجه أبو داود (2517)، والترمذي (3807) بلفظه، وصححه الألباني في تحقيق المشكاة (46899).
[18]أخرجه أبو داود (2692)، وأحمد (25830) بلفظه، وحسن إسناده الأرنؤوط وغيره في تحقيق المسند (43/ 3811).
[19]أخرجه البخاري (3624) بلفظه، ومسلم (2450).
[20]أخرجه البخاري (1284) بلفظه، ومسلم (923).
[21]أخرجه البخاري (3705) بلفظه، ومسلم (2727).
[22]البيان والتبيين؛ للجاحظ (1/ 165).
[23]نهاية الأرب في فنون الأدب؛ لشهاب الدين النويري (5/ 134، 135).
[24]أخرجه البخاري (893) بلفظه، ومسلم (1829).
التعديل الأخير تم بواسطة أمازيغي مسلم ; 19-01-2017 الساعة 03:23 PM