مرحبا بكم في عالمي
17-03-2017, 08:28 PM
مرحبا بكم في عالمي
أسند ظهره لكومة الحطب يشاهد النار تلتهب وتحرق آخر ذكرياته , ودخانها يخالط هواء المساء البارد , رفع بصره ناحية النجوم البعيدة ثم رده ليخربش حرفا ضائعا من ذاكرته على الثلوج الكثيفة.
أعرفكم بالسيد " أوقص" زميلي بالزنزانة سيد محترم جدا عكس ما يشاع عنه في ساحة السجن , رجل طيب إلى درجة أنك ان افتعلت شجارا معه لن يشتمك أو يزعجك بل سيعتذر لك ...أجل سيعتذر لك قبل أن يدق عنقك ثم يتخطى جثتك ليكمل سيره , إنه رجل مميز هذا الأوقص ولن يعرف ذلك الا من شاطره الزنزانة ونحن على فكرة نعد على الاصابع , سأكف عن المقدمات لأني رجل ثرثار وثرثرتي تجلب لي المصائب فعادة ما انتقل من قصة لاخرى دون أن أدري ...يالسخافتي تهت في الحديث مجددا...
أوقص اليوم على غير عادته , يلكم الجدار بشكل حنون لثلاث مرات ثم يذهب للبحث تحت وسادته عن السجائر ثم يسالني ان رايتها ويعود للكم الجدار , فعل ذلك ما يقارب الخمس مرات فاستجمعت شجاعتي وسألته : هل كل شيء على مايرام ؟
أجابني بهدوء : سيكون كل شيء على مايرام بعد أن يسحب الحراس جثتك للخارج ثم يعودون للبحث عن رأسك .
لا تستغربوا هذه طريقته في القول "اهتم بأمورك الخاصة" , ولأني فضولي قمت ببعض التحقيقات في ساحة السجن وكل ماعرفته أن زميلي في الزنزانة يصاب بهذه الحالة في مثل هذا الشهر من كل عام , ويتصادف أنه في كل مرة يقتل زميله بالزنزانة ...أحكي هذا وكلي سخرية لسبب بسيط أني ذلك الزميل الذي عليه الدور , أصابني الخبر بالهذيان ورحت أجمع قطع أفكاري المفقودة علها تفيد , ووصلت لخطة أن أتظاهر بالمرض فأحول للعيادة لحين تفرج , وبدأت التنفيذ لكن تم تحويلي لمأمور السجن بسبب خفة يدي ...دفاعا عن نفسي لا يفترض بالطبيب ترك قلمه الفضي جالب الحظ قرب سجين يبهره البريق... وقام المأمور بإعطائي درسا في الأخلاق اضافة الى ارتجاج في المخ سببه الصفعات القوية , اعتذرت واعتذرت ثم سالت عمن سبقني في مرافقة الأوقص وكان مأمورا كريما اذ اخبرني ان وفاتهم كانت قضاء وقدرا , عدت لزنزانتي فرحا بالحقيقة متناسيا شلل وجهي وانفجار الاوعية الدموية بعيني وكان هناك ينتظرني بوجه بشوش وبيده ظرف ذو لون بني : أهلا كيف حالك ؟
لم تكن نيتي أن أجيبه لأنه يبدو كفخ ومع ذلك : الحمد لله , تريد مني شيئا .
ـــ اجلس ... اجلس ...أنظر
مددت عنقي وأنا اقترب رويدا رويدا : ما هذا ؟
ضحك ...لديه ضحكة غريبة , مخيفة وشريرة ... تشبه ضحكة العفريت من القصص الاسكتلندية : بدأت أتذكر , أتذكر وجهها , لديها شفة أرنبية تجعل وجهها يبدو مشوها قليلا .
هل تصدقون لو أخبرتكم أنه كان يقول ذلك وبعينيه ملامح عاشق , وهل ستسمعون بقية قصتي معه لو علمتم ان كلامه لم يكن له علاقة بالظرف الذي بيده , تحملوني قليلا فلا احد اكلمه في هذا السجن وانتم عزائي .
جلست بجانبه : هل هذا الظرف منها ؟
ـــ من ؟ لا يا غبي ... وجدت هذا الظرف بأشيائك وذكرني بها , كانت جميلة تلك البشعة وتجيد الكلام ولسانها حاد مثل طرف هذا الظرف .
ـــ ...أعد ما قلت بالكاد فهمت مانطقت به.
لم يعرني اهتماما , واصل ضحكاته المتقطعة لحين سمعنا الجرس ولم يكن ذلك وقته ولم أرد معرفة السبب , فقط أخذت مكاني مع المساجين وخرجنا للساحة , جلست واذا به بجانبي يضرب بيده القوية كتفي النحيل : أخبرك قصة ...
لم يكن يسالني بقدر ما كان يأمرني أن اظل ساكتا لحد يسمعني القصة , أومأت براسي موافقا على عرضه ...أمره ...
وصل سجين آخر أغرته ابتسامة الأوقص : أسمعونا حديثكم .
أفسح له مجالا وقد لمعت عيونه كغراب يشتهي جبنة : اجلس الحكاية اليوم من نصيبك ... أذكر أني أسندت ظهري لكومة الحطب أشاهد النار تلتهب وتحرق آخر ذكرياتي , ودخانها يخالط هواء المساء البارد , رفعت بصري ناحية النجوم البعيدة ثم رددته لأخربش حرف اسمها على الثلوج , وهناك قررت أن أنتقم لمقتلها , كانت فتاة غبية وساذجة وحمقاء وأنا أردت أن أنجب منها الكثير من الحمقى دون أن تورثهم شفتها الأرنبية تلك .
تململ ضيفنا : الأوقص كان سيتزوج ؟ أضحكنا بغيرها .
كانت نظرته كفيلة ليخرس ويسمع التتمة : انتظرت طويلا لانتقم لموتها , كانت قد ذهبت لقياس ثوب الزفاف وصادف أن تاجر مخدرات المنطقة قد تشاجر مع صاحب المحل وقرر ذلك اليوم أن يصفي حسابه , وكانت تلك الغبية بالمتجر تقيس الثوب وتلاحظ بشاعتها بالمرايا الكثيرة .
تنهد الأوقص وللحظة شعرت بالشفقة لحاله ثم نظرت ضيفنا وكان شاحبا , يبدو أنه صدم مثلي , تحجج بالذهاب , لكني طلبت ان يبقى قليلا .
وأكمل الاوقص قصته: عندما دخل التاجر وجه مسدسه للمرآة ليخيف صاحب المحل وأطلق رصاصتين وصادف أنها كانت خلفها , استغرقني الامر اياما لأصدق رحيلها ومجرد ساعة لانتقم لها .
رن الجرس قمت وتبعني الأوقص وبقي ضيف جلستنا بمكانه شاحبا وشفتاه قد ازرقتا ...انها الصدمة ولابد.
وصلنا الزنزانة واوصدت الابواب وتمددت مكاني استمع لضربه للجدار ثم بادرته الكلام: لابد أن الأمر كان صعبا عليك , كنت لافعل نفس الشيء ولو أني مجرد لص .
قاطعني : أخبرك قصة ؟
أجبته : عن ماذا ؟
فرقع اصابع يده : أذكر أني أسندت ظهري لكومة الحطب أشاهد النار تلتهب وتحرق آخر ذكرياتي , ودخانها يخالط هواء المساء البارد , رفعت بصري ناحية النجوم البعيدة ثم رددته لأخربش حرف اسمها على الثلوج , وهناك قررت أن أنتقم لمقتلها , كانت بمثل طولك وقد انهينا مكالمتنا الليلية المعتادة ودخلت لفراشها , عندما دخل لص بيتها , كان يظنها نائمة وظنت أنه يود قتلها وفي طريق هربها زلت رجلها على الدرج وانكسر عنقها , حكم عليه بالسجن وتصور كيف سانتقم لها ...
للحظة , لوهلة , لم يعد بجسمي دماء ولا لثقلي جاذبية ...وتسارعت الاحداث براسي ...وشعرت بالموت تخطف أنفاسي وتذكرت السجين بالساحة وتذكرت القاضي يضرب بمطرقته ويحكم علي في جريمة القتل من الدرجة الثانية ... وأنا أرى عيني اوقص تنظر لخوفي وقطرات العرق على وجهي ويضحك ثم يقول : انتقمت لها هذا العام قبل قليل , في ذكراها العام المقبل سيكون الامر اكثر متعة . أهلا بك الى عالمي .
بقلمي
ب_ف_ز
05/03/2017