عوامل انتشار اللغة العربية في الممالك الإفريقية
06-05-2020, 02:05 AM


شهدت منطقة حوض بحيرة تشاد ابتداء من مطلع القرن التاسع الميلادي نشأة وازدهار ممالك إسلامية عديدة أبرزها: مملكة كانم – برنو، ومملكة باقرمي، ومملكة وداي، وقد ظلت هذه الممالك الإسلامية تبسط سيطرتها على الأراضي التي تكوِّن جمهورية تشاد الحالية وماجاورها حتى مطلع القرن العشرين الميلادي.

وهناك إجماع بين الباحثين على اشتراك هذه الممالك في قواسم عدة منها:
أولا: اتخاذ الشريعة الإسلامية مصدرًا لقوانينها وتشريعاتها ومحاكمها، ومرجعًا لضبط شئونها الاجتماعية.

ثانيا: جعل اللغة العربية اللغة الرسمية في كل مملكة، واستخدامها في الدواوين والمراسلات والتعليم.

ثالثا: أن اللغة العربية أصبحت اللغة العامة والشائعة التي يستخدمها أفراد الشعب في اللقاءات العامة والأسواق، ويبين ذلك أن هذه الممالك باستخدام اللغة العربية تمكنت من إقامة حضارات ظلت توجه شعوبها منذ زمن بعيد، ومازالت تعد المنبع الاصيل للشعب التشادي، ويؤكد هذا الإجماع مجموعة ضخمة من الوثائق والمخطوطات والمؤلفات التي خلفتها هذه الممالك الإسلامية، وواقع تشاد خير شاهد على ذلك، وكان دخول هذه اللغة إلى المنطقة قد تم بصورة طبيعية وبتدرج وثبات، فلم تسود اللغة العربية في المنطقة نتيجة ثورة أو قرار سياسي مفاجيء وإنما تغلغلت في المجتمع بتفاعل عوامل اجتماعية وحضرية مما ضمن لها الرسوخ والبقاء، ونتناول أبرز هذه العوامل فيما يأتي.

أبرز العوامل التي ساعدت في انتشار اللغة العربية في الممالك الإسلامية التشادية
1- هجرات القبائل العربية:

إن وجود بحيرة تشاد بمياهها العذبة في منطقة تشاد جعلها منذ قديم الزمان، موضع جذب شديد للهجرات القبلية، والتي كان من ضمنها هجرات القبائل العربية؛ حيث (سكن العرب واللغة العربية منطقة الساحل الإفريقي قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بقرون طويلة، حيث تعاقبت الهجرات نحو بحيرة كوار= تشاد، على وجه الخصوص لموقعها الاستراتيجي في قلب القارة الإفريقية.

إلا أن الهجرات العربية إلى المنطقة والتي حدثت بعد الإسلام كانت هي الأكثر تأثيرًا، وهي التي صبغت المنطقة بطابعها الخاص؛ فقد بدأت القبائل العربية تنحدر من الجزيرة العربية متجهة صوب إفريقيا منذ النصف الثاني من القرن الأول الهجري بعد فتح مصر، وهناك أسباب عديدة أسهمت في تحريك هذه الهجرات التي كانت تحمل معها حضارتها وثقافتها ولغتها..

فمنها ما كان سياسيًّا كما حدث في عهد الأمويِّين والعباسيِّين، وهكذا في عهد الفاطميين (القرن الثالث الهجري) وهكذا حتى عهد المماليك، وبعض تلك الهجرات ناشيء عن أسباب أخرى تلقائيَّة؛ إمَّا طلبًا للمرعى والعيش، أو تخلُّصًا من سيطرة السلطات الحاكمة إذ ذاك في مصر، بعد سوء الحالة..

وتُصنَّف القبائل العربية التي استوطنت في تشاد في مجموعتين رئيسيتين، هما:
1- مجموعة (الحساونة) التي جاءت إلى منطقة بحيرة تشاد عن طريق شمال إفريقيا خلال القرنين التاسع والعاشر الميلاديين وهي تضم عددًا كبيرًا من القبائل نذكر منها: الأصعالي، والدقنة وأولاد محارب، وأولاد سرار، وأولاد علي، وبني وائل، وبني عامر، والعلوان، وهي تنتسب إلي أوده بن قالم.

2- مجموعة (جهينة) والتي جاءت إلى تشاد عن طريق السودان خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين، وهي تضم عددًا كبيرًا من القبائل أكبرها: السلامات: وأولاد راشد والحيماد، والحريكة، والجعاتني وخزام، وبني هلبة، وهي تنتسب إلى الجنيد بن شاكر بن أحمد الأجزم بن راشد، الذي يلتقي نسبه بعبد الله الجهني بن العباس).

وقد ظلت الهجرات العربية تغذي المنطقة بدماء جديدة حتى العصر الحديث ومثال ذلك أولاد سليمان الذين هاجروا إلى تشاد من ليبيا في الفترة مابين (1840 – 1930م) ويتضح من ذلك أن هجرات القبائل العربية إلى منطقة تشاد تتابعت لقرون عديدة، وكان يرفد بعضها بعضًا..

كما أن هجرات القبائل العربية المبكرة والمتتالية إلى تشاد، جعلت هذه القبائل جزءًا أساسيًّا وأصيلًا في التركيبة السكانية في المنطقة، خاصة وأن هذه القبائل العربية تميزت بخصلتين، هما: المحافظة على ثقافتها ولغتها, والاندماج في المجتمع المحلي، ويشير الدكتور عبد الرحمن عمر الماحي إلى هذا بقوله "وقد احتفظ العرب في تشاد بلغتهم وعاداتهم وتقاليدهم وقيمهم الخاصة على الرغم من تأقلمهم واختلاطهم بالأعراق والمجتمعات المحلية المختلفة".

ومن ناحية أخرى نجد أن قدوم هذه القبائل من مناطق أكثر تحضرًا يجعل خاصيَّة التأثير لديها أقوى من دواعي التأثر وأنَّ حالة البدواة التي يعيشها العرب الظاعنون في سهول تلك المنطقة كانت على درجة عالية من التأثيرات على حركة التغيير والتحول إلى الإسلام، وهذا أمرٌ له دلالاته التأريخيَّة المهمَّة ذلك لأنَّ ظعن البدويين وانتشارهم في مساحات واسعة والضرورة التي أملت تفاعلهم مع السكان المحليين أثرت في هذه المجتمعات إلى حدٍّ كبير، وأدَّت في النهاية إلى قبولهم معتقدات الوافدين وتبنى ثقافتهم وسلوكهم.

فعدم استيطان القبائل العربية في المدن خاصة في المرحلة الاولى وبقاؤهم في البادية، كان من العوامل التي أسهمت في جعلهم أكثر تأثيرًا في المنطقة، بسبب الحركة الدائمة التي تفرضها البداوة كما أنَّ القبائل العربية لم يتركز وجودها في تشاد في جهة واحدة، بل تفرقت في شتى النواحي والمناطق، وبفضل هذه المقومات انتشرت اللغة العربية انتشارًا واسعًا في منطقة تشاد.

2-الإسلام:
رأينا أن الممالك السابقة كانت ممالك إسلامية كلها اتخذت الإسلام شرعةً ومنهاجًا، ومعلوم أنَّ اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم ولغة الرسول الأمين، ولغة التراث العلمي والثقافي للأمة الإسلامية، فكان هذا من أقوى العوامل التي ساعدت على انتشار اللغة العربية وشيوعها في المنطقة، حيث أصبح تدريس علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة وأدب يحظى بالاهتمام والعناية أنفسهما اللتين تحظى بهما العلوم الإسلامية من تفسير وحديث وفقه..

فأصبح المجالان يدرسان جنبًا إلى جنب، بل إن علماء المنطقة أصبحوا يُطلقون على علوم اللغة العربية اسم علوم الآلة، على اعتبار أنَّها شرطٌ لفهم العلوم الدينيَّة، كما نجد أنَّ كثيرًا من شعائر الإسلام تُؤدَّى باللغة العربية، ممَّا جعل أهل المنطقة يعتبرون أنَّ معرفة اللغة العربية من الصفات التي تُميِّز المسلم عن غيره، فأقبلت الشعوب في المنطقة على تعلُّم اللغة العربية.

وتفرَّع عن هذا العامل عامل آخر أسهم بدوره في نشر اللغة العربية، وهو الحج؛ إذ لم يكن أداء فريضة الحج مجرَّد رحلة بالطائرة تستغرق أسبوعًا أو أسبوعين كما هو الحال في هذه الأيام، وإنما كان سفرًا طويلًا يستغرق سنوات وشهورًا، سيرًا على الأقدام أو فوق ظهور الدواب، يتوقَّف الحاج خلاله في كثيرٍ من المدن والقرى التي يمرُّ بها، وقد يبقى فيها أيامًا وأسابيع طلبًا للاستجمام، يختلط بأهلها ويتأثَّر بهم..

وقد عرفت شعوب منطقة تشاد وحكامهم بحرصهم الشديد على أداء هذه الشعيرة منذ القدم، وكان منفذ القاهرة هو الطريق الشائع، ومن جانب آخر فإن فترة بقاء الحاج في الأماكن المقدسة كانت تطول كثيرًا، فيختلط هناك بمختلف القبائل والعلماء مما يترك فيه أثرًا عميقًا ولذا فإنَّ الحاج غالبًا ما يتحوَّل إلى داعيةٍ للإسلام..

فحينما يعود الحاج الإفريقي من بيت الله الحرام بعد رحلة يكتسب خلالها العديد من الخبرات المادية والحياتية والروحية التي تضفي عليه شيئًا من الهيبة حسب العادات الإفريقية المرعية، وتعطيه درجة عالية من قومه، وأنهم يتلقون كثيرًا من الدروس والعادات والتقاليد خاصَّةً فيما يتعلَّق باكتساب اللغة العربية والدراسات الإسلامية من علماء الإسلام في الحرمين، والعلماء الذين يمرون بهم في طريقهم.

3- التجارة والقوافل:
تعتبر منطقة تشاد ملتقى للطرق التجارية العابرة من شمال القارة لجنوبها ومن شرقها لغربها، وكانت الصحراء حافلة بحركة القوافل التجارية التي اختطت لها طرقًا تجاريَّةً ثابتةً ومستقرَّة، منها:

1- طريق يسير من أسوان إلى كسلا، ثم إلى دارفور، وإلى (وداي)، و(باقرمي)، و(كانم)، و(برنو).

2- طريق من أسيوط عبر الواحات غربي وادي حلفا، ثم إلى دارفور ومنها إلى بلاد كانم، ويمتدُّ هذا الطريق شرقًا إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة، وغربًا إلى كانو وسكوتو وجاوه وتمبكتو وتوات. وهذا هو الطريق المشهور بدرب الأربعين.

3- طريق القيروان ورقلة، غدامس، توات، غات، مرزق، بلما، النجيمي.

4- طريق طرابلس، فزان، بلما، بحيرة تشاد.

5- طريق فاس، تلمسان، غرداية، توات، غات، مرزق، بلما، النجيمي.

وهكذا نجد أنَّ الصحراء لم تكن مانعة للتواصل بين منطقة تشاد والعالم العربي، بل كانت خطوط المواصلات تتقاطع فيها وتجوبها في الاتجاهات كلها.

وكانت القوافل التجارية غالبًا ما تكون كبيرة تنتظم القافلة الواحدة مئات الجمالة أحيانًا، وكانت تحمل منتجات المنطقة من العاج وريش النعام والصمغ وعسل النحل والجلود والماشية والرقيق فقد صدَّر التشاديون منتجاتهم وثرواتهم الطبيعية إلى البلدان المجاورة، ودول حوض البحر المتوسط فجذبت انتباه تجار مصر، وطرابلس، وبرقة، وفزان، وتونس، ومراكش، وغيرهم.

أمَّا البضائع الواردة فقد ذكر الدكتور عبد الرحمن عمر الماحي 41 اسمًا منها ويمكن تلخيصها في الأنواع التالية: ملابس، فرش، كتب، طيب، وروائح، بهارات، أسلحة وأدوات الحرب، أدوية.

ولم تكن الواردات المادية هي كل ما كانت تجلبه هذه القوافل للمنطقة بل كانت هناك واردات أنفس، فقد كانت هذه القوافل إلى السودان الأوسط: إلى السلام واللغة العربية والحضارة الإسلامية.

4-الموقع:
إن وجود منطقة تشاد قريبًا من الأقطار العربية كان من العوامل التي ساعدت على انتشار اللغة العربية فيها؛ فهي تجاور السودان وليبيا مباشرة، كما أنه لايفصل بين حدودها مع مصر إلا مثلث صغير جدًّا من الأراضي السودانية، وكذا حدودها مع الجزائر يفصلها مثلث صغير من الأرض الليبية، وهذا ما سهَّل عمليَّات الهجرات العربيَّة التي ذكرت سابقًا..

وما زال البدو الرحَّل في تشاد يتنقلون بين حدود تشاد والسودان وليبيا والجزائر بكلِّ يسر وسهولة وبصورة طبيعيَّة، أمَّا تاريخيًّا فإنَّنا نجد أنَّ الممالك والسلطنات التي نشأت في هذه الدول كان حدود بعضها يمتدُّ ليشمل أماكن تدخل ضمن أراضي الدول الأخرى حاليًّا.

فالجوار الجغرافي غالبًا ما يُؤدِّي إلى اشتراك القبائل وتداخلها بين الدول، وإلى تأثير وتأثر وتشابه في العادات والتقاليد ولذ فإن موقع تشاد في البوابة الجنوبية للبلاد العربية، أهلها لأن تكون موطنًا خصبًا لامتداد اللغة العربية وانتشارها، وجعلها ترتبط بجذور تاريخية وعرقية وثقافية مع العالم العربي.

وبجانب هذه العوامل التي أشير إليها، فإنَّه ممَّا لا شَكَّ فيه أنَّ استخدام الممالك الإسلامية التشادية للغة العربية في التعليم والتخاطب، وجعلها اللغة الرسمية لها كان من أهم العوامل التي ساعدت في انتشار اللغة العربية ورسوخها في المنطقة.

قصة الإسلام