اللغة العربية دليل رقي وحضارة
31-05-2018, 10:16 AM
اللغة العربية دليل رقي وحضارة
محمد جمال حليم

الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:


لقد طال زمان بَعدتْ فيه الأمةُ العربيةُعن لغتها الصافية، لغة البيان والفَصاحة، لغة القرآن الكريم، فلقد تحدَّى الله العرب قديمًا بهذا الكتاب المُعجز، وشرّف اللغة العربية بأن كانت أحد أوجه الإعجاز في كتابه، لقد انكفَأ كثيرون على مصطلحات عامية تلاسَنوها، وترجمات اقتبَسوها وتركوا اللغة الأم، التي تزهو تعبيراتها بالمعاني السامية، وتتعدَّد أوجه استخدامات ألفاظها لتأتي على المعاني الكامنة في النفس وتتَّسع لمذهب الخيال، فلكل تعبير عبير، ولكلِّ لفظ دلالة.


ولقد توسع حراسُ الدِّين من حراس اللغة في بيان فضلها وأنها تواجه تحديات جمّة؛ طالت طمس هُوِيَّتِها والإتيان عليها من جذورها بخططٍ ممنهجةٍ مدروسةٍ وموقوتة، وأظهر العلماء خطر التساهل في السير في ركْب ما يُسمى بـ"المدنية" بعيدًا عن الأصالة والعراقة التي تميزت بها لغتنا الصالحة للاستخدام في كل زمان ومكان، فاللغة العربية: هوية أمة وكيانها، ومظهَر تديُّن، فهي لغة القرآن الكريم والحديث الشريف، وهي دليل حضارة وعراقة، والشِّعر العربي يُجلِي هذا بما لا يدع حجةً لمُتعنِّتٍ أو طريقًا لمتسهِّلٍ، فهي ثريّة بمفرداتها وغنى تراكيبها وأصالتها ما جعلها لا تُقارَن بغَيرها، فاللغة كالأوطان لا تُعار ولا تُستبدل، كما قيل.

ولقد عانت - وما زالت - من موجات عاتية من الاستهداف الذي يرمي لتهميشها؛ تارة: لقداستها لتُحفظ في الكتب ويستدلَّ بها وقت الحاجة فقط، وتارة: بنَعتِها بالتخلُّف والجمود، وهم وفي سبيل ذلك يُعمِلون معاولَ التقويض بزرع مُصطلحاتهم المُعارة لتستخدم بسهولة في أحاديثنا دون امتِعاض ولا خجل، حتى خرج علينا رجال من أمّتنا يلبسون زِيَّنا لكنَّهم لا يتكلمون بلغتنا، فصار الكثير منَّا أعاجم!!؟.

لقد انصرف ذهْن هؤلاء - ومَن على شاكلتِهم - لعزْل اللغة عن الاستعمال العام، حتى حلَّت اللهجات العامية محلها، وأخذت مكانها في ألسنة الناطقين العرب، وللأسف حتى صرْنا نلحَظ الآن الانتشار الرهيب لبعض الكلمات الأجنبية على حساب اللغة العربية، والأدهى من ذلك: انتشار الأسماء الأجنبية على واجهات المحلات التجارية.

وفي بحثه عن اللغة العربية وتحدياتها الخارجية، أكد:( أ. د: محمد أمارة): أن التحديات التي تواجه اللغة العربية عامة هائلة، وهي تؤثّر في حيوية اللغة العربية والوظائف التي تقوم بها، فنرى في أقطاب عديدة من العالم العربي استعمالاً مكثَّفًا للإنجليزية في التعليم العالي، وتسمع في العالم العربي الأصوات المنادية بترْك الفصحى لصالح العامية أو لغة أجنبية، لأنها - حسب اعتقادهم - لا تفي بمُتطلبات العصر!!؟.

ولا يَخفى على كل ذي عينين: أن العولمة قد بسطت رداءها على العالم أجمع؛ وهي - وفي سبيل ذلك - بسطت رداءها على لغتنا، ولقد تعدَّدت حيَلُهم ووسائلهم حتى لكأنك يخيل إليك من مكرهم: أنهم لم يقصدوا، وهم يقصدون!!؟، فيذكر الدكتور عبدالصبور شاهين:"أن الكثير من المهيمِنين على مقاليد السلطة في العالم الثالث لا يُدركون أبعاد العولمة، وأن مدارس اللغات تتفشَّى في المجتمعات النامية لتغيير ألسنة الشعوب ومحاربة اللغات المحلية"؛( عبد الصبور شاهين: نحن والعولمة).

فالعولمة غزوٌ فكري وثقافي ولُغوي؛ لما تَقتضيه من انصِهار الأمم والشعوب الضعيفة بقيَمِها الثقافية، ويتجلى ذلك في الغزو اللغوي كما ذكر د. أحمد عبد السلام في كتابه:( العولمة والثقافة اللغوية وتبعاتها للغة العربية)، وللوقوف أمام هذا الطوفان الجرِف: لا بد من شحْذِ الهمَّة وأخذ العدة بتميكن الوسائل البديلة والعمل على نشر الفضيلة بعودة الأمة إلى هويتها واستبدال الحسن بالقبيح، والفصيح بالعامي الرذيل، وترك مُصطلحاتهم لمصطلحاتنا، والعمل على تَعريب علومنا وتثقيف أفرادنا، يقول الدكتور سعد هاني القحطاني في كتابه:(التعريب ونظرية التخطيط اللغوي): "إنَّ التعريب بمفهومه الواسع يهدف إلى جعل اللغة العربية لغة التدريس في جميع التخصُّصات العملية والطبية والتقنية، ذلك المفهوم الذي يتضمَّن رؤية أكثر تحديدًا لعملية التعريب، وهو وضْع مقابل عربي للمُصطلَحات الأجنبية".

ولقد ذهَب أئمتنا الكرام يُقنِّنون أحكامًا تتعلق بتعلم اللغة العربية، وهم بذلك يضعون النقاط فوق الحروف في قضية ظنَّ الكثيرون الآن: أن الكلام فيها من نافلة القول؛ يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "يجب على كل مسلم أن يتعلَّم من لسان العرب ما يبلغ جهده في أداء فرضه، وأما ما وراء ما يتأدَّى به الفرض، فتعلُّمه مندوب لغير العالم بالشريعة، وأما العالم بالشريعة، فلا بد له من أن يتعلم من العربية ما يفهم به كلام الشارع قرآنًا وسنَّة"، ونحوه قول شيخ الإسلام: ابن تيمية - رحمه الله -: "إنَّ نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب؛ فإنَّ فهْم الكتاب والسنة فرْض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتمُّ الواجب إلا به، فهو واجب، ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية".

وتوسَّع سادتنا العلماء في بيان أحكام التعبُّد باللغة العربية وغيرها، ففي قراءة القرآن بغير اللغة العربيةيقول الإمام النووي في المجموع: "مذهبنا أنه لا يجوز قراءة القرآن بغير لسان العرب سواء أمكنه العربية أو عجز عنها، وسواء كان في الصلاة أو غيرها، فإن أتى بترجمتِه في صلاة بدلاً عن القراءة لم تصحَّ صلاته، سواء أحسن القراءة أم لا، هذا مذهبنا، وبه قال جماهير العلماء منهم مالك وأحمد وداود".

ولقد صوَّبَ هؤلاء ما نُسب إلى الإمام أبي حنيفة من جواز قراءة القرآن بالفارسية لغير القادر على العربية، بقولهم: صحَّ رجوعه عن ذلك، وهو ما أكَّده العلّامة ابن عابدين الحنفي من صحة رجوع أبي حنيفة عن قوله في هذه المسألة؛ انظر:(حاشية ابن عابدين:1 / 484).

وعلى ما سبَق من بيان، يظهر بما لا يدع مجالاً للشك: أن اللغة وما تعانيه لم يأتِ عفوَ الخاطر، بل هو: نتاج لخططٍ وضعت لطمس هويتنا العربية والإسلامية منذ زمان، فهلّا نشمِّرُ عن ساعدَي الجدِّ، لننفض التراب عن واقع مرٍّ أليمٍ؛ بالعودة الرشيدة إلى النبع الصافي والمورد العذب والتعبيرات السامية والألفاظ الراقية، بعيدًا عن ترجمات مُسفَّة ومصطلحات جافة.

فالعودَ العود إلى لغتنا، لغة القرآن والسنة ولسان الأئمة،فهل من مجيب؟.