الحضارة المغربية في عهد الدولة الإدريسية
13-11-2017, 06:53 AM


بعد أن انتصر العباسيون على العلويين في معركة فخ عام 169هـ/785م، فر إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب إلى المغرب الأقصى وأيده البربر هناك، فأسس إمارته، ثم قويت شوكته. وتولى بعده ابنه إدريس (177 - 213هـ / 793 - 828م)، ويعتبر إدريس أبرز حكام دولة الأدارسة ومؤسسها الحقيقي، وينسب للأدارسة (172 - 375هـ / 788 - 985م) أنهم أول من نقلوا الحضارة الإسلامية إلى المغرب. حتى قضى عليهم العبيديون.

أهم أعمال دولة الأدارسة
من البديهي أن يكون لدولة الأدارسة جوانب حسنة، كما أن لها جوانب من الضعف، وقد برهن الأدارسة على شيء غير قليل من الحنكة في استغلال الفرص وخطب ود العبيديين تارة والأمويين تارة أخرى، إذ لم يكن ينفعهم أمام ضغط القوات التي تصارعهم في الداخل والخارج، إلا أن يسلكوا سياسة المرونة، وكان في دخول الأدارسة إلى المغرب، انتصار لعربية لا يستهان بها، ولم يعرف عنهم تعصب جنسي، كما أن سيرتهم في سياسة الملك على العموم كانت طيبة يسودها اللين والتأثر إلى حد كبير بتعاليم الإسلام.

وما من شك في أنهم عملوا على نشر الدين الحنيف في ربوع الصحراء، ذلك لأن صنهاجة الجنوب لم يعتنقوا الإسلام إلا منذ القرن الثالث الهجري، وهو القرن الذي نشط فيه الأدارسة للعمل الإسلامي، وخاصة في النصف الأول منه.

وقام الأدارسة إلى ذلك بمجهود مشكور في ميدان العمران، بتأسيس عدة مدن، لاسيما فاس التي قدر لها أن تلعب فيما بعد أعظم دور في تاريخ المغرب السياسي والفكري، وبدأت فاس تستمد حضارتها في عهد الأدارسة من القيروان وقرطبة، لتصير بعد ذاك مركز إشعاع حضاري في المغرب العربي.

نظام الحكم والإدارة
من العسير أن يتوصل الباحث إلى معلومات وافية عن نظام الحكم والإدارة في عهد الأدارسة، غير أنه يمكن أن نستنتج -اعتمادا على المصادر القليلة جدا في هذا الباب- أن الوزراء لم يكونوا في عهد الأدارسة متعددين، بعكس النظام الذي كان موجودا لدى الأمويين في الأندلس، حيث وزعوا مهام الدولة على بضعة وزراء.

وقد استعان الأدارسة بالبربر والعرب على السواء في تسير شؤون الدولة، بيد أن ولاة الأقاليم أصبحوا يعينون من أمراء العائلة المالكة، منذ اعتلى محمد بن إدريس (213 - 221هـ / 828 - 835م) منصة الحكم، وبناء على رواية البكري فان مناطق النفوذ الإدريسي أصبحت موزعة في عهد هذا الأمير (على إخوته) كما يلي:

1-صنهاجة ومغمارة لعمر الإدريسي.
2-هوارة في ناحية وهران لداود الإدريسي.
3-البصرة وطنجة وما حولهما لقاسم الإدريسي.
4-ناحية بني ملال ليحيى الإدريسي.
5-ازكورة وسلا لعيسى الإدريسي.
6-وليلي وناحيتهما لحمزة الإدريسي.
7-لمطة(قرب كولمين) لعبد الله الإدريسي.

بينما احتفظ محمد بفاس والتسيير المركزي، وعند قدوم العرب أيام إدريس الثاني، عيَّن منهم عددا كبيرا من الموظفين المركزيين والإقليميين من قضاة وجباة وغيرهم، بل عين منهم وزيره وهو عمير بن مصعب الأزدي، كما استقضى بفاس عبد الله بن مالك الخزرجي. وقد كانت حكومة إدريس الثاني نواة لنظام المخزن، وكان من محاسن هذا النظام اللا مركزي أن اهتم كثير من الأمراء الإقليميين بالعمارة في أقاليمهم، إلى الدعاية لصالح الإسلام. وكانت مداخيل الدولة من الزكوات والأعشار، ولم يثقل كاهل السكان بضرائب إضافية.

أما فيما يرجع إلى النقود، فقد ضربت دراهم باسم إدريس الثاني سنة 181هـ و 183هـ، والظاهر أن التعامل بالنقود المحلية، كان يجري إلى جانبه التعامل بنقود الخلافة العباسية وغيرها، فقد عثر في وليلي على نقود لاسم "قيس بن يوسف" ضربت عام نيف ومائة وثمانين، بل إن النقود قد بدأ في عهد إدريس الأول بتدغة سنة 174هـ ونقش في أحد وجيهها:(لا إله إلا الله - لا شريك له - باسم الله - ضرب هذا الدرهم بتدغة سنة 174هـ)، وفي الوجه الثاني صورة هلال، ثم: "محمد رسول الله" وتحته "مما أمر به إدريس بن عبد الله - جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا". وقال المرحوم عبد الرحمن بن زيدان إنه رأى هذه السكة، ووزنها غرماتو 69 جزءا من الغارم.

وقد كان المعتاد في الدولة الإسلامية أن يضرب بعض الأمراء والقادة المحليون نقودا باسمهم إلى جانب نقود الدولة، فقد تأكد أن خالد بن الوليد ضرب نقودا في طبرية أيام عمر بن الخطاب ولم يشذ المغرب عن هذه الطريقة، حيث أن داود بن إدريس ضرب باسمه نقودا بينما كان تابعا لأخيه محمد.

الجيش في عهد الدولة الإدريسية
كان الجيش في عهد الدولة الإدريسية يجمع في البادية بين عناصر مختلفة من البربر المتطوعة المنتمين إلى غياثة ومغلية وبني يفرن وسدراتة وأوربة وزواغة، ثم أصبح في عهد إدريس الثاني منظما حيث انضم إليه 500 فارس من العرب الواردين من الأندلس وإفريقية، ومن المعلوم أن إدريس الثاني كان قد تلقى تدريبا عسكريا طويلا على يد راشد قبل أن يصبح ملكا، إلا أن جيش الأدارسة كان في الغالب قليل العدد.

لغة الإدارة في عهد دولة الأدارسة
كانت بدون شك اللغة العربية، لدليل نقوش السكة وخطبة إدريس الثاني عند التنصيب، والملاحظ أن المناطق التي استقر فيها الأدارسة، انتشرت فيها اللغة العربية انتشارا واسعا، وما زلنا نلاحظ هذا الأثر العميق في الريف والسوس، وهما من مناطق البربر الأصلية، وحتى احتكاك البربر بالأميين الذين وضعوا المغرب تحت نفوذهم أزيد من ربع قرن، كان له أثره في نشر العربية بين السكان.

مذهب الدولة الإدريسية
دخل الإسلام إلى المغرب في القرن الأول مبنيا على تعاليم الكتاب والسنة، حتى إذا كان مطلع القرن الثاني وبدأ الخوارج يتسربون إلى المغرب في صفوف الجيش الإسلامي، وجدوا المغرب ميدانا خصبا لنشر مذاهبهم، خاصة والولاة الأمويون لم يعدوا يطبقون تعاليم الكتاب والسنة تطبيقا حقيقيا، ولما جاء الأدارسة، وجدوا الخوارج في سجلماسة وغيرها، كما وجدوا البرغواطيين في تامسنا، وقد دخل المذهب الحنفي إلى المغرب عندما جاءت جيوش العباسين إلى شمالي إفريقية، ولكن هذا المذهب لم يكتب له الانتشار، لأن الدولة لم تتبنه.

والظاهر أن مؤسسي الدولة الإدريسية لم يأخذوا المسلمين بمذهب مالك، خاصة وأن مذهب الإمام مالك، لم يصبح مذهبا حقيقيا إلا بعد أن انتشر تلاميذه في بقاع المملكة الإسلامية، وصاروا يتبسطون في كتابه وأقواله بالشرح والتدقيق، ولا يمكن أن نقول على أي حال بأن مذهب مالك انتشر في المغرب بفضل الأدارسة، فأصحاب الفضل بحق، هم المرابطون الذين عملوا على إقرار المذهب في المغرب كله، ومهما يكن من شيء، فإن عهد الأدارسة قد عرف مذاهب متعددة: الخارجية، الشيعية، المالكية، حسب الظروف المكانية والزمانية التي اكتنفت حياة هذه الدولة.

وعلى كل حال، فإن الأدارسة كانوا أميل إلى المذهب الشيعي منهم إلى غيرهم، حتى أنهم كانوا ينتهزون أول فرصة تسنح لهم ليلغوا الخطبة باسم الأمويين، ويقروها باسم العبيديين، ولا أظن أن هذا شيء يدعو إلى الاستغراب، فكل من الأدارسة والفاطميين يشتركون في شرف النسب، إذا سلمنا بأن الفاطميين من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن الفاطميين يقرون عصمة الإمام كشيء واجب، وهذا مما يفيد الأدارسة معنويا في أوساط البربر، ولو أنهم لم يتعصبوا للشيعة تعصب الفاطميين أنفسهم، هذا إلى جانب اعتبارات سياسية جعلت الأدارسة يميلون إليهم.

ومن المؤكد أن مذهب مالك قد دخل أيضا في عهد الأدارسة بفضل الأندلسيين والمغاربة، أما في الأندلس نفسها، فقد أدخله زياد بن عبد الرحمن الملقب بشبطون، ثم تلميذه يحيى بن يحيى الليثي الذي درس بدوره على مالك، وهو بربري من طنجة، قوي نفوذه لدى بني أمية في الأندلس أواخر القرن الثاني، حيث أصبح تعيين القضاة بمشورته، ومع أن الموطأ قد روي بخمس عشرة رواية، فإنه لم يبق منها إلا رواية محمد بن الحسن الشيباني، ورواية يحيى الليثي وقد توفي سنة 234هـ، وإذا كان الأمويون بفضل نفوذهم السياسي قد عملوا على إقرار مذهب مالك في الأندلس، فإن المغرب قد ساهم في إقرار هذا المذهب بمجهودات فردية، فقد قيل إن أول مغربي عمل على نشر مذهب مالك بالمغرب أبو ميمونة دراس بن إسماعيل الجراوي في أوائل القرن الرابع، وينسب إليه مسجد بفاس، وقد توفي سنة 357هـ، وعلى كل فإن فقهاء المغرب الأوليين درسوا إما مباشرة على مالك، أو تلقوا علمهم عن فقهاء الأندلس والقيروان.

الحالة الاقتصادية في عهد الأدارسة
كانت الأحوال الاقتصادية تختلف باختلاف الظروف الطبيعة والسياسية، أما في بداية عهد الدولة فقد كانت الحالة الاقتصادية حسنة بفضل الغنائم التي حصل عليها الأمراء في حرب المشركين، بالإضافة إلى انتهاج سياسة تتفق ومبادئ الإسلام الأساسية، غير أنه من الصعب أن نأخذ نظرة مفصلة عن الحالة الاقتصادية لهذا العهد.

ونظرا لعدم عناية الدولة بالميدان الصحي، فقد كانت الأوبئة تفتك بالسكان فتكا ذريعا، إلى جانب الجراد الذي كان يأتي على المزروعات، فتتفاحش أثمان البضائع والمواد الغذائية، ففي سنة 260 و 285 و 344هـ انتشر الوباء بشكل خطير في الأندلس والمغرب، وفي سنة 260 هـ أيضا حدثت مجاعة عظيمة مات من أجلها عدد كبير من السكان، كما أن الطبيعة قست على المغرب، فحطم البرد في سنتي 339 و 342هـ الأشجار والصمار وقتل المواشي والطيور، وفي سنة 379هـ استمرت الريح الشرقية ستة أشهر، وتسببت عنها أوبئة فتاكة، ولكن كانت تأتي ظروف يعم الرخاء إلى حد كبير، حتى كان الفلاحون يضطرون أحيانا إلى ترك الزرع في سنابله لعدم وجود من يشتريه.

البناء والعمران في العهد الإدريسي
أنشأ الأدارسة بالمغرب مدنا عديدة، من أهمها المدن التالية:

1- مدينة فاس
تقع قرب وادي فاس، في موقع يجعلها قريبة من الريف والمغرب الشرقي والمحيط الأطلسي، وذلك في عهد إدريس الثاني، على أكثر الروايات سنة 193هـ.

2- البصرة
وأول من تولاها من الأدارسة إبراهيم بن القاسم بن إدريس، وكانت تعرف في أول الأمر ببصرة الكتان، وقد تخربت في وقت مبكر.

3- جراوة
تقع في الشمال الشرقي من المغرب، وقد حدد ابن غازي بناءها في عهد أبي العيش سنة 237هـ.

4- قلعة حجر النسر
بنيت في الجنوب الشرقي من البصرة سنة 317 هـ على يد إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس.

5- جامعة القرويين
أما أهم أثر تركه الأدارسة على الإطلاق، فهو جامعة القرويين، نسب تأسيسها إلى فاطمة بنت محمد بن عبد الله الفهري أحد العرب المهاجرين من القيروان، وقد بنت القرويين من المال الذي ورثته عن والدها، وكان الشروع في البناء سنة 245هـ. وتعتبر القرويين أقدم جامعة في العالم.

الحركة الفكرية في عهد الأدارسة
إذا كانت المصادر تتوفر نسبيا لمن يدرس تاريخ الأدارسة السياسي، فهي لا تكاد توجد بالنسبة لدارس الحركة الفكرية، ولا يدل هذا مطلقا على أنه لم يكن هناك علماء أو أدباء، إنما الشيء الذي يلاحظه الباحث في هذا الباب، أن الأدارسة لم يكونوا ذوي ثروة تساعدهم على تشجيع الحركة العلمية والأدبية إلى حد يكثر معه الإنتاج وتنتشر حركة التأليف.

حتى أن تاريخ الأدارسة، كتبه مؤرخون معظمهم متأخر جدا عن عصر الأدارسة، أما المعاصرون فليس إلا قليل من المغرب الأقصى على ما ظهر، ونظرة قصيرة على تاريخ الأمويين بالأندلس، والعبيديين بإفريقية، تدلنا على مدى حركة الإنتاج الواسعة نسبيا في كل من إفريقية والأندلس، في نفس الوقت الذي كانت الحركة الفكرية بالمغرب، مسايرة بدون شك للحركة الفكرية بالقطرين الشقيقين، وقد حاولت عبثا أن أجد مؤلفا مغربيا مما بقي من عهد الأدارسة، فهل كانت الحركة الفكرة بالمغرب عقيمة إلى هذا الحد؟ بكل تأكيد لا.

غير أنه كان من عادة الدول الإسلامية أن تغدق الأموال الطائلة على الأدباء والعلماء، ليتفرغ كثير منهم للإنتاج، مكتفيا في معيشته بما يدره عليه أمراء الدولة وكبار المسؤولين فيها، أما فقر الأدارسة واشتغالهم وكبار المسؤولين فيها بنشر الإسلام،وبساطة حياتهم، فلم تسمح لهم حتى بإنشاء جيش قوي لمواجهة الطامعين فيهم، فضلا عن القيام بعمل جبار في ميدان الحضارة.

وأهم من كتب عن تاريخ الأدارسة ابن أبي زرع فهو ينقل كثيرا عن البرنوصي المعاصر لهم، غير أن كتاب البرنوصي يعتبر لحد الآن مفقودا، كما كتب محمد بن يوسف الوراق عن المدن التي عرفت ازدهارا كبيرا في عهد الأدارسة، خصوصا سجلماسة ونكور وفاس، وقد توفي هذا المؤرخ سنة 292هـ، وكثيرا ما اعتمد عليه ابن عذارى في "البيان المغرب".

وكانت حركة العلوم الدينية مزدهرة في عهد الأدارسة، حتى أن البرغواطيين كان بينهم من فقهوا في علوم الدين وعاصروا الأدارسة، وفيهم من تلقى علومه عن الأدارسة كيونس الشذوني الأندلسي الأصل، وكانت رحلته مع زيد بن سنان الزناتي الواصلي وبرغوت بن سعيد الصفري، ومن عجيب المفارقات أن يجتمع أصحاب هذه المذاهب المختلفة في رحلة لدراسة معا، أو على الأصح، أن يجتمعوا لدراسة ثم يرجعوا إلى المغرب وقد تفرقت بهم المذاهب.

أما الحركة الأدبية، فقد عرفت نشاطا عظيما، حفظت لنا منه المراجع نتفا قليلة متفرقة، ولكنها تنبئ بحق عن الروح المذهبية والدينية التي كانت تسود الأدب في ذلك العصر.

وقد عرف الأدارسة معظم الأبواب التقليدية، غير أن الشعر السياسي كان طاغيا في الأبواب الأخرى نظرا للصراع القائم بين مختلف النزعات آنئذ، وكان بين أمراء الأدارسة عدد كبير من الأدباء والشعراء، ومنهم إدريس الثاني، ومن شرعه الأبيات التالية التي يعاتب فيها بهلولا الخارجي الذي خرج عن بيعته ودعا لإبراهيم بن الأغلب:

أبهلــول قــد شممت نفـسك خطة *** تبلــدت منها عولة برشـاد
أضلك إبـراهيم من بعــــــد داره *** فأصبحت منقادا بغير قياد
كأنك لـم تسمع بكيد ابن أغــلـب *** غدا آخـذا بالسيف كل بلاد
ومن دون ما منتك نفسك خاليـا *** ومناك إبراهيم شوك قتــاد

وقد حضر داود الجعفري المتوفى سنة 261هـ إلى جانب إدريس الثاني في إحدى غزواته مع الصفرية، فلاحظ تقلبه على السرج وقلة استقراره، فأجابه إدريس بقوله: "ذاك مني زمع إلى القتال وصرامة فيه، فلا تظنه رعبا"، ثم تمثل ببيتين نسبا إلى الإمام علي، وهما:

أليس أبونا هاشم شد أزره *** وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
فلسنا نمل الحرب حتى تملنا *** ولا نشتكي مما يؤول من النصب

وينم أدب المولى إدريس الثاني عن حماسته الفياضة وعزة نفسه وثباته في الحرب، ولدينا أبيات أخرى لإبراهيم بن القاسم بن إدريس يعاتب فيها أموي الأندلس على استكانتهم لاستبداد المنصور بن أبي عامر، وان كان الأدارسة يكرهون كلا من الفريقين، بيد أن تدخل المنصور كان أشد عليهم من تدخل ملوك بني أمية:

فيما أرى عجــــــــــبا لمن يتعجب *** جلت مضيبتنـا وضــاق المذهــب
أيكـــون حـــيا من أمــية واحــــــد *** ويسوس هذا الملك هذا الأحدب؟
تمشــي عساكرهــم حوالي هــودج *** أعـــواده فيهــــن فـــرد أشهــب

وقد اشترك البربر بطبيعة الحال في الحركة الأدبية، وهكذا نرى سعيد بن هشام المصمودي يخاطب البرغواطيين في وقعة "بهت" التي قتل فيها عدد كبير من البربر، ونلاحظ في هذه القصيدة الطويلة التي قدم لنا منها ابن عذاري بضعة أبيات، تقليدا واضحا لمعلقة عمرو بن كلثوم وزنا وقافية، بالإضافة إلى تشابه المناسبتين، بل نلاحظ أكثر من ذلك وأهم تأثير القرآن في أسلوب الشاعر الذي يقول:

قفي قبل التفرق فاخــــــبرينـا *** وقولي واخبري خبرا مبينا
هموم برابر خسـروا وضلوا *** وخابوا لأسقموا مـاء معينا
يقولـــــون النبي أبـو عفيـر *** فـأخــــزى الله أم الكـاذبينـا
ألــم تسمــع ولم تر يوم بهت *** علــى آثـار خيلهــم رنينــا
رنين البقاكـيات بهــم ثكالــى *** وعاويـــة ومسقطـة جنينـا
هنــاك يونــس وبنــو أبيـــه *** يوالـون البـــوار معظمينــا

كما ظهر الألم في شعر الأدارسة الذين أحس الأولون بجنين إلى مواطنهم الأصلية، وفي الأبيات التالية يأسف إدريس الثاني على فراق أحبته، ولا أدري من هم هؤلاء الأحبة الذين يعنيهم:

لو مد صــــــــــبر الناس كلهم *** لكل في روعتي أو ضل بي جزعي
بان الأحبة فاســــتبدلت بعدهم *** هما مقيمــا وشمـلا غير مجتمـع
كأنني حين يجري الهم ذكرهم *** إلــى جوانــح جســم دائم الهلـــع

ويقول شاعر آخر سكن بين البربر في ورغة، وسماهم أعاجم:

ألا هل أتى أهــل المدينة أنني *** بورغة بين الأعجمين غريب
إذا قلت شيئان قبل ماذا تريده *** لهم بين أحرار الوجوه قطوب

أما المدح، فيجري على الطريقة التقليدية من وصف بالكرم والشجاعة وما إلى ذلك، بل يتجلى فيه التكسب أحيانا بشكل يزري بقيمة الشاعر، ومن ذلك قول بكر بن حماد في أحمد بن القاسم بن إدريس أحد ولاة البصرة:

إن السماحة والمروءة والنـدى *** جمعوا لأحمد من بني القاسم
وإذا تفاخــرت القبائـل وانتمـت *** فافخر بفضل محمد وبفاطـــم
وبجعفر الطيار في درج العـــلى *** وعلي العضب الحسام الصارم
إني لمشتاق إليـك وإنمـــــــــــا *** يسمو العقاب إذا سما بقوادم
فابعث إلى بمركب أسمــــــو به *** على أن أكون عليك أول قادم
واعلــم بأنك لــن تنال مـــحبــة *** إلا ببعــض ملابــس ودراهــم

ويلاحظ خلل واضح في الشطر الثاني من البيت الأول.
وأما فيما يخص الوصف، فلا يمكن أن تؤخذ عنه نظرة كافية لقلة ما دون منه في مصادر متفرقة، وفي البيتين التالين، يصف أحمد بن فتح التاهري جمال نساء البصرة المغربية، وقد بلغت بهذا الشاعر أن برع في جمع أربعة أوصاف لجمال المرأة البصرية مع الدقة في الوصف، وذلك كله في بيت واحد:

ما حاز كل الـــحسن إلا قينـة *** بصرية في حمــرة وبياض
الخمر في لحظاتها، والورد في*** وجناتها هيفاء غير مفاض

هذه نظرة موجزة جدا عن الحضارة المغربية في عهد الأدارسة، وهي ميدان بكر لم يتناوله بعد قلم بالاستيفاء والدرس العميق لقلة المصادر مع الأسف.

المصدر: مجلة دعوة الحق، العدد 38، جمادى الأولى 1405هـ / يناير 1985م.