كلمات.. تربوية ونفسية.. مضيئة[
04-07-2016, 12:17 PM
[center]كلمات.. تربوية ونفسية.. مضيئة
أنس أحمد المهواتي[/center]



الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:

كثيرًا ما استوقفَنِي هذا الحديث النبوي الشريف: ((يا غلام، إنِّي أُعلِّمك كلمات...)): أستلهمُ منه عِبَرًا تربويَّة ونفسيَّة، وكلَّما أعدت قِراءَته وتفكَّرت فيه: اكتشفتُ شيئًا جديدًا، فأنهل من هذا المَعِين الصافي، أعبُّ منه عبًّا، مع أنَّه مجرَّد كلمات!.
عن ابن عباسٍ - رضِي الله عنهما - قال: كنت خلْف النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا فقال: ((يا غلام، إنِّي أُعلِّمُك كلمات؛ احفَظِ الله يحفَظْك، احفَظِ الله تجِدْه تُجاهَك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعَنتَ فاستَعِنْ بالله، واعلَمْ أنَّ الأمَّة لو اجتمعتْ على أنْ ينفَعُوك بشيءٍ لم ينفَعُوك إلا بشيءٍ قد كتَبَه الله لك، وإنِ اجتمَعُوا على أنْ يضرُّوك بشيءٍ لم يضرُّوك إلا بشيءٍ قد كتَبَه الله عليك، رُفِعتِ الأقلامُ، وجفَّت الصُّحف)).
خِطابٌ نبوي للأطفال والشَّباب اليافِعين خاصَّة؛ عماد هذه الأمَّة، وسر نهضتها، ومستقبلها الزاهر المشرق، إنَّه من المعلِّم والمربِّي الأوَّل: محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - لنقف عندَه وقفةً تربويَّة نفسيَّة، والوقفات الأخرى لها أهلُها، إنَّها كلماتٌ معدودة، لكنْ ليست ككلِّ الكلمات، إنَّها كلماتٌ مُضِيئة؛ لهذا نتساءَل: كيف نعكسها إيجابيًّا على واقِعنا التربوي والنفسي؟.
لندخُل في صُلب الموضوع؛ لأنها كلمات ابن عباس - رضِي الله عنهما – وهو: حبرُ هذه الأمَّة، فقد سمع ووعَى هذه الكلمات وطبَّقها على حياته كلها.
• كنت خلفَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيًّا كان موقعه بالضبط المهمُّ هو: التواضُع والقُرب من المتعلِّم، كأنَّه صَدِيق وَدُود؛ لكسْر الحواجز النفسيَّة بين المعلِّم والمتعلِّم، إنَّه نوعٌ من التغيير والتجديد، فالتعلُّم لا يكون فقط في تلك الغُرفة الصفيَّة المغلقة أو المسجد، لنتخيَّل أنَّها رحلةٌ علميَّة ثقافيَّة في الهواء الطَّلق، استكشافيَّة تُثِير التَّفكير الإيجابي؛ لأنَّ القُدوة موجودٌ، والمكان مريح، والزمان مناسب.
• الخطاب النبوي: ((يا غُلام)): إنها مُناداةٌ رقيقة رَقراقة، محببة للطِّفل والشَّاب الصغير، تُثِير انتباهَه، تُحفِّزه على الاستماع والتركيز، لا يصبُّ المعلِّم المعلومات صَبًّا، بل لا بُدَّ من تَشوِيقٍ وتَلطُّفٍ مُفيدٍ لاستحضار الذهن.
• ((إنِّي أُعلِّمُك كلماتٍ)): أعلِّمك: تعليمٌ وليس تلقينًا، دافعٌ للعلم والبحث والتطوير، والتفكير الإبداعي الإيجابي، وليس: احفَظْ عن ظهْر قلب فقط.
• ((كلمات)): هنا حتى نُؤمِّن المتعلم، ونُخفِّف من توتُّره وقلقه، كأنَّنا نقول له: لن نُثقِل عليك حتى لا تملَّ، إنَّها بضعُ كلماتٍ، سهلة حملها، لكنَّها تُثِيرُ الدافعيَّة للتعلُّم كأنها:"حوافز معنويَّة"، كلُّ كلمة تدعوك لأنْ تفكِّر أنت، تبحث أنت، أنت المكتشِف، أنت المبتكِر، إنَّها رُؤوس أقلام نُقدِّمها لك؛ لأنَّنا نُقدِّرك، نحبُّك، نَثِقُ بك أيها الطفل والشاب والإنسان، فأنت المستقبل كله، هذا يجعله يُبادِلُنا نفس الشُّعور وأفضل، وينمو لدَيْه الذَّكاء العاطفي الانفِعالي والاجتماعي... إلخ، يزيدُ من ثقته بنا وبنفسه، وتقوى شخصيَّته، وتصقل قُدراته، وتوجه ميوله للخير.
• ((كلمات)): دعوةٌ لإعادة النظَر في مَناهِجنا، وفي الكم:"كميَّة المعلومات" التي تُقدَّم للطالب، أصبح كثيرٌ من الطلاب يشتَكُون من ثِقل حَقائبهم؛ لذلك ندعو إلى التَّركيز على:"النوعيَّة"، أصبح عددٌ من الطلاب، وليس الكل يحفَظُون المعلومات لتقديمها أيَّام الامتحانات، لكن سرعان ما ينسونها بعدَها، فلا بُدَّ من إعادة النظَر في ذلك.
• ((احفَظِ الله يحفَظْك)): العلمُ من الله؛ لذلك لا بُدَّ من أنْ نُقوِّي صلتَنا بالله، إنَّه توجيهٌ للعقول والقلب والحواس كلها إليه - سبحانه لا شريك له - نحفظه ليَحفَظنا، إنَّه علَّمنا ما لم نعلم؛ ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾.
إنَّها علاقةٌ تبادليَّة، انسِجامٌ عاطفي، توجيهٌ إلى مَهارات تفكير عُليَا، ما قيمة المرء بدون التفكير!!؟.
بَقِي الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - (13 عامًا) في مكة المكرمة يُركِّز على العقيدة والقُرآن: يخاطب عُقولهم ويدعوهم للتفكير؛ ﴿ ... لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾، ﴿ ... لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾، ﴿ قُلِ انْظُرُوا... ﴾.
عجيبٌ!!!؟: لماذا لم يتكلَّم عن الصلاة والزكاة والحج... والأمور الأخرى في البداية، إن دلَّ هذا على شيءٍ، فإنَّه يدلُّ على أهميَّة العُقول وأهميَّة التفكير وأهميَّة العقيدة.
ما أجملها من طريقة، لا إكراه، لا تهديد، لا عِقاب، بل إقناع بالتي هي أحسن.
الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - المبعوث رحمةً للعالمين، المعلِّم والمربِّي الأوَّل ركَّز - كما قُلنا - على العقيدة والتفكير الإيجابي الإبداعي، بنَى أساسًا قويًّا، فكان الأمر سهلاً في تعديل أيِّ سُلوكٍ خاطئ وأيِّ أفكار سلبيَّة، وليس الأمر بالإكراه أو التهديد، أو العِقاب أو العُنف، حتى في التربية والتعليم وغرْس الأخلاق، بل هي الحِكمة والموعظة الحسَنة.
بعد أنْ رسخت العقيدة واستغلَّ الناس عُقولهم في التفكير الصحيح، قال لهم: صلُّوا، فصلَّوْا، وهكذا أبطل الخمر ووأْد البنات... وغيرها، كلُّه بمجرَّد كلمات، لماذا!!؟، الجواب: لأنَّ هناك عُقولاً تُفكِّر بحريَّة، وقلوبًا فيها عقيدة صحيحة.
وكذلك الاضطرابات السلوكيَّة والانفعاليَّة - (وهنا مربط الفرس، والمغزى الحقيقي الذي نريدُ) - لا يُمكن التخلُّص منها بالأدوية فقط، إلا إذا عدَّلنا الأفكار والمشاعر بشكلٍ إيجابي بعلاجٍ معرفي سلوكي، ووجَّهناها نحوَ الخير والسَّلام؛ لأنَّ السُّلوك هو نتاج التفكير والمشاعر، (فكر سيِّئ = سلوك سيِّئ وأخلاق سيئة)، (فكر جيد = سلوك جيِّد وأخلاق جيِّدة).
وكذلك: العلاقة بين الطُّلاَّب والمعلِّمين، والزَّوج مع زوجته، والأب والأم مع الأولاد والبنات... وهكذا الناس فيما بينهم: إنْ كان عندهم ذلك الزاد وتلك المعاني والقِيَمُ السامية: سنعيشُ في أمانٍ ومحبَّة وسَلام، ستقلُّ المشاكل، وسنَمضِي سويًّا نحو رُقِيِّ وازدِهار مجتمعاتنا.
• يشتَكِي عددٌ من الطلاب سَواء في المدارس أو الجامعات ويقولون: عندما ندخُل مرحلةً جديدةً أو نريدُ أنْ ندرس تخصُّصًا جديدًا، نتشجَّع ثم نشعُر بالملل، ونتراجَع وقد نتوقَّف، لا دافعيَّة، لا نعرف كيف نبدأ، لماذا يحدث هذا معنا!؟.
فلا بُدَّ للمختصِّ أنْ يأخُذ الأمرَ من جميع الجوانب، ويُخاطِب عقلَ هذا الطالب وفكرَه ويسأله: لماذا تدرس؟، ألم تكنْ هذه ميولك؟، ما رأيك أنْ تدرس لتُحقِّق هدفًا رائعًا، فالعيش بلا هدفٍ مَضيَعة للجهد والوقت، ألا وهو: مَرْضاة الله، ثم إفادة الناس،(وليس للنجاح الشخصي فقط)، لا تشغل "فكرك" بأمورٍ سلبيَّة، تُنظِّم وقتك، وتضع برنامجًا ضِمنَ خطَّة وإستراتيجيَّات؛ لتكون - بإذن الله - طبيبًا أو مهندسًا أو صيدليًّا أو معلِّمًا، إنْ وجَّهنا:"طريقة التفكير" بالشكل الصحيح سنزيد:"الدافعية" لديه للتعلُّم والإبداع والبحث والتطوير والنجاح كذلك.
البناء النفسي والصحَّة النفسيَّة مهمَّة كأهميَّة صحَّة الجسد؛ حتى تكون نفوسُنا راضيةً مطمئنَّة؛ ﴿ يَا أَيَّتُهَا "النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ" * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾، ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾.
ما أجمل أنْ تسمو أرواحُنا نحوَ خالقنا، ونعيش بفكرٍ إيجابي نيِّر، فلا خوف ولا قلق، بل أمن وأمان وراحة بال، في مدارسنا، في أسرنا، مع أقاربنا وجِيراننا، في مجتمعاتنا - بإذن الله.
كثيرةٌ هي الكلمات المضيئة تربويًّا ونفسيًّا وأسريًّا، ولنا لقاءاتٌ أخرى معكم - بإذن الله.

نستَودِعُكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.