غير ان المبالغة في التهرب من المسؤلية التي وضعها الله في يد الانسان , لما كرمه بالعقل وجعله خليفة في الارض , و محاولة المسيحيين وضع هذه المسؤلية كلها على عاتق المسيح عليه السلام , باعتباره الاضحية والفادي الذي فد به الله البشرية (( هذا هو حمل الله الذي يزيل الخطيئة العالم )) يوحنا 1 : 29 وان الله بدل ابنه الحبيب حتى لا يهلك العالم , جعلهم يرمون بكل اوزارهم على المسيح.
وكما طغى على النصارى هذا الفهم الخاطئ لرسالة المسيح , فان سوء فهمهم لمعجزاته جعلهم يعدون كل محاولة عقلية او علمية تخرجوا عما اعتادوا عليه , إجحافا في حق الرب وكفرا به .
ومن هذا المنطلق الخاطئ رفض القساوسة السمح للنصارى , الاطلاع على الاناجيل ومنعوا ترجمته من لغته اليونانية , وكذلك منعوا اي تفسير او تاويل لنصوصه خارج الكنيسة , وهذا خشية من اكتشاف حقيقة ما جاء فيه من امور غير معقولة , يرفضها المنطق ويكذبه الواقع .
وقد شنت الكنيسة حربا ضارية , و اضطهدة الفلاسفة والعلماء عبر عصور طويلة , ويمكننا الرجوع الى رسائل بولس , وكيف انه نصح المؤمنين وحذرهم من "شراك الفلاسفة"
جاء في رسالته الى كولوسي 2 : 8 : ((... احذروا ان يوقعكم احد فريسة بواسطة الفلاسفة)).
فالفلسفة بوصفه وسيلة عقلية , قد رفضه الرهط الاول من النصارى او ما يسمون "بالقديسين" , وعاقبوا من استعملها , ومن ثم بدات حملة الكنيسة ضد الفلاسفة و الباحثين النصارى , وقامت بحرق بعضهم وصلب بعضهم , وسجن بعضهم الاخر , وقامت كذلك بانشاء اول جهاز تجسسي لمكافحة العلماء والهراطقة الذي يعتبر فرع من جهاز محاكم التفتيش , او الجناح العسكري للكنيسة الكاثوليكية التي كانت تهيمن على العالم النصراني انا ذاك , ووضعت اول لائحة تضمنت الكتب و البحوث التي يمنع ويعاقب كل من يقتنيه , وقد بلغ رعب الكنيسة من العلم الى درجة ان جماعة من القساوسة تبنت شعارا لها : " الجهالة ام التقوى " وهذا طبقا للقاعدة التي امنوا بها , وهي ان الايمان بالقلب وحده , ولا يحق للعقل ان يتدخل .
بعد سقوط الاندلس سارعت الكنيسة الكاثوليكية في اسبانيا بامر من الكاردينال اكسيميس الى حرق اكثر من ثمانية الاف كتاب كانت محفوظة في مكتبة غرناطة
وقرر مجمع ( لاتزان ) عام 1502 م تكفير كل من سولت له نفسه ان يقرا شيئا من فلسفة ابن رشد.
وقد شنت الكنيسة في ألمانيا الحملة المشهورة لمطاردة السحرة , فقد تم حرق اكثر من الاف امراة بتهمة الدجل والسحر , جلهن كنا ابرياء , اذ يكفي لجواسيس الكنيسة ان يجدوا عندك في ذلك الزمان غرابا او فار , لتلتصق بك تهمة السحر .
وفي نفس الوقت شجعت هذه الكنيسة على الخرافة في اوساط المجتمعات النصرانية , وعدة كل ظاهرة طبيعية , الى السحرة والشياطين تارة , او الى غضب الله تارة اخرى .
ومن يطالع كتابات اباء الكنيسة , سيذهل للمستوى الفكري المنحط لهؤلاء .
و يروى ان باحث نصراني يسمى ( دي رومنيس ) اراد ان يصحح ذلك الاعتقاد السائد حول قوس قزح –من ان قوس قزح ليس سيف في يد الرب- ينتقم به من عباده الكفار , وانما هو انعكاس ضوء الشمس في قطرات المطر , فكان عقابه السجن المؤبد ثم احرقة جثته بعد موته .
و التاريخ يروي لنا كيف ان الاب جليليوا كاد يلق نفس مصير سلفه كوبرنيكوس عندما أكد نظريته في دوران الارض حول الشمس وليس العكس , وكيف انه تمت محاكمته بتهمة تكذيب نصوص ( الكتاب المقدس ) وانه ظل جاثيا راكع امام المطهر يتلوا مزامير التوبة , وعندما جيء به للمحاكمة النهائية انكر حقيقة دوران الارض حول الشمس ورضخ لضغوط الكنيسة حتى لا يهلك .
وتقول لنا كتب التاريخ ان الكنيسة أعطت لراهب توركمادا الصلاحيات لاعدام كل مشتبه به , وقد قام هذا الاخير باعدام وحرق وصلب اكثر من 16000 شخص بين عامي 1481 م – 1499 م بتهمة العلم .
قد يكون هذا غيض من فيض مما عرفه العلماء و الفلاسفة من معاناة قاسية , في اثناء سيطرة الكنيسة على الفكر في اوروبا , مما استدعى التمرد والثورة عليها .
ونستخلص مما سبق انه اذا كانت حرية التفكير ممنوعة منعا باتا بامر من الكنيسة , فان حرية الاعتقاد كانت محرمة تحريما قاطعا على النصارى .
يتبع.........