جولة داخل أطول كهف في العالم
25-07-2016, 08:43 PM
إريك كريغ
كاتب صحفي




قاد روجر برُكر، خبير استكشاف المغارات والكهوف، عمليةً كانت سرية لرسم خريطة لما يُعرف بـ"كهف الماموث" الواقع في الولايات المتحدة، وهي عملية ساعدت على إثبات أن هذا الكهف يشكل أطول منظومة من الكهوف في العالم بأسره.
في الخامسة من عمره، كان لـ"روجر برُكر" اكتشافٌ مهم: فقد أدرك أن تصميم حذائه الرياضي الجديد يُمَكّنه من أن يخطو بثبات على السطح الذي يسير عليه، وهو ما يجعل بوسعه تسلق أنبوب الغسيل المتصل بالمغسلة الخاصة بصديقه.
وهكذا سارع برُكر بتسلق الأنبوب، انطلاقاً من القبو إلى المرحاض الواقع في الطابق الأول. لكن المرحاض للأسف لم يكن شاغرا.
وعقّب برُكر على ذلك ضاحكاً: "لم أُدعَ إلى هناك ثانيةً". ولكنه لم يتعلم من هذا الدرس أيضاً. فبعد 81 عاماً على هذه الواقعة، لا يزال يدمن اكتشاف البقاع الخفية في العالم. لكنه بات – بعدما شب عن الطوق – يختار أماكن ذات مقام أرفع من تلك التي كان يستكشفها صغيراً.
هنا نذهب إلى متنزه "كهف الماموث" الوطني في ولاية كنتاكي الأمريكية، الذي يشكل "كهف الماموث" محوره الرئيسي. وقد اجتذب هذا المكان المستكشفين على مدار قرون، إذ اكتشف خبراء استكشاف المغارات أسماكاً عمياء في الأنهار التي تجري هناك تحت الأرض.
كما أن الأنفاق الموجودة فيه تغص بتكوينات حجرية يُطلق عليها اسم "الزهور الجصية"، وكذلك بحفر وتجاويف عميقة وعمودية، وفاغرة أفواهها. أما ما لم يُكتشف بعد؛ فهو المكان الذي ينتهي فيه هذا الكهف.


يعج "كهف الماموث" بتكويناتٍ صخرية مثيرة للاهتمام

وقال برُكر: "إنه لهاجسٌ يستحوذ على أذهان البعض، ممن فَتَنَهم كبر حجم هذا الكهف، والمسافة الهائلة التي يمتد إليها، والأنواع المختلفة من الممرات التي يحتوي عليها". وأضاف بالقول: "أعتقد أن الأمر لا يعدو فضولاً جامحاً غذاه تيارٌ مستمر من الاكتشافات".
ورغم أن برُكر عَمِلَ في العديد من المهن، فقد كان كاتباً ومسئولاً تنفيذياً ومعلماً وناشطاً، فإن أكثر مهنة قرباً إلى نفسه، هي تلك التي كان يرتدي خلالها مصباحاً على جبهته، ألا وهي الاستكشاف.
فلأكثر من 60 عاماً؛ عكف على استكشاف الامتدادات المجهولة من منظومة "كهف الماموث". وفي تلك الفترة، لعب دوراً في غالبية الاكتشافات المهمة، التي شهدتها هذه المنظومة، بما في ذلك إثبات أنها الأطول من نوعها في العالم.
ففي خمسينيات القرن العشرين، كان برُكر جزءاً من فريق من مستكشفي الكهوف الشبان الطموحين، ممن استكشفوا تضاريس منطقة "فلينت ريدج" المحيطة بمتنزه "كهف الماموث" الوطني.
ثم أسس هؤلاء جميعاً ما يُعرف بـ"كَيف ريسرش فاوندايشن" (مؤسسة أبحاث الكهف)، والتي ضمت فريقاً من المتطوعين ممن كرسوا جهودهم لعمليات الاستكشاف العلمي. وكان هؤلاء يأملون في العثور على رابطٍ يصل بين الكهوف المحلية العديدة الموجودة في هذه المنطقة، ويؤكد أنها تشكل منظومةً واحدةً ضخمة.
وحتى ذلك الحين، كانت عملية تحديد معالم المناطق المهجورة من ذلك الكهف ورسم خريطتها تتسم بالسرية وعدم الترابط. ففي أربعينيات القرن التاسع عشر، نشر مرشدٌ لمنطقة الكهوف في الوقت نفسه، وكان يُدعى ستيفن بيشوب، رسماً تخطيطياً للأنفاق التي كانت معروفة وقتذاك في "كهف الماموث".



لكن المستكشفين الذين قدموا في العصر الحديث كانوا أقل استعداداً من هذا الرجل. فالخرائط التي كانت متاحة للكهف تراوحت ما بين رسوم توضيحية مفصلة، وهياكل تخطيطية مبهمة.
وهكذا احتاجت مؤسسة "أبحاث الكهف" إلى الجمع بين كل العناصر المتوافرة، لرسم خريطة أكثر وضوحاً وشمولاً لـ"كهف الماموث".
ولذا قرر برُكر أن يجمع بين المخططات المساحية لأنفاق الكهف مع الخريطة الطبوغرافية للأرض الواقعة أعلاه. وبهذه الطريقة؛ بات يمكن للمستكشفين تحديد اتجاهاتهم، سواء رأسياً أو أفقياً، تبعاً لطبيعة سطح الأرض من فوقهم.
ويتذكر برُكر هذه الأيام بالقول: "كنت رأس حربة عملية رسم الخرائط". ولم يُكلل العمل بنجاحٍ كبير، سوى بعد عقدين تقريباً من الزمان، حفلا بعمليات مسحٍ للأراضي بصفة مستمرة.
ففي عام 1972، نجحت بعثة استكشاف تابعة لـ"مؤسسة أبحاث الكهف" في ربط "كهف الماموث" بمنظومة كهوف موجودة في منطقة "فلينت ريدج" المحيطة به، وهو ما أدى إلى أن يزيد طول الكهف ليصل إلى 144 ميلاً، ليصبح الأطول من نوعه في العالم بأسره.
وبعد ذلك بـ 44 عاماً، زاد طول الأميال التي جرى مسحها وتحديد طبيعة تضاريسها في "كهف الماموث"، إلى 405 أميال وهو ما يفوق بواقع الضعف تقريباً طول أقرب منافسيه؛ وهو كهف "سيستما ساك أكتون" في المكسيك.
والأهم من ذلك، أنه لا يبدو لـ"كهف الماموث" نهايةً في الأفق، وهو ما حدا بـ"برُكر" ورفيقه في عمليات استكشاف الكهوف جيمس د. بوردن إلى القول إنه من المتوقع أن يصل طول هذا الكهف إلى ألف ميلٍ أو ربما أكثر.



ولعل من الواجب الإشارة هنا إلى أن عملية استكشاف ميلٍ واحد تحت الأرض، تختلف عن استكشاف المسافة نفسها فوقها. ويكفي النظر لأسماء بعض المناطق الواقعة على خريطة "كهف الماموث"، لإدراك حجم الصعوبات التي واجهها المستكشفون من أجل تحديد تضاريس هذه البقاع، إذ تتناثر على الخريطة أسماء مثل: "البقعة الوعرة"، و"شقاء الرجل البدين"، و"جادة العذاب".
كما أن القيام بعمليات مسحٍ واسعة النطاق للأراضي، هي عملية تجري بوتيرة بطيئة وتستلزم مشاركة مئات الأشخاص. فحتى برُكر، يقدر أن المساحة التي حدد تضاريسها بمفرده في منظومة "كهف الماموث" لا تتجاوز 120 ميلاً.
لكن هذه المساحة، على أي حال، تفوق بكثير ما يمكن لغالبية الناس رؤيته من هذا الكهف. فما هو متاح للعامة منه؛ لا يتجاوز 12 ميلاً فحسب، تشمل ممراتٍ مجهزة ومُعتنى بها، يحتوي كلٌ منها على أضواء ودرابزين. أما ما تبقى من مساحته فهي تخص العلماء وخبراء استكشاف الكهوف والمغارات وحدهم.
وعندما يُسئل برُكر، عما يحتاجه المرء ليصبح مستكشف كهوف، يجيب الرجل على الفور قائلا: "الفضول. والقدرة على رؤية الأشياء بأبعادها الثلاثة، وكذلك المثابرة".
ويضيف برُكر بالقول إنه لا يبحث عن رجال مفتولي العضلات في هذا الصدد "على الأقل، لأن هؤلاء لن يتمكنوا من ضغط أجسادهم للعبور من الممرات الضيقة. فالحجم يشكل في كثير من الأحيان عاملاً حاسماً في عمليات استكشاف الكهوف". ويشير إلى أنه حتى الجولة التي تنظمها إدارة المتنزه للراغبين في زيارة الكهوف، تُقصر على أصحاب قياسات جسدية معينة.



أما من يفوقون في أحجامهم هذه القياسات، من المتحمسين لاستكشاف الكهوف، فبوسعهم القراءة عن هذا الأمر.
فقد شارك برُكر في تأليف أربعة كتب عن استكشاف "كهف الماموث". كما نشر روايةً تاريخية عن ستيفن بيشوب، الذي كانت خريطته بشأن هذا الكهف، من أوائل ما نُشر في هذا الصدد. كما أنه يؤلف حكايات طويلة لكي تُنشر في المطبوعات المعنية بعمليات استكشاف الكهوف، تحت اسمه المستعار إرغور روبرِك.
ولا يزال "كهف الماموث" مصدر إغواءٍ لا يقاوم بالنسبة لـ"برُكر" وهو في شيخوخته، تماماً كما كان يمثل أنبوب المغسلة له في فترة الطفولة. فهو لا يزال يشارك في بعثات الاستكشاف العشر السنوية، التي تطلقها "مؤسسة أبحاث الكهف" (وبالمناسبة فإن زوجته لين هي من بين المسؤولين عن هذه الحملات).
فضلاً عن ذلك، فإن ارتباطه العميق بماضي "كهف الماموث" وحاضره، جعله مهتماً كذلك بشأن مستقبله. فمستجمعات مياه الأمطار المحيطة بالمنطقة تتسرب منها المياه، ولذا يقود برُكر حملات تستهدف الحيلولة دون وصول المواد الناجمة عن التلوث الصناعي في محيط المتنزه، إلى المياه الموجودة بداخله.
ويقول برُكر في هذا الشأن: "البعض يرون أن القيمة لا تكمن سوى في الانتفاع من (الموارد) واستغلالها. ولكنني أراها كامنة في استمتاع البشر" بما يحيط بهم.
ولكن ليس بوسعنا، بحسب برُكر، الالتقاء بهؤلاء في الماضي أو في الحاضر لأنهم "سيعيشون في القرن المقبل". وهم أيضاً من يختتم الرجل حديثه لنا بالتساؤل عما سيجدونه في المستقبل من تضاريس وموارد طبيعية.