الأعمى والحب والمغفّل والبئر .....
07-02-2017, 10:01 PM
الأعمى والحب والمغفّل والبئر....

أمحمد هو واحد من أفراد قرية صغيرة فَقَدَ بصره و والده و هو لم يبرح بعد عقده الأول. تميز بقوة البنية و الشكيمة اللتان حلتا محل الشقاوة في مرحلتي الصبا والمراهقة إضافة إلى هبة البصيرة التي استعاض بها عن البصر وجعلته يتفوق على الكثير من المتبصرين وكذا الذكاء الخارق و سرعة البديهة و الحفظ و طلاقة اللسان و حبه الكبير للسفر فهو لا يكاد يعود من رحلة إلى داره إلا ليستعد لأخرى ما مكنّه من نسج شبكة كبيرة من العلاقات مع الناس لا سيما العرب من البدو الرحّل أو فروعهم و حواشيهم القاطنين بالمدن و القرى و حتى من الحضر أصلا الأمر الذي عجّل في نبوغه في الشعر و الغناء و في الضرب على الدف و عزف الناي ( القصبة) رغم أصوله غير العربية (الزناتية) حتى أصبح من أهل الحظوة و المقام المحترم فما من عرس يقام لا سيما عند هؤلاء إلاّ و كان على رأس المدعوين إليه فتجدهم يحلقون حوله كالتلاميذ يرددون خلفه و يشاركونه الضرب على الدف أو عزف الناي تحت قيادته أو كمستمعين.
و قد أهّلته هذه الميزات مزادا إليها تفوقه في الكثير من جوانب الحياة للتكفل بشئون عائلته الصغيرة المتكونة من أم و ثلاث أخوات رغم صعوبة الظروف الاجتماعية والاقتصادية آنذاك ؛ و من الأبواب التي وجد طرقها ميسرا لكسب الرزق باب التجارة عامة والجزارة على وجه الخصوص كمتلازمة لعلاقاته الوطيدة بالبدو الرحل الذين يمارسون نشاط تربية المواشي. يشتري من هذا شاة ومن ذاك جملا فيذبحهما في مسقط رأسه ثم يدفع ثمنهما للبائع أو يشتري مع الدفع الفوري ثم يذبح ويبيع أو يبيع الحيوان حيا لمن له به حاجة كما يمتد نشاطه إلى تجارة الأقمشة و المواد الغذائية وغيرها .
تزوج أمحمد ثيبا من قبيلته الكبيرة تمتاز بالطاعة و القيام بكل واجبات البيت إضافة إلى الاهتمام بالمواشي من غير الإبل التي يشتريها زوجها للمتاجرة بها. لكن مع كل ما تبذله من مجهودات مضنية لمساعدة زوجها إلا أن علامات عدم الرضا كانت تبدو عليه ومرد ذلك طبعا هو مكانته عند الناس التي لا تتناسب مطلقا مع طريقة زواجه و مع نوعية الزوجة التي لم تقنعه شخصيتها إضافة كونها ليست بكرا فرمى بصنارته في بحيرة تتردد عليها فتاة قريبة منه من ناحية أمه إسمها "جازية" لكن الحظ جانبه حيث خُطبت و تزوجت في وقت قصير جدا حيث لم يجد الفرصة لإستعمال الحيلة والذكاء للظفر بها. و لم يمر من الوقت كثير حتى ظهرت في الأفق أختها الأصغر منها " سليمة" ؛ فتاة ربعة غاية في الجمال و الرقة، تجيد الكلام بعد إجادة السمع فقرر أمحمد أنها له دون سواه. و من محاسن الصدف أو من الدهاء أنه كان يعرض سلعته التي كان يجلبها من أحد المعارض التجارية الدولية الرائجة آنذاك داخل غرفة منعزلة بمنزله و كانت سليمة تأتي إليه في أوقات خاصة جدا فتأخذ ما تريد و تسمع و تقول كلاما خاصا جدا أيضا. و في يوم خاص جدا توجهت رفقة أختها جازية و توجه أمحمد رفقة "بلال" صديقه الخاص جدا إلى القصر القديم حيث البيوت المهجورة فالتقى الاثنان في لقاء خاص جدا فحدث بينهما شيء خاص جدا.
تهاطل الخطّاب على سليمة منهم "علوان" وهو معلم و "فرحان" وهو معلم أيضا و قريب لها و لأمحمد إسمه "مرزوق " يعمل بناء، الذي اختاره أمحمد بإصرار بأن يكون حظ سليمة دون سواه بل حفّزه على ذلك و ألحّ عليه بالتنقل رفقته و بشكل عاجل إلى إحدى المدن رغم بعدها حيث ثكنة أخيها العسكري "حسان" لطلب يد أخته، فسدّ بذلك الطريق على الآخرين رغم مكانتيهما المحترمتين إجتماعيا و ثقافيا مقارنة بمكانة مرزوق المتدنية .
مرزوق شاب أهم ما يتصف به البساطة و الغفلة أو السذاجة في أولى مراحلها ما جعل استخدامه سهلا.
عُقد القران و أقيمت احتفالات العرس و كان أمحمد في هذه الأثناء حلاّلا لكل عقدة و مسويا لكل عقبة و ممهدا لكل مسلك فما من مشكلة مادية أو معنوية اعترضت طريق العرس إلاّ و كان لها بالمرصاد دون حتى طلب من طرفي العرس. و في ليلة الدخلة اختار شابا قيد الولوج إلى مرحلة الشباب أسمه "غوينم" ظانا فيه الطاعة و الكثمان - غير ان ظنه وإن أصاب في جانب الطاعة فقد خاب في جانب السرية حيث الغربال أمسك منه و أكثم وقد باح بالذي يضني كاهله و بالخفيف أيضا- لمرافقته في هذه الليلة التي كانت عليه أطول من الدهر . أقتنى الضرير شفرة حلاقة و وضعها في جيبه ثم طلب من كل المتواجدين خارج بيت "الحجبة" ( و هو بيت الدخلة الذي يبقي فيه العرسان أسبوعا كاملا) و من حوله و مغادرة المكان والابتعاد نهائيا عنه و التوجه إلى بيت أهل العريس حيث الغناء والرقص والأهازيج الشعبية لأن البقاء يعتبر من قلة الأدب والحياء. وبعد طول انتظار دخل أمحمد إلى الحجبة فوجد العريس في حالة غضب وحنق لأن عروسه ليست عزباء، فتدخل الأعمى مفهما اياه أن هذه الفتاة ضعيفة ومسكينة و هي قريبته و أن من واجبه سترها إذا كان طبعا يحبها و أن كل شيء سيمر و يصبح نسيا منسيا عندما يرزقان بالأولاد أسوة بغيرهما. اقتنع العريس فلجأ إلى الشفرة حلا ، ومرت الليلة بسلام . و في اليومين الأولين من ايام الحجبة السبعة خرجت الطفلة "حرّة" بقصة مدهشة جدا مفادها أنها أُُرسلت من قبل العروس سليمة إلى المعلّم "فرحان" لتنقل له رسالة شفوية هي عبارة عن مقولة يتداولها الناس كثيرا: "أَكُل ما طحناه أضحى نخالة !؟ " فاجابها المعلم :"ههي ذي خزانتي مملوءة بمايلزم"، و يعني بردّه هذا أن جهاز عرسها موجود بالخزانة و هو إعراب عن الاستعداد للزواج منها و أمّا رسالتها هي فتوحي بلوم المعلم على تخليه عنها وعدم إلتزامه بما كان بينهما من اتفاق وتركها ترتبط دون رغبتها وإرادتها بمن لا يهواه قلبها . و حرّة هذه كانت وقتها تلميذة في العاشرة من عمرها تقريبا و كان يبدو عليها شيء من النضج الزائف أو الفطنة الكاذبة كما كان يبدو للمتفحص أن الأمر كان مجرد استعمال للبراءة بإشاعة تضليلية الغرض منها التلهية أو تحويل الأنظار أو محاولة لخلط الأوراق عن عمد من أجل تحقيق غاية محددة بدقة.
و طيلة هذه المدة (الحجبة) كان أمحمد؛ عندما كان ينفرد بسليمة حين يتوجه مرزوق إلى المهنئين له و في أوقات كثيرة كان يدفع إلى ذلك دفعا تحت مبرر تقديم واجب التحية والترحيب وعدم ترك الضيوف لوحدهم ؛ يطلب منها عدم الرضوخ لعريسها و عدم تمكينه من نفسها، و عندما كان هذا الأخير يشتكي له تصرف زوجته ونفورها منه ينصحه بتعنيفها و حتى بضربها، وكان ينشب بينهما نتيجة لذلك عراك شديد يوشي بنهاية سريعة و مؤسفة لرابطة مقدسة.
في فجر يوم من أيام الله سمع بعض الذاهبين لأداء صلاة الفجر جماعة صراخا قادما من أعماق البئر المحاذية للمسجد، فتوجهوا صوبها فأدلوا الدلو ثم سحبوا الحبل فإذا بمرزوق يصعد مهشم العظام.
استقدمت الشرطة فأخذت معها إلى مركز الدائرة سليمة متهمة ثم أُلحقت بأمحمد بعدما صرّحت أنها طلبت من زوجها التوجه معا إلى البئر القريبة من القرية و المسجد للاستحمام بمياهه في ليلة حالكة ليتمكنا من الإنجاب الذي حرما منه إلى حد الآن و قد تم البدء بمرزوق عن قصد و في غفلة منه ألقت به في البئر و لمّا عرفت أنه لا يزال على قيد الحياة بمعاتبته لها على فعلتها و هو في القاع ألقت عليه حجارة كبيرة كانت بجانب الجب فلمّا سكت أعتقدت أنه قد مات. لكن مرزوق و بذكاءه الذي تعطّل كثيرا و لمّا تيقن أن سليمة تريد فعلا قتله التصق بجدار البئر بمسقط نقطة تواجدها على السطح لتفادي الإصابة بالحجر مع التزام الصمت و السكون التامين لإيهامها بأنه قد فارق الحياة. أمّا عن الدوافع التي أدّت بها إلى ارتكاب هذه الجريمة في حق زوجها صرّحت بأن ذلك تم بإيعاز من أمحمد من أجل أن يمضيا معا بقية حياتهما وأنه هو من أفقدها عذريتها في لقاء تم ببيت مهجور .
خرج أمحمد بريئا بعد التمكن من تغيير تصريحات سليمة بأخرى تتضمن نفيا قاطعا لأية علاقة لها به بمحضر جديد أمضت عليه دون علم لها بمحتواه لكونها أمية لا تعرف القراءة و لا الكتابة و قد تم ذلك بتدخل من "طيبوب" الشرطي قريب أمحمد و قرينه و صديقه الحميم كما أن علاقاته المتشعبة مع الناس عادت عليه فعلا بالنفع فوجد تعاطفا و مساندة منهم دون البحث فيما أتهم به ولا إن كان صادقا أم كاذبا. وبعد الإفراج أصبح يطالب بالتعويض عمّا صرفه في العرس لكن ليس على مستوى المحاكم وإنّما لدى الإدارة غير أن مرزوق- الذي شفي من كسوره و أعاد الزواج بأخرى- و أهله لم يكثرتوا للأمر و ادعوا أن ما نفقه إن كان قد تم فعلا لم يكن بطلب أو علم منهم و أن عليه تقديم الإثباتات اللازمة والشهود أو التوجه إلى المحكمة لطرح قضيته. أمّا سليمة و بعد خروجها من السجن الذي لم تمكث فيه طويلا أعادت الزواج مرتين خارج جغرافية القرية وديمغرافيتها وكان الحظ في كل زفة حليفها فالزوج الأول و بعد مدة عقد ونيف توفى وترك لها بناتا وإرثا كبيرا ونفس الشيء للثاني جرى. و قد باتت زياراتها للقرية ناذرة أو منعدمة و هي رغم تقدمها في العمر لا تزال محافظة على قسط من الجمال يناسب سنها. و يبدو أن مردّ عدم إطالة مكوثها بالسجن هو صغر سنها وقلة حيلتها و حسن سلوكها داخله .
إلاّ رسول الله صلى الله عليه وسلم

سبحان الله يا فارج الهم وكاشف الغم ، فرج همي
ويسر أمري وارحم ضعفي وقلة حيلتي وارزقني من
حيث لا احتسب يا رب العالمين .