السيرة النبوية
15-11-2007, 01:21 PM
بسبس وعدي يتجسسان الأخبار
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وكان بسبس بن عمرو ، وعدي بن أبي الزغباء ، قد مضيا حتى نزلا بدرا ، فأناخا إلى تل قريب من الماء ، ثم أخذا شنَّا لهما يستقيان فيه ، ومجدي بن عمرو الجهني على الماء ‏‏.‏‏ فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحاضر ، وهما يتلازمان على الماء ، والملزومة تقول لصاحبتها ‏‏:‏‏ إنما تأتي العير غدا أو بعد غد ، فأعمل لهم ، ثم أقضيك الذي لك ‏‏.‏‏ قال مجدي ‏‏:‏‏ صدقتِ ، ثم خلَّص بينهما ‏‏.‏‏ وسمع ذلك عدي وبسبس ، فجلسا على بعيريهما ، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبراه بما سمعا ‏‏.‏‏
نجاة أبي سفيان بالعير
و أقبل أبو سفيان بن حرب ، حتى تقدم العير حذرا ، حتى ورد الماء ؛ فقال لمجدي بن عمرو ‏‏:‏‏ هل أحسست أحدا ‏‏؟‏‏ فقال ‏‏:‏‏ ما رأيت أحدا أنكره ، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ، ثم استقيا في شن لهما ، ثم انطلقا ‏‏.‏‏
فأتى أبو سفيان مُناخهما ، فأخذ من أبعار بعيريهما ، ففتَّه ، فإذا فيه النوى ؛ فقال ‏‏:‏‏ هذه والله علائف يثرب ‏‏.‏‏ فرجع إلى أصحابه سريعا ، فضرب وجه عيره عن الطريق ، فساحل بها ، وترك بدرا بيسار ، وانطلق حتى أسرع ‏‏.‏‏
رؤيا جهيم بن الصلت في مصارع قريش
قال ‏‏:‏‏ وأقبلت قريش ، فلما نزلوا الجحفة ، رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبدالمطلب بن عبد مناف رؤيا ، فقال ‏‏:‏‏ إني رأيت فيما يرى النائم ، وإني لبين النائم واليقظان ‏‏.‏‏ إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف ، ومعه بعير له ؛ ثم قال ‏‏:‏‏ قتل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو الحكم بن هشام ، وأمية بن خلف ، وفلان وفلان ، فعدد رجالا ممن قتل يوم بدر ، من أشراف قريش ، ثم رأيته ضرب في لَبَّة بعيره ، ثم أرسله في العسكر ، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه ‏‏.‏‏
قال ‏‏:‏‏ فبلغت أبا جهل ؛ فقال ‏‏:‏‏ وهذا أيضا نبي آخر من بني المطلب ، سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا ‏‏.‏‏
أبو سفيان يرسل إلى قريش يطلب منهم الرجوع
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره ، أرسل إلى قريش ‏‏:‏‏ إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم ، فقد نجاها الله ، فارجعوا ؛ فقال أبو جهل بن هشام ‏‏:‏‏ والله لا نرجع حتى نرد بدرا - وكان بدر موسما من مواسم العرب ، يجتمع لهم به سوق كل عام - فنقيم عليه ثلاثا ، فننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونُسقي الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها ، فامضوا ‏‏.‏‏
الأخنس يرجع ببني زهرة
وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، وكان حليفا لبني زهرة و هم بالجحفة ‏‏:‏‏ يا بني زهرة ، قد نجَّى الله لكم أموالكم ، وخلّص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل ، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله ، فاجعلوا لي جُبْنها وارجعوا ، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة ، لا ما يقول هذا ، يعني أبا جهل ‏‏.‏‏
فرجعوا ، فلم يشهدها زُهري واحد ، أطاعوه وكان فيهم مطاعا ‏‏.‏‏
ولم يكن بقي من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس ، إلا بني عدي بن كعب ، لم يخرج منهم رجل واحد ، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ، فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد ، ومشى القوم ‏‏.‏‏
وكان بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة ، فقالوا ‏‏:‏‏ والله لقد عرفنا يا بني هاشم ، وإن خرجتم‏ معنا ، أن هواكم لمع محمد ‏‏.‏‏ فرجع طالب إلى مكة مع من رجع ‏‏.‏‏ وقال طالب بن أبي طالب ‏‏:‏‏
لاهُمّ إما يغزونّ طالبْ * في عصبة محالف محاربْ
في مِقنب من هذه المقانب * فليكن المسلوبَ غير السالب
وليكن المغلوب غير الغالب *
قال ابن هشام ‏‏:‏‏ قوله ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ فليكن المسلوب ‏‏)‏‏ ، وقوله ‏‏(‏‏ وليكن المغلوب ‏‏)‏‏ عن غير واحد من الرواة للشعر ‏‏.‏‏
قريش تنزل بالعدوة والمسلمون ببدر
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي ، خلف العقنقل وبطن الوادي ، وهو يَلْيَل ، بين بدر و بين العقنقل ، الكثيب الذي خلفه قريش ، والقُلُب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة ‏‏.‏‏
وبعث الله السماء ، وكان الوادي دهسا ، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها ما لبَّد لهم الأرض ، ولم يمنعهم عن السير ، وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه ‏‏.‏‏ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبادرهم إلى الماء ، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به ‏‏.‏‏
الحُباب يشير على الرسول صلى الله عليه وسلم بمكان النزول
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فحُدثت عن رجال من بني سلمة ، أنهم ذكروا ‏‏:‏‏ أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال ‏‏:‏‏ يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ، ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ بل هو الرأي والحرب والمكيدة ، فقال ‏‏:‏‏ يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم ، فننزله ، ثم نُغَوِّر ما وراءه من القلب ، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ، ثم نقاتل القوم ، فنشرب ولا يشربون ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ لقد أشرت بالرأي ‏‏.‏‏
فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس ، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ، ثم أمر بالقلب فغورت ، و بنى حوضا على القَليب الذي نزل عليه ، فمُلىء ماء ، ثم قذفوا فيه الآنية ‏‏.‏‏
بناء العريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فحدثني عبدالله بن أبي بكر أنه حدث ‏‏:‏‏ أن سعد بن معاذ قال ‏‏:‏‏ يا نبي الله ، ألا نبني لك عريشا تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ، ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا ، كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى ، جلست على ركائبك ، فلحقت بمن وراءنا ، فقد تخلف عنك أقوام ، يا نبي الله ، ما نحن بأشد لك حبا منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ، يمنعك الله بهم ، يناصحونك ويجاهدون معك ‏‏.‏‏ فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ، ودعا له بخير ‏‏.‏‏ ثم بُني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش ، فكان فيه ‏‏.‏‏
ارتحال قريش ودعاء الرسول عليهم
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وقد ارتحلت قريش حين أصبحت ، فأقبلت ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تَصَوَّب من العقنقل - و هو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي - قال ‏‏:‏‏ اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم أحنهم الغداة ‏‏.‏‏
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر - إن يكن في أحد القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر ، إن يطيعوه يرشدوا ‏‏.‏‏
وقد كان خفاف بن أيماء بن رحضة الغفاري ، أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري ، بعث إلى قريش ، حين مروا به ، ابنا له بجزائره أهداها لهم ، وقال ‏‏:‏‏ إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فأرسلوا إليه مع ابنه ‏‏:‏‏ أن وصلتك رحم ، قد قضيت الذي عليك ، فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم ، ولئن كنا إنما نقاتل الله ، كما يزعم محمد ، فما لأحد بالله من طاقة ‏‏.‏‏
إسلام ابن حزام
فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حكيم بن حزام ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ دعوهم ‏‏.‏‏ فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل ، إلا ما كان من حكيم بن حزام ، فإنه لم يقتل ، ثم أسلم بعد ذلك ، فحسن إسلامه ‏‏.‏‏ فكان إذا اجتهد في يمينه ، قال ‏‏:‏‏ لا والذي نجاني من يوم بدر ‏‏.‏‏
محاولة قريش الرجوع عن القتال
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم ، عن أشياخ من الأنصار ، قالوا ‏‏:‏‏ لما اطمأن القوم ، بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا ‏‏:‏‏ احزروا لنا أصحاب محمد ، قال ‏‏:‏‏ فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم ، فقال ‏‏:‏‏ ثلاث مائة رجل ، يزيدون قليلا أو ينقصون ، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ فضرب في الوادي حتى أبعد ، فلم ير شيئا ، فرجع إليهم فقال ‏‏:‏‏ ما وجدت شيئا ، ولكن قد رأيت ، يا معشر قريش ، البلايا تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم ، حتى يقتل رجلا منكم ، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ‏‏؟‏‏ فروا رأيكم ‏‏.‏‏
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس ، فأتى عتبة بن ربيعة ، فقال ‏‏:‏‏ يا أبا الوليد ، إنك كبير قريش وسيدها ، والمطاع فيها ، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ وما ذاك يا حكيم ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ ترجع بالناس ، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي ؛ قال ‏‏:‏‏ قد فعلت ، أنت علي بذلك ، إنما هو حليفي ، فعلي عقله وما أصيب من ماله ، فأت ابن الحنظلية ‏‏.