اللغة العربية بعد نزول القرآن الكريم
25-01-2018, 02:40 PM
اللغة العربية بعد نزول القرآن الكريم
إبراهيم فوزى

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على محمد رسول الله, أما بعد:

1- المحافظة على اللغة العربية من الضياع:‏
السر الكامن وراء خلود اللغة والحفاظ عليها من الاندثار هو: القرآن الكريم بما كان له من أثر بالغ في حياة الأمة العربية، وتحويلها من أمة تائهة إلى أمة عزيزة قوية بتمسكها بهذا الكتاب الذي صقل نفوسهم، وهذب طباعهم، وطهر عقولهم من رجس الوثنية وعطن الجاهلية، وألف بين قلوبهم وجمعهم على كلمة واحدة توحدت فيها غاياتهم، وبذلوا من أجلها مهجهم وأرواحهم، ورفع من بينهم الظلم والاستعباد، ونزع من صدورهم الإحن والضغائن والأحقاد، فقد كان القرآن الكريم ولا يزال كالطود الشامخ يتحدى كل المؤثرات والمؤامرات التي حيكت وتحاك ضد لغة القرآن، يدافع عنها، ويذود عن حياضها، يقرع أسماعهم صباح مساء، وليل نهار بقوله تعالى:
[ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين َ].
وقوله تعالى:[ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً].

2- تقوية اللغة والرقي بها نحو الكمال:‏
منح القرآن الكريم اللغة العربية قوة ورقياً ما كانت لتصل إليه لولا القرآن الكريم، بما وهبها الله من المعاني الفياضة، والألفاظ المتطورة والتراكيب الجديدة، والأساليب العالية الرفيعة، فأصبحت بذلك محط جميع الأنظار، والاقتباس منها مناط العز والفخار، وغدت اللغة العربية تتألق وتتباهى على غيرها من اللغات بما حازت عليه من محاسن الجمال وأنواع الكمال،
وفي هذا يقول العلاّمة الرافعي رحمه الله:
" نزل القرآن الكريم بهذه اللغة على نمط يعجز قليله وكثيره معاً، فكان أشبه شيء بالنور في جملة نسقه إذ النور جملة واحدة، وإنما يتجزأ باعتبار لا يخرجه من طبيعته، وهو في كل جزء من أجزائه جملة لا يعارض بشيء إلا إذا خلقت سماء غير السماء، وبدلت الأرض غير الأرض، وإنما كان ذلك، لأنه صفى اللغة من أكدارها، وأجراها في ظاهره على بواطن أسرارها، فجاء بها في ماء الجمال أملأ من السحاب، وفي طراءة الخلق أجمل من الشباب، ثم هو بما تناول بها من المعاني الدقيقة التي أبرزها في جلال الإعجاز، وصورها بالحقيقة وأنطقها بالمجاز، وما ركبها به من المطاوعة في تقلب الأساليب، وتحويل التركيب إلى التراكيب، قد أظهرها مظهراً لا يقضى العجب منه، لأنه جلاها على التاريخ كله لا على جيل العرب بخاصته، ولهذا بهتوا لها حتى لم يتبينوا: أكانوا يسمعون بها صوت الحاضر أم صوت المستقبل، أم صوت الخلود!!؟، لأنها هي لغتهم التي يعرفونها، ولكن في جزالة لم يمضغ لها شيح ولا قيصوم".( تاريخ آداب العرب، الرافعي، (ط2، دار الكتاب العربي، بيروت: 1974م/ 2 /74 ).
والشيح والقيصوم: نباتان من نبات البادية، يضرب بهما المثل، يقال: فلان يمضغ الشيح والقيصوم، إذا كان عربياً خالص البداوة. انظر لسان العرب: (شيح، قصم).‏

3- توحيد لهجات اللغة العربية وتخليصها من اللهجات القبلية الكثيرة:‏
من المعلوم أن لجهات اللغة العربية كانت مختلفة، تحتوي على الفصيح والأفصح، والرديء والمستكره، وكانت القبائل العربية معتدة بلهجتها حتى إن القرآن الكريم نزل على سبعة أحرف من أجل التخفيف على العرب في قراءته وتلاوته، ولا شكّ أن لغات العرب متفاوتة في الفصاحة والبلاغة، ولذلك نجد عثمان رضي الله عنه قد راعى هذا الجانب في جمعه للقرآن، وقال للجنة الرباعية: " إذا اختلفتم أنتم، فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلغتهم"، وما ذلك إلا لأن لغة قريش أسهل اللغات وأعذبها وأوضحها وأبينها، وكانت تحتوي على أكثر لغات العرب، ونظراً لكونهم مركز البلاد وإليهم يأوي العباد من أجل الحج أو التجارة، فقد كانوا على علم بمعظم لغات العرب بسبب الاحتكاك والتعامل مع الآخرين، ولكن لغتهم أسهل اللغات كما ذكرت.
ينقل السيوطي (باب النوع السابع والثلاثون فيما وقع فيه بغير لغة الحجاز – ص 416 و ما بعدها - الإتقان في علوم القرآن، تعليق د. مصطفى البنا، ط. بيروت).‏ ) عن الواسطي قوله:
".... لأن كلام قريش سهل واضح، وكلام العرب وحشي غريب"، ولذلك حاول العرب الاقتراب منها، وودوا لو أن ألسنتهم انطبعت عليها حين رأوا هذا القرآن يزيدها حسناً، ويفيض عليها عذوبة، فأقبلوا على القرآن الكريم يستمعون إليه، فقالوا على الرغم من أنفهم:
" إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وأسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه".

4- تحويل اللغة العربية إلى لغة عالمية:‏
العرب قبل نزول القرآن الكريم، لم يكن لهم شأن يذكر أو موقع بين الأمم آنذاك حتى تقبل الأمم على تعلم لغتهم، والتعاون معهم، فليست لغتهم لغة علم ومعرفة، وكذلك ليس لديهم حضارة أو صناعة، كل ذلك جعل اللغة تقبع في جزيرتها، فلا تبرح إلا لتعود إليها.‏
وقد ظلوا كذلك، حتى جاء القرآن الكريم، يحمل أسمى ما تعرف البشرية من مبادئ وتعاليم، فدعا العرب إلى دعوة الآخرين إلى دينهم، ومما لا شك فيه أن أول ما يجب على من يدخل في الإسلام هو: تعلم اللغة العربية لإقامة دينه، وصحة عبادته، فأقبل الناس أفواجاً على تعلم اللغة العربية لغة القرآن الكريم، ولولا القرآن الكريم لم يكن للغة العربية هذا الانتشار وهذه الشهرة.‏
يقول أ. د. نور الدين عتر:
" وقد اتسع انتشار اللغة العربية جداً حتى تغلغلت في الهند والصين وأفغانستان، وحسبنا شاهداً على ذلك ما نعلمه من مشاهير العلماء من تلك البلاد مثل: البخاري ومسلم، والنسائي، وابن ماجه القزويني وغيرهم".( المزهر في علوم اللغة العربية السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم،ط. مصر).

5- تحويل اللغة العربية إلى لغة تعليمية ذات قواعد منضبطة:‏
من الثابت المعروف أن العرب قبل نزول القرآن كانوا يجرون في كلامهم وأشعارهم وخطبهم على السليقة، فليس للغتهم تلك القواعد المعروفة الآن، وذلك لعدم الحاجة إليها، ولا أدل على ذلك من أن التاريخ يحدثنا عن كثير من العلماء الذين صرحوا أن لغتهم استقامت لمّا ذُهب بهم إلى الصحراء لتعلم اللغة العربية النقية التي لم تشبها شائبة، ومن هؤلاء الإمام الشافعي، وأن الوليد بن عبد الملك كان كثير اللحن، لأنه لم يغترف لغته من الينبوع العربي الصحراوي الصافي.‏
ولما اتسعت الفتوح، وانتشر الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجاً: احتك العجم بالعرب فأفسدوا عليهم لغتهم، مما اضطر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه الذي كان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق: أن يرجع إلى المدينة المنورة، ويقول لعثمان رضي الله عنه: "يا أمير المؤمنين: أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها اختلاف اليهود والنصارى...."، فأمر عثمان رضي الله عنه يجمع القرآن، وكان قصده أن يجمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلغاء ما ليس بقرآن خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد, وهذا ما حصل، فقد ضعفت اللغة مع مرور الأيام، وفشا اللحن في قراءة القرآن، الأمر الذي أفزع أبا الأسود الدؤلي وجعله يستجيب‏ لوضع قواعد النحو، التي هي أساس ضبط حركات الحروف والكلمات، ومن ثم العمل على ضبط المصاحف بالشكل حفاظاً على قراءة القرآن من اللحن والخطأ.‏
وليس هذا فحسب، بل يرجع الفضل للقرآن الكريم في أنه حفظ للعرب رسم كلماتهم، وكيفية إملائهم، على حين أن اللغات الأخرى قد اختلف إملاء كلامها، وعدد حروفها.‏
يقول د. عتر: " والسر في ذلك أن رسم القرآن جعل أصلاً للكتابة العربية، ثم تطورت قواعد إملاء العربية بما يتناسب مع مزيد الضبط وتقريب رسم الكلمة من نطقها، فكان للقرآن الكريم الفضل في حفظ رسم الكلمة عن الانفصام عن رسم القدماء".( دلائل النظام الفراهي - ط2، الدائرة الحميدية الهندية: 1991م).‏

6- تهذيب ألفاظ اللغة العربية، ونشوء علم البلاغة:‏
العرب كانت أمّة أكثرها ضارب في الصحراء، لم يتحضر منها إلا القليل، فلا جرم كان في لغتهم الخشن الجاف، والحوشي الغريب، وقد أسلفنا عن الواسطي: أن لغة قريش كانت سهلة لمكان حياة التحضر التي كانت تحياها في ذلك.‏
ولعل من يقرأ الأدب الجاهلي ويتدبره: يزداد إيماناً بما للحضارة من أثر ألفاظ اللغة، فإنه سيرى في أدب أهل الوبر كثيراً من مثل:"جحيش" و"مستشزرات" و"جحلنجع"، وما إلى ذلك مما ينفر منه الطبع، وينبو عنه السمع، على حين أنه يكاد لا يصادفه من ذلك شيء في أدب القرشيين.‏
والقرآن الكريم –فضلاً عن أنه نقل العرب من جفاء البداوة وخشونتها إلى لين الحضارة ونعومتها، فنزلوا عن حوشيتهم، وتوخوا العذوبة في ألفاظهم، -قد تخير لألفاظه أجمل ما تخف به نطقاً في الألسن، وقرعاً للأسماع، حتى كأنها الماء سلاسة، والنسيم رقة، والعسل حلاوة، وهو بعد بالمكان الأسمى الذي أدهشهم وحير ألبابهم، وأفهمهم أن البلاغة شيء وراء التنقيب والتقعير، وتخير ما يكد الألسن ويرهقها من الألفاظ، فعكفوا عليه يتدبرونه، وجروا إليه يستمعونه، ذلك أن القرآن الكريم قد انتهج في تعابيره أسلوباً له حلاوة، وعليه طلاوة، تنتفي فيه الكلمة انتقاء، حتى كانت مفردات القرآن الكريم من اللغة العربية بمثابة اللباب وغيرها كالقشور، مما جعل ابن خالويه يقول: "أجمع الناس أن اللغة إذا وردت في القرآن، فهي أصح مما في غيره".( تاريخ الأدب العربي: كارل بروكلمان )، ولا أدل على ذلك من المقارنة بين الشعر الجاهلي والإسلامي، أو الأدب الجاهلي والإسلامي، لتجد البون شاسعاً، والفارق كبيراً، فأقبلوا إليه يزفون، ومن بحره ورياضه يستقون و من ألفاظ ومعانيه ينهلون.

7- تنمية ملكة النقد الأدبي، وذلك أن العرب كانت لهم أسواقهم المشهورة، ومعلقاتهم المنظومة، ومبارياتهم المعروفة، فلما نزل القرآن الكريم، ولامس شغاف قلوبهم، ورقت له أحاسيسهم ومشاعرهم، فتغيرت أحكامهم وقوانينهم، فنقلهم من الفصيح إلى الأفصح، ومن الجيد إلى الأجود.

ذلك هو: القرآن بإعجازه، وتلك منزلته ومكانته وتأثيره على العرب ولغتهم، فقد نقلهم من البداوة إلى الحضارة، ومن الذل والهوان إلى الرفعة والسؤدد، ومن التقوقع والتشرذم إلى العالمية والانتشار، ومن الحوشي والغريب إلى السهولة واليسر، ومن العامية إلى الفصحى.‏
وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين
اللغة العربية بعد نزول القرآن الكريم
إبراهيم فوزى

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على محمد رسول الله, أما بعد:

1- المحافظة على اللغة العربية من الضياع:‏
السر الكامن وراء خلود اللغة والحفاظ عليها من الاندثار هو: القرآن الكريم بما كان له من أثر بالغ في حياة الأمة العربية، وتحويلها من أمة تائهة إلى أمة عزيزة قوية بتمسكها بهذا الكتاب الذي صقل نفوسهم، وهذب طباعهم، وطهر عقولهم من رجس الوثنية وعطن الجاهلية، وألف بين قلوبهم وجمعهم على كلمة واحدة توحدت فيها غاياتهم، وبذلوا من أجلها مهجهم وأرواحهم، ورفع من بينهم الظلم والاستعباد، ونزع من صدورهم الإحن والضغائن والأحقاد، فقد كان القرآن الكريم ولا يزال كالطود الشامخ يتحدى كل المؤثرات والمؤامرات التي حيكت وتحاك ضد لغة القرآن، يدافع عنها، ويذود عن حياضها، يقرع أسماعهم صباح مساء، وليل نهار بقوله تعالى:
[ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين َ].
وقوله تعالى:[ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً].

2- تقوية اللغة والرقي بها نحو الكمال:‏
منح القرآن الكريم اللغة العربية قوة ورقياً ما كانت لتصل إليه لولا القرآن الكريم، بما وهبها الله من المعاني الفياضة، والألفاظ المتطورة والتراكيب الجديدة، والأساليب العالية الرفيعة، فأصبحت بذلك محط جميع الأنظار، والاقتباس منها مناط العز والفخار، وغدت اللغة العربية تتألق وتتباهى على غيرها من اللغات بما حازت عليه من محاسن الجمال وأنواع الكمال،
وفي هذا يقول العلاّمة الرافعي رحمه الله:
" نزل القرآن الكريم بهذه اللغة على نمط يعجز قليله وكثيره معاً، فكان أشبه شيء بالنور في جملة نسقه إذ النور جملة واحدة، وإنما يتجزأ باعتبار لا يخرجه من طبيعته، وهو في كل جزء من أجزائه جملة لا يعارض بشيء إلا إذا خلقت سماء غير السماء، وبدلت الأرض غير الأرض، وإنما كان ذلك، لأنه صفى اللغة من أكدارها، وأجراها في ظاهره على بواطن أسرارها، فجاء بها في ماء الجمال أملأ من السحاب، وفي طراءة الخلق أجمل من الشباب، ثم هو بما تناول بها من المعاني الدقيقة التي أبرزها في جلال الإعجاز، وصورها بالحقيقة وأنطقها بالمجاز، وما ركبها به من المطاوعة في تقلب الأساليب، وتحويل التركيب إلى التراكيب، قد أظهرها مظهراً لا يقضى العجب منه، لأنه جلاها على التاريخ كله لا على جيل العرب بخاصته، ولهذا بهتوا لها حتى لم يتبينوا: أكانوا يسمعون بها صوت الحاضر أم صوت المستقبل، أم صوت الخلود!!؟، لأنها هي لغتهم التي يعرفونها، ولكن في جزالة لم يمضغ لها شيح ولا قيصوم".( تاريخ آداب العرب، الرافعي، (ط2، دار الكتاب العربي، بيروت: 1974م/ 2 /74 ).
والشيح والقيصوم: نباتان من نبات البادية، يضرب بهما المثل، يقال: فلان يمضغ الشيح والقيصوم، إذا كان عربياً خالص البداوة. انظر لسان العرب: (شيح، قصم).‏

3- توحيد لهجات اللغة العربية وتخليصها من اللهجات القبلية الكثيرة:‏
من المعلوم أن لجهات اللغة العربية كانت مختلفة، تحتوي على الفصيح والأفصح، والرديء والمستكره، وكانت القبائل العربية معتدة بلهجتها حتى إن القرآن الكريم نزل على سبعة أحرف من أجل التخفيف على العرب في قراءته وتلاوته، ولا شكّ أن لغات العرب متفاوتة في الفصاحة والبلاغة، ولذلك نجد عثمان رضي الله عنه قد راعى هذا الجانب في جمعه للقرآن، وقال للجنة الرباعية: " إذا اختلفتم أنتم، فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلغتهم"، وما ذلك إلا لأن لغة قريش أسهل اللغات وأعذبها وأوضحها وأبينها، وكانت تحتوي على أكثر لغات العرب، ونظراً لكونهم مركز البلاد وإليهم يأوي العباد من أجل الحج أو التجارة، فقد كانوا على علم بمعظم لغات العرب بسبب الاحتكاك والتعامل مع الآخرين، ولكن لغتهم أسهل اللغات كما ذكرت.
ينقل السيوطي (باب النوع السابع والثلاثون فيما وقع فيه بغير لغة الحجاز – ص 416 و ما بعدها - الإتقان في علوم القرآن، تعليق د. مصطفى البنا، ط. بيروت).‏ ) عن الواسطي قوله:
".... لأن كلام قريش سهل واضح، وكلام العرب وحشي غريب"، ولذلك حاول العرب الاقتراب منها، وودوا لو أن ألسنتهم انطبعت عليها حين رأوا هذا القرآن يزيدها حسناً، ويفيض عليها عذوبة، فأقبلوا على القرآن الكريم يستمعون إليه، فقالوا على الرغم من أنفهم:
" إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وأسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه".

4- تحويل اللغة العربية إلى لغة عالمية:‏
العرب قبل نزول القرآن الكريم، لم يكن لهم شأن يذكر أو موقع بين الأمم آنذاك حتى تقبل الأمم على تعلم لغتهم، والتعاون معهم، فليست لغتهم لغة علم ومعرفة، وكذلك ليس لديهم حضارة أو صناعة، كل ذلك جعل اللغة تقبع في جزيرتها، فلا تبرح إلا لتعود إليها.‏
وقد ظلوا كذلك، حتى جاء القرآن الكريم، يحمل أسمى ما تعرف البشرية من مبادئ وتعاليم، فدعا العرب إلى دعوة الآخرين إلى دينهم، ومما لا شك فيه أن أول ما يجب على من يدخل في الإسلام هو: تعلم اللغة العربية لإقامة دينه، وصحة عبادته، فأقبل الناس أفواجاً على تعلم اللغة العربية لغة القرآن الكريم، ولولا القرآن الكريم لم يكن للغة العربية هذا الانتشار وهذه الشهرة.‏
يقول أ. د. نور الدين عتر:
" وقد اتسع انتشار اللغة العربية جداً حتى تغلغلت في الهند والصين وأفغانستان، وحسبنا شاهداً على ذلك ما نعلمه من مشاهير العلماء من تلك البلاد مثل: البخاري ومسلم، والنسائي، وابن ماجه القزويني وغيرهم".( المزهر في علوم اللغة العربية السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم،ط. مصر).

5- تحويل اللغة العربية إلى لغة تعليمية ذات قواعد منضبطة:‏
من الثابت المعروف أن العرب قبل نزول القرآن كانوا يجرون في كلامهم وأشعارهم وخطبهم على السليقة، فليس للغتهم تلك القواعد المعروفة الآن، وذلك لعدم الحاجة إليها، ولا أدل على ذلك من أن التاريخ يحدثنا عن كثير من العلماء الذين صرحوا أن لغتهم استقامت لمّا ذُهب بهم إلى الصحراء لتعلم اللغة العربية النقية التي لم تشبها شائبة، ومن هؤلاء الإمام الشافعي، وأن الوليد بن عبد الملك كان كثير اللحن، لأنه لم يغترف لغته من الينبوع العربي الصحراوي الصافي.‏
ولما اتسعت الفتوح، وانتشر الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجاً: احتك العجم بالعرب فأفسدوا عليهم لغتهم، مما اضطر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه الذي كان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق: أن يرجع إلى المدينة المنورة، ويقول لعثمان رضي الله عنه: "يا أمير المؤمنين: أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها اختلاف اليهود والنصارى...."، فأمر عثمان رضي الله عنه يجمع القرآن، وكان قصده أن يجمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلغاء ما ليس بقرآن خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد, وهذا ما حصل، فقد ضعفت اللغة مع مرور الأيام، وفشا اللحن في قراءة القرآن، الأمر الذي أفزع أبا الأسود الدؤلي وجعله يستجيب‏ لوضع قواعد النحو، التي هي أساس ضبط حركات الحروف والكلمات، ومن ثم العمل على ضبط المصاحف بالشكل حفاظاً على قراءة القرآن من اللحن والخطأ.‏
وليس هذا فحسب، بل يرجع الفضل للقرآن الكريم في أنه حفظ للعرب رسم كلماتهم، وكيفية إملائهم، على حين أن اللغات الأخرى قد اختلف إملاء كلامها، وعدد حروفها.‏
يقول د. عتر: " والسر في ذلك أن رسم القرآن جعل أصلاً للكتابة العربية، ثم تطورت قواعد إملاء العربية بما يتناسب مع مزيد الضبط وتقريب رسم الكلمة من نطقها، فكان للقرآن الكريم الفضل في حفظ رسم الكلمة عن الانفصام عن رسم القدماء".( دلائل النظام الفراهي - ط2، الدائرة الحميدية الهندية: 1991م).‏

6- تهذيب ألفاظ اللغة العربية، ونشوء علم البلاغة:‏
العرب كانت أمّة أكثرها ضارب في الصحراء، لم يتحضر منها إلا القليل، فلا جرم كان في لغتهم الخشن الجاف، والحوشي الغريب، وقد أسلفنا عن الواسطي: أن لغة قريش كانت سهلة لمكان حياة التحضر التي كانت تحياها في ذلك.‏
ولعل من يقرأ الأدب الجاهلي ويتدبره: يزداد إيماناً بما للحضارة من أثر ألفاظ اللغة، فإنه سيرى في أدب أهل الوبر كثيراً من مثل:"جحيش" و"مستشزرات" و"جحلنجع"، وما إلى ذلك مما ينفر منه الطبع، وينبو عنه السمع، على حين أنه يكاد لا يصادفه من ذلك شيء في أدب القرشيين.‏
والقرآن الكريم –فضلاً عن أنه نقل العرب من جفاء البداوة وخشونتها إلى لين الحضارة ونعومتها، فنزلوا عن حوشيتهم، وتوخوا العذوبة في ألفاظهم، -قد تخير لألفاظه أجمل ما تخف به نطقاً في الألسن، وقرعاً للأسماع، حتى كأنها الماء سلاسة، والنسيم رقة، والعسل حلاوة، وهو بعد بالمكان الأسمى الذي أدهشهم وحير ألبابهم، وأفهمهم أن البلاغة شيء وراء التنقيب والتقعير، وتخير ما يكد الألسن ويرهقها من الألفاظ، فعكفوا عليه يتدبرونه، وجروا إليه يستمعونه، ذلك أن القرآن الكريم قد انتهج في تعابيره أسلوباً له حلاوة، وعليه طلاوة، تنتفي فيه الكلمة انتقاء، حتى كانت مفردات القرآن الكريم من اللغة العربية بمثابة اللباب وغيرها كالقشور، مما جعل ابن خالويه يقول: "أجمع الناس أن اللغة إذا وردت في القرآن، فهي أصح مما في غيره".( تاريخ الأدب العربي: كارل بروكلمان )، ولا أدل على ذلك من المقارنة بين الشعر الجاهلي والإسلامي، أو الأدب الجاهلي والإسلامي، لتجد البون شاسعاً، والفارق كبيراً، فأقبلوا إليه يزفون، ومن بحره ورياضه يستقون و من ألفاظ ومعانيه ينهلون.

7- تنمية ملكة النقد الأدبي، وذلك أن العرب كانت لهم أسواقهم المشهورة، ومعلقاتهم المنظومة، ومبارياتهم المعروفة، فلما نزل القرآن الكريم، ولامس شغاف قلوبهم، ورقت له أحاسيسهم ومشاعرهم، فتغيرت أحكامهم وقوانينهم، فنقلهم من الفصيح إلى الأفصح، ومن الجيد إلى الأجود.

ذلك هو: القرآن بإعجازه، وتلك منزلته ومكانته وتأثيره على العرب ولغتهم، فقد نقلهم من البداوة إلى الحضارة، ومن الذل والهوان إلى الرفعة والسؤدد، ومن التقوقع والتشرذم إلى العالمية والانتشار، ومن الحوشي والغريب إلى السهولة واليسر، ومن العامية إلى الفصحى.‏
وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين