عشرة مكونات أساسية لأي برنامج صحة عقلية
14-03-2017, 12:12 PM
يمكننا البدء بالمكونات الستة التي تحدد برنامج علاج الأمراض العقلية ذا الحد الأدنى من الملاءمة، وهي المكونات التي صاغتها المحكمة الإقليمية الفيدرالية في قضية رويس ضد إستيل عام ١٩٨٠، وتشمل إجراء فحص منتظم وعلاجًا يتضمن ما هو أكثر من العزل ويضم عددًا كافيًا من متخصصي الصحة العقلية لتقديم الخدمات الملائمة لجميع السجناء الذين يعانون اضطرابات عقلية خطيرة (انظر «الحد الأدنى من معايير الرعاية» في الفصل الثالث).

لكن هذه الصياغة في صورتها الأصلية أبعد ما تكون عن الملاءمة. على سبيل المثال، السجناء الذين يعانون «أمراضًا عقلية خطيرة» ليسوا وحدهم مَن يحتاجون إلى العلاج. فالسجناء، أيضًا، الذين لديهم مشكلات مع تعاطي المخدرات ومَن يعانون توارد التجارب القاسية على أذهانهم ونوبات الهلع الناجمة عن الاغتصاب يحتاجون كذلك إلى خدمات صحة عقلية عالية الجودة؛ ولذا، سوف أتوسع في توضيح المكونات الستة المحددة في قضية رويس، مع إضافة عناصر أخرى إليها لتصبح عشرة مكونات.

ما أعتقد أن المحاكم لا بد أن تطالب به هو نظام يقدم ما يلي:

مستويات شاملة من الرعاية

أنظمة رعاية الصحة العقلية لا تعدو كونها أنظمة. فلا بد من وجود عنابر رعاية نفسية داخلية، وعيادات خارجية، وخدمات طوارئ، وبرامج علاج يومية، وتدبير علاجي للحالات، ومنازل انتقالية، وحياة مدعومة في المجتمع، وبرامج تدريب مهني، وما إلى ذلك. وبالمثل، لا بد أن تتضمن خدمات الصحة العقلية بالمؤسسات العقابية نظامًا شاملًا إذا أردنا تحقيق ما هو أفضل من تقديم الأدوية للسجناء وإيداعهم الزنزانات.

وهناك حد أدنى من المعايير للرعاية الصحية بالمؤسسات العقابية،1 وهي المعايير التي نشرتها كلٌّ من اللجنة الوطنية للرعاية الصحية في المؤسسات العقابية، والجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين، والجمعية الأمريكية للصحة العامة. وتُجري اللجنة الوطنية للرعاية الصحية في المؤسسات العقابية عمليتي تفتيش واعتماد للسجون والمؤسسات العقابية التي تلتزم بهذه المعايير. لكن هذه المعايير تكون مُجرَّدة للغاية عادةً. ومثال على ذلك هذه العبارة المقتبسة من معايير اللجنة الوطنية في نسختها الصادرة عام ١٩٩٧: «تتطلب السياسة المكتوبة والإجراءات المحددة وأدلة الممارسة الفعلية أن يكون لدى السجن ترتيبات مكتوبة لتوفير خدمات الرعاية بالمستشفيات والرعاية الجوَّالة المتخصصة للأمراض الطبية والعقلية في المرافق التي تفي بمتطلبات الترخيص الخاصة بالولاية فيما يتعلق بخدمات الرعاية بالمستشفيات.»2
عمليًّا، لا يمكن القول إن جميع السجناء الذين يحتاجون إلى العلاج بالمستشفيات والعيادات الخارجية يحصلون على هذه الخدمات. فقد اكتشفتُ أن الكثير من السجناء المصابين باضطرابات عقلية خطيرة يجلسون في زنزاناتهم في خمول وتكاسل دون رعاية نفسية مناسبة في سجون نالت التصديق. فما من إجراء قانوني يمكن أن يضمن توفير مستوًى مناسب من رعاية الصحة العقلية، وما من نظام تصديق مضمون ومؤكد. وفي الوقت الحالي، ليس هناك إلزام — بموجب قانون فيدرالي أو قانون يتعلق بإحدى الولايات — لأنظمة السجون بالحصول على تصديق. ومن الخطوات الإيجابية الأولى نحو تحسين خدمات الصحة العقلية بالمؤسسات العقابية إلزام جميع أنظمة السجون بتلبية الحد الأدنى من المعايير والحصول على التصديقات الموجودة حاليًّا.

ليس هناك ما يُلزِم أنظمة السجون بتقديم «علاج بالمحادثة» مكثف أو توفير إقامة طويلة المدى للسجناء الذين يعانون اضطرابات نفسية في مستشفيات مريحة. فهذه صور من الرفاهية تقتصر على مَن يستطيعون تحمل تكاليفها. لكن مثلما يملك الشخص المُشرَّد في المجتمع، الذي يعاني الهلاوس، الحق في الحصول على فحص نفسي دقيق، والأدوية متى كان ذلك ملائمًا، ودخول أحد مستشفيات مقاطعته عند الضرورة، والتدبير العلاجي لحالته ليصل إلى أفضل مستويات أدائه، يحق كذلك للسجين الذي يعاني اضطرابًا عقليًّا خطيرًا الحصول على مجموعة متنوعة من الخدمات التي تهدف إلى الحد من معاناته المباشرة وإعاقته طويلة المدى.

ومعظم السجون التي تجولت فيها تحتوي على عنبر داخلي للعلاج النفسي أو لديها تعاقدات مع أحد المستشفيات أو المراكز الطبية الجامعية القريبة منها لتقديم رعاية داخلية للمرضى. لكن هناك مشكلات في العديد من السجون، منها النقص النسبي في الأسرَّة، والقِصر الشديد في مدة الإقامة بالمستشفيات، ونقص ما يتمتع به موظفو الصحة العقلية في السجون من صلاحيات تمكنهم من إدخال السجناء، الذين يحتاجون إلى رعاية داخلية، إلى الوحدات الخاصة بهذه الرعاية.

أوصي هنا بمنح الأطباء النفسيين الذين يعملون في السجون «مزايا إدخال المرضى مباشرةً إلى المستشفيات». بعبارة أخرى، عندما يكتشف طبيب نفسي، يعمل في وحدات الحبس الاحتياطي أو في أحد السجون العامة، مريضًا يعاني ميولًا انتحارية أو ذهانًا حادًّا، ويرى أنه بحاجة إلى إدخاله المستشفى، يمكنه كتابة أمر بذلك وتمكين المريض من دخول المستشفى دون الحاجة إلى تقييم ثانٍ عند بوابة المستشفى من جانب موظفي قبول المرضى. بالإضافة إلى ذلك، لا بد من توافر الإجراءات التي تضمن عدم رفض السجين الذي هو بحاجة إلى دخول المستشفى؛ نظرًا لعدم كفاية الأسرَّة. وبالطبع، كل نظام سجون له مجموعة من المشكلات الخاصة به التي ينبغي العمل على حلها.

والسجناء الذين يعانون انهيارات انفعالية شديدة على نحو يتطلب دخولهم مستشفيات الأمراض النفسية سيحتاجون على الأرجح إلى أن يتم إيداعهم بيئة إصلاحية يتمتعون فيها بالحماية والدعم بعد خروجهم من هذه المستشفيات. وافتقار هؤلاء السجناء للبيئة الداعمة وتركهم يتصرفون كما يشاءون يجعلهم يقعون في المشكلات بتعرضهم للإيذاء أو بخرقهم للقانون. ويتوقف الكثيرون منهم عن الحصول على الأدوية الموصوفة لهم، ويعانون انتكاسات. وهؤلاء السجناء المضطربون عقليًّا يحتاجون إلى برامج علاج وسيطة، وأماكن يتمتعون فيها بقدر من الحماية من الخطر والدعم لجهودهم الهادفة لفهم أمراضهم العقلية وأسباب احتياجهم للالتزام بالعلاج. كما يحتاجون أيضًا إلى المشاركة في أنشطة اجتماعية هادفة وخاضعة للإشراف، مثل جلسات الإرشاد النفسي الجماعية، والفصول الدراسية، والتدريب المهني، والاستجمام الخاضع للإشراف.

سبق أن ذكرت خدمات أخرى أيضًا يحتاج إليها السجناء المصابون بأمراض عقلية. على سبيل المثال، يحتاج هؤلاء السجناء إلى متابعين لحالاتهم في أي مكان في السجن والتأكد من ابتعادهم عن المخاطر ومشاركتهم في البرامج التي ستساعدهم على الأرجح في الحفاظ على استقرارهم الانفعالي. ويحتاجون أيضًا إلى شخص يتولى إعطاءهم الأدوية، بالإضافة إلى طبيب نفسي يقضي وقتًا كافيًا في التحدث معهم، ويأخذ شكواهم بشأن الآثار الجانبية للأدوية على محمل الجد، ويراقب مستويات كيمياء الدم لديهم، ويكتب الملاحظات المناسبة في التقارير الخاصة بهم. كذلك لا بد من توافر عدد كافٍ من الاختصاصيين الاجتماعيين غير المُثقَلين بالأعباء للتحدث مع أسرة السجين وإجراء زيارات منزلية في حالات الطوارئ، كما يحدث عندما تعاني زوجة السجين أو طفله مشكلةً خطيرة، أو عندما يكون تدهور الحالة العقلية للسجين ناتجًا عن ضعف التواصل مع ذويه. ولا بد من توافر مجموعة متنوعة من طرق العلاج داخل السجون كي يتسنى توفير الخدمات التي يحتاج إليها السجناء ذوو الاحتياجات والإعاقات المختلفة.

منع الانتحار

نحن نعلم كيفية منع حالات الانتحار.3 وتشمل العناصر الأساسية في هذا الشأن تدريب الموظفين، ورفع درجة اليقظة، واتخاذ الإجراءات اللازمة للملاحظة المباشرة، ووضع برامج العلاج المناسبة للسجناء الذين يمثِّلون خطرًا وشيكًا. في أغلب الأحيان، لا يكون السجين الذي يفكر في الانتحار خاضعًا للعلاج. ويمكن تدريب موظفي السجون على البحث عن أدلة واتخاذ خطوات فعالة لمنع الانتحار.
بمجرد معرفة أن أحد السجناء يشكِّل خطرًا كبيرًا في ميوله الانتحارية، لا بد أن يتم عرضه على أحد متخصصي الصحة العقلية، كما يجب اتخاذ الاحتياطات اللازمة للتأكد بما فيه الكفاية من أنه لن يقتل نفسه. ونحن نعلم الأمور التي يجب الامتناع عن فعلها، فيجب عدم إيداع هذا السجين في الحبس الانفرادي. والمراقبة الدائمة تمثل مكوِّنًا أساسيًّا في العلاج.

من الممكن وصف أدوية للمرضى مثل الأدوية المضادة للذهان التي تُعطى للمريض الذي يعاني الأوهام ويسمع أصواتًا بداخله تأمره بقتل نفسه. ومثلما أوضحُ في الفصل الثامن، تتطلب الأدوية المضادة للاكتئاب بضعة أسابيع كي يظهر مفعولها، ولذلك من غير المقبول على الإطلاق أن يكتفي الطبيب النفسي الذي يزور السجين الذي لديه ميول انتحارية بمجرد الوقوف على باب زنزانته، ووصف دواء مضاد للاكتئاب له.

فالسجين يحتاج إلى شخص يتحدث معه بعمق ليتوصل إلى سبب اليأس الشديد الذي يعانيه. والتدخل باهتمام يمنح السجين شعورًا بأن هناك مَن يهتم به ويحاول مساعدته. وفوق كل ذلك، لا بد من وجود إصرار من جانب المديرين والموظفين والأطباء السريريين المتخصصين في الصحة العقلية على وضع برنامج قوي لمنع الانتحار.

العلاج الجماعي ومشكلات خاصة

إن العلاج الجماعي ضروري للسجناء الذين يعانون اضطرابات عقلية خطيرة، ويشمل على سبيل المثال لا الحصر المجموعات العلاجية التي تركز على حاجة السجناء المضطربين عقليًّا لفهم حالتهم المرضية والالتزام بأنظمتهم الدوائية.

علاوةً على ذلك، أثبت العلاج الجماعي وجلسات الإرشاد النفسي الجماعية التي تركز على مشكلات محددة — مثل تعاطي المخدرات، والعنف الأسري، ومشكلات تربية الأبناء — فعاليته الكبيرة مع مجموعة أكبر بكثير من المجرمين في السجون. لكن في معظم السجون التي تجولت فيها، هناك عدد قليل نسبيًّا من المجموعات العلاجية. ويبرر الأطباء النفسيون ذلك بانشغالهم الشديد بوصف الأدوية؛ ما يحول دون عقدهم للمجموعات العلاجية. كما يشير اختصاصيو علم النفس إلى أنهم يقضون معظم وقتهم في كتابة التقارير للمحاكم ومجالس إطلاق السراح المشروط. والعديد من موظفي الصحة العقلية يشكُون من أنهم غير مُدرَّبين تدريبًا كافيًا على أسلوب العلاج الجماعي.

لقد شهدتْ برامج العلاج من المخدرات والكحوليات تقدمًا هائلًا في السنوات الأخيرة، وتوضح الدراسات التي أُجريت حول النتائج المتحققة من هذه البرامج مدى نجاحها في مساعدة عدد كبير من الناس في تجنب المخدرات والكحوليات. هناك تقارير عن برامج علاج من الإدمان تحقق نجاحًا داخل السجون، لكن عددًا قليلًا نسبيًّا من أنظمة السجون تقدم برامج تثقيفية وعلاجية جادة للسجناء الذين لديهم تاريخ سابق من تعاطي المخدرات والكحوليات. لذا، يجب جلب الخبراء في مجال تعاطي المخدرات إلى السجون لتدريب الموظفين ووضع برامج متطورة تهدف للحد من احتمالات عودة السجناء إلى الإدمان على اختلاف أنواعه بمجرد خروجهم من السجون.

وبالمثل، فإننا نعلم من الدراسات التي أُجريت على النتائج المتحققة من المجموعات التثقيفية والعلاجية، التي تُدار جيدًا، أن تلك المجموعات تقلل من احتمالات العودة إلى الإجرام لدى مرتكبي جرائم العنف الأسري والاعتداء الجنسي. ولا أعني هنا أن المدانين بهذه الجرائم العنيفة يجب العفو عنهم بسبب اضطرابهم العقلي، ولا أن «يُدلَّلوا». وإنما يجب أيضًا ألا يُترَك هؤلاء السجناء ليقضوا مدة عقوبتهم دون أية فرصة للإصلاح من أنفسهم. فمهما كانت جسامة جرائمهم، فإن تركهم يعانون صدمات الحياة بالسجن دون أية فرصة للعمل على حل المشكلات التي يعانونها سيجعلهم يعودون على الأرجح إلى الجريمة بعد خروجهم من السجن. ومن شأن تقديم برنامج علاج جماعي جاد لهم يديره خبراء في المشكلات التي يعانونها أن يؤدي إلى انخفاض هائل في احتمالات عودتهم إلى الجريمة. نحن نعلم أن بعض الرجال الذين لديهم نزعة للعنف لن تجدي معهم مثل هذه الجهود، لكن علينا أن نفكر في كل الحالات التي سيُحدِث فيها هذا التدخل اختلافًا.

إن البرامج الإصلاحية الهادفة لإعادة تدريب الرجال على التعبير عن أنفسهم ووضع حل لخلافاتهم دون اللجوء للعنف تكون غالبًا برامج رمزية، في أفضل الأحوال. على سبيل المثال، يضيف القضاة في الكثير من الولايات إلى الأحكام التي يصدرونها في قضايا العنف الأسري والاعتداء الجنسي شرطًا بأن يخضع المُدان للعلاج قبل إطلاق سراحه من السجن. وفي الكثير من السجون شديدة الازدحام، يُؤجَّل تنفيذ هذا العلاج الإلزامي حتى العام الأخير من مدة عقوبة السجين. ويعني ذلك أن السجين سيتأثر معظم مدة عقوبته بثقافة السجن؛ الأمر الذي سيزيد على الأرجح من غضبه وسيعلمه فقط التصرف على نحو أكثر عنفًا، ثم يوضَع بعد ذلك في العام الأخير من حبسه في برنامج علاج جماعي للمتهمين بالضرب أو الاعتداء الجنسي في إطار الاستعداد لإطلاق سراحه من السجن. ليس مستغربًا، إذن، أن هذه المجموعات العلاجية تفشل في أغلب الأحيان. وكبديل عنها، يجب نقل التدخلات التي أثبتت نجاحًا في وضع حد للعنف لدى الرجال في المجتمع العادي إلى السجون بهدف وقائي وهو حماية جميع السجناء الذين هم عرضة لارتكاب هذه الجرائم طوال فترة بقائهم في السجون.

لا بد من توفير علاج للصحة العقلية أيضًا للناجين من جرائم العنف، وهناك العديد من هؤلاء الناجين في السجون. فلنا أن نفكر، مثلًا، في الإناث الناجيات من التحرش في طفولتهن ومن العنف الأسري في مرحلة المراهقة. من المعروف أن جلسات الإرشاد النفسي الجماعية فعَّالة للغاية في تعزيز تقدير الذات لدى السيدات، ومساعدتهن في تجاوز صدمات الماضي التي تعرضن لها، وتشجيعهن على اتخاذ خيارات أفضل عند مغادرتهن السجن. ويمكن للمجموعات العلاجية الخاصة بالناجين الذكور أيضًا تحقيق نتائج مشابهة.

والبرنامج العلاجي يمكن أن يساعد ضحايا الاغتصاب في السجن على التكيُّف مع نتائج الصدمة المروعة التي تعرضوا لها. وهذا البرنامج يمكن صياغته استرشادًا ببرامج العلاج الناجحة لحالات الاغتصاب والاعتداء الأسري الموجودة في المجتمع العادي. على سبيل المثال، يمكن تدريب موظفي الأمن والصحة العقلية على توفير مكان آمن للضحية لتتعافى فيه. وعلى الأقل، يمكن تدريبهم على تجنب إعادة تعريض الضحية للصدمة التي عانتها عن طريق إرغامها على تحديد هوية المعتدي أو إيداعها الحبس العقابي. فالسجناء الذين يعانون أعراض اضطراب توتر ما بعد الصدمة، يحتاجون إلى علاقة علاجية موثوقة يمكنهم من خلالها تجاوز صدمة الاغتصاب أو الصدمات المتعددة التي تعرضوا لها على مدار حياتهم.

وهناك حاجة أيضًا لأنواع أخرى من المجموعات. على سبيل المثال، يمكن لمجموعات التحكم في الغضب أن تكون فعَّالة للغاية، وكذلك المجموعات المُعدة لمساعدة السجناء على فهم دورهم كآباء وتجاوز حزنهم بشأن انفصالهم عن أحبائهم. وجلسات الإرشاد الجماعي من شأنها مساعدة السجناء، الذين تكون نتائج فحص فيروس نقص المناعة البشرية الخاصة بهم إيجابية أو المصابين بالإيدز، في تجاوز حزنهم ومجابهة أزمتهم. والخبرات الجماعية، سواء الهادفة للعلاج أو للتثقيف النفسي، تقدم للسجناء ممن لديهم الاستعداد بديلًا مهمًّا للعزلة التي تهيمن على الحياة داخل السجن.

برامج إعادة التأهيل النفسي

لقد تحوَّل التركيز في برامج الصحة العقلية العامة من نموذج العلاج النفسي إلى نموذج إعادة التأهيل النفسي. ويكمن السبب وراء ذلك في أن العلاج النفسي باهظ التكلفة وغير فعال نسبيًّا مع مَن لديهم اضطرابات حادة ويعانون مشكلات تعاطي المخدرات. لذا، بدلًا من تقديم العلاج الطويل المدى للأشخاص الذين يعانون اضطرابات عقلية دائمة وخطيرة، أُغلِقت العيادات الخارجية ونُقِلت الموارد إلى أنظمة العلاج اليومي، والمنازل الانتقالية، وبرامج دعم الحياة المستقلة، والتدريب المهني، والتدبير العلاجي للحالات؛ وتلك هي المكونات الأساسية لإعادة التأهيل النفسي الحديث.

وتركز إعادة التأهيل النفسي على أهداف العملاء، وتقلل من أهمية الخصائص النوعية للأمراض النفسية لديهم. وبدلًا من تشجيع الأشخاص المصابين بإعاقات نفسية على استكشاف صدمات الطفولة والنزاعات الداخلية لديهم، تهدف إعادة التأهيل النفسي إلى مساعدة هؤلاء الأشخاص على «الحياة والتعلم والعمل» في البيئات المجتمعية التي يختارونها. ويكون التركيز على «مهارات الحياة اليومية»، بما في ذلك الالتزام بالأدوية وتجنب العقاقير المحظورة والكحوليات والأنشطة الإجرامية. وينسق مدبر علاج الحالة خدمات الرعاية المجتمعية للعميل ويتابع تقدمها وأماكن وجودها.

وهذا النوع من التفكير والبرامج يمكن ترجمته بشكل مفيد إلى ما أُطلِق عليه اسم خدمات الصحة العقلية «الوسيطة» داخل السجون. وهذا ما يحدث بالفعل في العديد من المؤسسات العقابية. فبدلًا من إطلاق سراح السجين من عنبر العلاج النفسي الداخلي مباشرةً إلى عموم السجناء، يمكن تحديد طوابق أو مجموعة زنزانات معينة لتكون بمنزلة مرافق رعاية نفسية وسيطة، ويمكن الإشراف على السجناء الموجودين فيها وهم يمارسون أنشطتهم اليومية إلى أن يتعلموا كيفية التوافق مع الآخرين، والحصول على أدويتهم، ومواصلة ممارسة الأنشطة البناءة. ويمكن لمدبر علاج الحالات تنسيق الخدمات المقدمة لهؤلاء السجناء ومتابعتهم طوال مدة عقوبتهم في السجن. ومع هذا النوع من برامج إعادة التأهيل النفسي الداعمة، يتمكن الكثير من السجناء، الذين كانوا سيصيرون على الأرجح ضحايا أو مقيمين دائمين في وحدات الحبس المشدد، من التمتع بحياة أكثر إنتاجية واستقرارًا داخل السجن؛ ومن ثم، يشهد سير المرض لديهم، وفرصهم في التكيُّف مع حياة المجتمع بعد إطلاق سراحهم تحسنًا كبيرًا.

من الواضح أن ثمة جوانب مشتركة عديدة بين إعادة التأهيل النفسي والبرامج التي يتضمنها المبدأ العام لإعادة التأهيل بالسجون. فبرامج إعادة التأهيل العامة بالسجون، التي تشمل التثقيف وعلاج تعاطي المخدرات وفرص التدريب المهني، يجب توفيرها لجميع السجناء الذين لديهم الحافز لاستكمالها، بينما تقتصر إعادة التأهيل النفسي على الأشخاص الذين يعانون مشكلات نفسية. مع ذلك، فإن النوعين من برامج إعادة التأهيل يشتركان في مبادئ عديدة. على سبيل المثال، يهدف كلاهما إلى زيادة مهارات العملاء ومساعدتهم في الحفاظ على أعلى مستويات الجودة التي يمكنهم الوصول إليها في الحياة والإنتاجية. وكلاهما يستفيدان من الإرشاد النفسي والتدريب لمساعدة العملاء في التغلب على ما يعانونه من نقاط ضعف وإعاقات.

وبرامج إعادة التأهيل النفسي تحقق أفضل نتائجها في المؤسسات العقابية التي تقدم أيضًا مجموعة كبيرة من برامج إعادة التأهيل العامة. والسبب واضح؛ ففي المجتمع، تستخدم برامج إعادة التأهيل النفسي الموارد الموجودة بالفعل، بما في ذلك برامج الكليات المجتمعية، والمصانع التي لديها استعداد لتعيين عمَّال يعانون اضطرابات نفسية، والشقق المنخفضة الإيجارات، والجهات التي تقبل متطوعين مضطربين نفسيًّا، وما إلى ذلك. وكلما زاد عدد هذا النوع من البرامج، زادت الفرص المتاحة أمام مدبري علاج الحالات والموظفين في المنازل الانتقالية لإشراك عملائهم في أنشطة هادفة. وبالمثل، في السجون التي تتضمن فصولًا دراسية جامعية وورش عمل صناعية، يمكن لموظفي رعاية الصحة العقلية اتخاذ الترتيبات اللازمة لضم السجناء الذين يعالجونهم إلى أحد هذه الفصول أو إلى أحد أماكن التدريب، ويمكن أن يشرفوا بعد ذلك على أنشطتهم ويساعدوهم على النجاح فيما يقومون به من أنشطة ضمن البرنامج الأشمل لإعادة التأهيل داخل السجن.

برامج الصحة العقلية للسجناء المضطربين المُخلين بالنظام

ثمة مشكلة كبيرة في إدارة وعلاج السجناء الذين يتم اعتبارهم «مجانين» و«مشاغبين». وأفضل هنا استخدام مصطلح هانز توخ في وصف هؤلاء السجناء بأنهم «مضطربون مُخلِّون بالنظام».5 فمعظم أنظمة السجون تفتقر إلى برامج وبيئات العلاج المناسبة لهؤلاء السجناء. على سبيل المثال، يُرفَض دخول السجناء في معظم سجون الولايات إلى وحدات العلاج النفسي الداخلية إذا كان لديهم سجل بأعمال عنف متكررة ارتكبوها فيما مضى. وينتهي الحال بهؤلاء السجناء عادةً في وحدات الحراسة المشددة، حيث تسفر الظروف القاسية والخمول القسري عن تفاقم الاضطرابات العقلية التي يعانونها؛ ما يؤدي إلى مزيد من السلوكيات المخلة بالنظام من جانبهم، وبقائهم مددًا أطول في الحبس المشدد.
وتمثل هذه المجموعة من السجناء تحديًا صعبًا بالنسبة إلى موظفي السجون وموظفي رعاية الصحة العقلية على حدٍّ سواء. فيقضي أغلب السجناء مدد عقوباتهم، ثم يُطلَق سراحهم يومًا ما. لكنهم إذا تُرِكوا في زنزاناتهم إلى أن تنتهي مُدد عقوباتهم الأساسية، فسوف يتورطون على الأرجح في مشكلات فور إطلاق سراحهم من السجن. ومثلما ذكرت في الفصل الثالث، هذه المجموعة من السجناء «المجانين» و«المشاغبين» يحتاجون إلى برنامج مُعد لهم خصوصًا يوفر لهم الحراسة الأمنية اللازمة لمنع العنف، وكذلك العلاج الضروري للحد من العزلة والانتكاس. وهم بحاجة أيضًا إلى سبيل يمهد لهم الخروج إلى البيئة الاجتماعية، وهو الذي ييسره ويشرف عليه الخبراء في مجال الجناة الذين يتسمون بالعنف.

وهذا النوع من الاهتمام والتخطيط يحتاج إلى موارد. فالسجين المضطرب المخل بالنظام يتطلب عددًا أكبر من الموظفين — وليس أقل — مقارنةً بالسجين الذي تسهل إدارته. ولعل هذا هو السبب وراء إيداع أعداد كبيرة من السجناء ذوي الاضطرابات النفسية داخل زنزانة واحدة كبيرة، والاكتفاء بإعطائهم أدوية للعلاج النفسي. لكن التوفير قصير المدى في وقت الموظفين لا قيمة له؛ لأن إيداع السجناء ذوي الاضطرابات العقلية داخل زنزانة واحدة كبيرة لا يسفر إلا عن زيادة غضبهم وتدهور حالتهم النفسية؛ وبذا فهم يشكِّلون مشكلة إدارية أكبر على المدى الطويل، ومن ثم يستنزفون المزيد من موارد السجون، ويمثِّلون في النهاية تهديدًا أكبر على الأمن العام.

ويؤيد توخ استخدام «نظرية التعلم الاجتماعي» مع السجناء المضطربين المخلين بالنظام، بدءًا من تحليل نمط سوء السلوك لدى السجين. فلماذا يتصرف سجين أو مجموعة من السجناء على نحو مخل بالنظام؟ هل هناك مشكلة هيكلية في الوحدة التي يوجدون فيها، مثل تقديم وجبات غير صحية لهم؟ هل هناك ضابط معتدٍ محدد في نوبة معينة يثير غضبهم؟ هل تحدث حالات الإخلال بالنظام بعد حرمان السجناء من الوقت المخصص لهم في ساحة السجن؟ هل يحتاج السجين إلى أدوية علاج نفسي؟ هل عرف السجين مؤخرًا أن زوجته على علاقة بشخص غيره وتخطط للطلاق منه والحصول على حضانة أطفالهما؟ بتوزيع عدد أكبر من الموظفين في السجون، يمكن الكشف عن هذه الأنماط السلوكية ووضع استراتيجيات للعلاج.

مراجعة النظراء وضمان الجودة

ليس من الممكن وضع مجموعة ثابتة من التوجيهات تضمن جودة خدمات الصحة العقلية وملاءمتها في جميع المؤسسات العقابية. ويُعَد التصديق أو الاعتماد تذكيرًا مفيدًا بوجود معايير بالفعل، لكن هذه المعايير لا تكون ذات قيمة إلا بصلاح نوايا الأشخاص الذين من المفترض أن يفوا بها. ومن بين سبل زيادة محاولة أية مؤسسة بإخلاص الوصول إلى المعايير المقبولة إجراءُ مراجعة نظراء صادقة وفعَّالة، وإدارة برنامج لضمان الجودة.

وتتطلب مراجعة النظراء اجتماعات بين النظراء لمراقبة جودة العمل المهني. فيجتمع الأطباء بالمستشفيات بانتظام كلجنة لتقييم عمل كل طبيب في فريق العمل. وتراجع لجنة النظراء الأسئلة المتعلقة بالأداء المهني للطبيب، مثل الأسئلة التي تفرضها حالات الوفاة التي يمكن الحيلولة دون حدوثها. والطبيب المخطئ قد يحصل على توبيخ من اللجنة، أو حكم مع إيقاف التنفيذ، أو يلزم عليه الخضوع لإشراف طبيب آخر، أو توصي اللجنة بألا يُمنَح الطبيب تجديدًا للمزايا المهنية التي يتمتع بها.

وبوجه عام، تقتصر مداولات لجان مراجعة النظراء على جودة ممارسة كل طبيب. لكن عند النظر في أداء وملاءمة برنامج بأكمله، يُجرَى نوع آخر من الفحص الذاتي. ومن الأمثلة على ذلك حدوث تفشٍّ للعدوى بالبكتيريا العنقودية في أحد عنابر المستشفى، ووفاة العديد من المرضى نتيجة لذلك. في هذه الحالة، ستعقد إدارة المستشفى اجتماعًا يحضره الأطباء وأعضاء هيئة التمريض وغيرهم من موظفي العنابر، وستضع هذه المجموعة بأكملها خططًا للتحكم في الوباء ومنع تكرار حدوثه في المستقبل. وعلى الرغم من أن الغرض من هذا الاجتماع هو ضمان الجودة، وهو الغرض ذاته من مراجعات النظراء، فإن التركيز في هذا الاجتماع ينصب على تفشي العدوى، وليس بالضرورة التساؤل عن أخلاقيات أو كفاءة موظف معين. ولا يقتصر الاجتماع في هذه الحالة على فئة مهنية معينة.

وجميع الخطط الفعلية لتوفير خدمات الصحة العقلية المناسبة تتضمن تقديرات تقريبية. فكم عدد أسرَّة المرضى الداخليين المصابين بأمراض نفسية التي يحتاج إليها سجن يشتمل على ٥٠٠٠ مدان؟ لا يوجد رقم محدد؛ إذ لا بد من وضع الكثير من العوامل في الاعتبار. على سبيل المثال، يعتمد عدد أسرة المستشفيات المطلوبة على أنواع الخدمات المتوافرة للسجناء خارج عنابر العلاج النفسي. وفي السجون، التي تتضمن عددًا كافيًا من الموظفين بما يسمح بمنح اهتمام جيد بجميع السجناء الذين يحتاجون إلى رعاية، قد تكون الحاجة إلى أسرَّة المستشفيات منخفضة نسبيًّا. فعندما لا يكون المستشفى هو المكان الوحيد الذي يمكن للسجين التحدث فيه مع معالج متخصص؛ يحصل الكثير من السجناء على المساعدة فيما يتعلق بمشكلاتهم الانفعالية التي يعانونها قبل أن يصلوا إلى نقطة الانفجار، ويلزم إدخالهم المستشفى.

عندما يسألني أي قاضٍ عن الحلول الممكنة لصور القصور في أحد أنظمة توفير رعاية الصحة العقلية بالسجون، أوصي بتضمين مراجعة نظراء على أعلى مستوًى وإجراء لضمان الجودة، بالإضافة إلى تكليف هذه اللجان بمهام معينة، مثل تحديد عدد الأسرَّة اللازمة في المكان الذي تعمل به. لكنني أضيف سريعًا شرطًا واحدًا، وهو أن لجنة ضمان الجودة لا تكون ذات قيمة إلا بقدر إخلاصها والتزامها بضمان رعاية عالية الجودة. فمن السهل على أية مؤسسة لا تفي بالحد الأدنى من المعايير إعداد لجنة لضمان الجودة ومراجعة النظراء يقتصر دورها على اعتماد الأوراق الخاصة بالبرنامج الحالي؛ ومن ثم، يأخذ فريق التصديق، الذي يراجع محاضر اجتماعات اللجنة، انطباعًا خاطئًا بأن المؤسسة تلبي المعايير. وهذا الموقف غير المكترث ذاته، الذي يؤثر سلبًا على الخدمات السريرية للمرفق، يمكن أيضًا أن يؤثر سلبًا على استعداد فريق العمل لتنفيذ أعمال هادفة لضمان الجودة.

يجدر بنا هنا أن نشير إلى الشركات الخاصة الهادفة للربح التي تتعاقد لإدارة السجون وما بها من خدمات صحية وخدمات صحة عقلية. فينطوي هذا الأمر على خطر أصيل؛ وهو أن الشركات الخاصة تسعى إلى تحقيق أقصى أرباح ممكنة عن طريق ترشيد الإنفاق وزيادة عدد الأشخاص الذين تتعاقد على إدارتهم. وعندما تُترجم هذه الاستراتيجية إلى تراجع في عدد الموظفين والخدمات المتعلقة بالصحة العقلية، يعاني السجناء المصابون باضطرابات عقلية ضررًا بالغًا. وعندما يُدفَع للمتعهد الخاص «على أساس كل فرد» لتقديم خدمات رعاية الصحة العقلية (أي أتعاب شاملة تعتمد على عدد السجناء بالسجن)، يكون لدى الشركة الحافز المادي لتشخيص عدد أقل من السجناء المضطربين عقليًّا وتقديم قدر أقل من العلاج الشامل. وعندما يُدفَع لشركة السجون الخاصة مبلغ معين من المال عن كل مدة يقضيها السجين في السجن، يكون لديها حافز لجعل السجناء يفشلون في تقويم أنفسهم بحيث يعودون إلى السجن ويقضون مدد عقوبات أطول. كم كنت أتمنى أن تكون هذه الحيل المريبة مجرد أوهام، لكننا للأسف رأينا بالفعل ما يدل على أن الشركات الخاصة تجني أرباحًا من فشلها الممنهج في إصلاح السجناء. وعلى الرغم من أنه قد لا يكون من الإنصاف أن نطلب من لجان ضمان الجودة ومراجعة النظراء تولي العبء الكامل لمراقبة الشركات الخاصة لضمان عدم تهاونها في جودة الخدمات السريرية بهدف تحقيق أقصى أرباح ممكنة، فإن اللجان التي تراعي ضمائرها يمكن أن تسيطر بحق على بعض من هذه الانتهاكات.

والمراقبة الخارجية المستمرة من جانب المحاكم أو هيئات الرقابة المستقلة تكون دائمًا فكرة جيدة. ومتى توافرت الفرصة، على سبيل المثال في السجون القريبة من المراكز الطبية التابعة للجامعات، يكون من الأفكار الجيدة أيضًا جعل الموظفين المهنيين الذين يعملون بالسجون وفريق العمل الطبي الجامعي يعقدون اجتماعات معًا بهدف إجراء مراجعة النظراء وضمان الجودة.

استمرار الرعاية

إن خطط الرعاية لما بعد الخروج من السجن والتواصل بين موظفي رعاية الصحة العقلية بالسجون ونظرائهم في المجتمع من الأمور التي هناك حاجة ماسة إليها. فأغلبية السجناء، بمن فيهم مَن يعانون اضطرابات عقلية حادة ودائمة، سيقضون في النهاية مدة عقوبتهم الكاملة، ثم يُطلَق سراحهم. والبعض سيُعاد إرساله إلى الهيئات العلاجية المجتمعية أو المؤسسات العقابية. ليس من المفيد تقديم رعاية ممتازة لهم في السجون، ثم إطلاق سراحهم دون علاج أو خدمات دعم في الخارج. وكجزء من خطة العلاج داخل السجن، لا بد أن يبقى الاختصاصيون الاجتماعيون أو غيرهم من اختصاصيي التواصل على اتصال بأُسر السجناء، والعمل مع الهيئات ذات الصلة في المجتمع، وبذل كل ما في وسعهم لتيسير الانتقال السلس إلى حياة ما بعد إطلاق السراح في المجتمع. ولا يكون برنامج العلاج في السجن عمليًّا حقًّا إذا لم يقدم خدمات شاملة لفترة ما بعد إطلاق السراح من السجن.

السرية والحصول على الرعاية

إن السرية مسألة مهمة للغاية. فالعُرف السائد بين السجناء من الرجال يجعل من الصعب عليهم الاعتراف بأن لديهم مشكلات، ويقلل أيضًا من عدد مَن يزور منهم الطبيب النفسي للتحدث عن هذه المشكلات؛ ولهذا السبب لا يحصل اختصاصيو رعاية الصحة العقلية، الذين يتجولون بين زنزانات السجناء ويسألونهم إن كانوا يريدون التحدث معهم أم لا، إلا على عدد قليل للغاية من الردود الإيجابية. لكن إذا اتُّبِعت الإجراءات اللازمة لضمان حصول السجناء، الذين يريدون التحدث، على موعد سري تمامًا مع الطبيب السريري والتحدث معه في خصوصية، فسوف يستفيد عدد أكبر بكثير من السجناء من خدمات الصحة العقلية الاختيارية.

ولا يكون دائمًا بإمكان اختصاصيي الصحة العقلية بالمؤسسات العقابية التعهد للسجناء بأن المحادثات بينهم ستظل سرية. ففي العديد من الحالات، يلزم على هؤلاء الاختصاصيين إبلاغ موظفي الأمن والإدارة عما يُقال أمامهم، كما الحال عندما يصرِّح لهم سجين ما بشيء يتضمن تهديدًا لأمن السجن. لكن الاختصاصي الذي يحاول تقديم المساعدة بإمكانه أن يَعِد السجين بأنه سيكون صريحًا معه بشأن اللوائح الأساسية المتعلقة بالسرية، وبأنه سيتبع القواعد الأخلاقية فيما يتعلق باتخاذ قرار حول ما يتم الإبلاغ عنه والشخص الذي سيتم إبلاغه. ويمكن للسجين، بعد ذلك، أن يقرر ما يمكن أن يقوله دون خوف لمقدم الرعاية.

وتظهر مسألة السرية عادةً في العلاج الجماعي. فعندما يقابل السجينُ الطبيبَ النفسي في لقاء خاص، يمكنه أن يتوقع منه الحفاظ على شيء من السرية بينهما، لكن الموقف يكون أكثر تعقيدًا مع السجناء في العلاج الجماعي. فهل يمكن للسجين الوثوق بالسجناء الآخرين فيما يتعلق بالحفاظ على أسراره؟ وإذا اعترف أنه خائف من مجرم قوي معين، أو قَلِقٌ بشأن أن تكون زوجته على علاقة برجل آخر، فهل سيفشي أحد الأعضاء الآخرين في المجموعة سره في ساحة السجن؟ لكن قادة المجموعات الأكْفاء يتمتعون بأساليب تمكنهم من مساعدة السجناء على تجاوز مثل هذه المشكلات المعقدة، وتجاوز هذه المشكلات في كثير من الأحيان يُعَد جزءًا مهمًّا من العلاج. فتعلم الثقة في الآخرين، والتمييز على نحو جيد لتحديد الوقت الذي يجب فيه عدم الوثوق بهم، هو مهارة اجتماعية مفيدة داخل السجن وخارجه على حدٍّ سواء.

الفصل بين الصحة العقلية ومسائل الانضباط

ثمة درجة معينة من الاستقلالية لا بد أن يتمتع بها موظفو رعاية الصحة العقلية عن موظفي الأمن لكي يتمكنوا من تقديم علاج يتسم بالإنسانية. لا شك أن الأمن من الاعتبارات الرئيسية في المؤسسات العقابية. وموظفو رعاية الصحة العقلية أنفسهم لا يمكنهم القيام بعملهم إذا لم تتمتع المؤسسة بالأمان. لكن في كثير من الأحيان يكون الروتين مُقيِّدًا لدرجة تجعل موظفي الأمن يتحكمون في الموقف حتى عندما تكون تصرفات السجين لا تمثل تهديدًا خطيرًا لسلامة أي شخص وناتجة بوضوح عن حالته النفسية؛ لذا، يحتاج كلٌّ من موظفي رعاية الصحة العقلية وموظفي الأمن إلى التوصل إلى نوع من التعاون لا يجعل المخاوف الأمنية تتحكم على نحو كامل في الاعتبارات العلاجية.

في بعض الأحيان، يجب على موظفي الخدمات السريرية مقاومة إرادة ضباط الأمن. على سبيل المثال، ليس مقبولًا من الناحية الأخلاقية أن يخبر الطبيب السريري المتخصص في الصحة العقلية السجين الذي تعرض للاغتصاب بأنه لن يحصل على علاج إلا إذا ذكر أولًا اسم الشخص الذي اعتدى عليه. عندما يستخدم موظفو السجن هذا الأسلوب للتشجيع على الوشاية بالسجناء الآخرين، يكون الطبيب السريري المتخصص في الصحة العقلية ملتزمًا من الناحية الأخلاقية بالاعتراض بشدة على هذا الأمر.

وعندما تكون السلوكيات الصادرة عن السجناء المضطربين عقليًّا — مثل محاولات الانتحار، وتشويه الذات، وخرق القواعد، بل وحوادث العنف البسيطة أيضًا — ناتجة عن الاضطرابات العقلية التي يعانونها، فيجب عدم التعامل مع هذه السلوكيات بشكل كامل على أنها مخالفات انضباطية تتطلب عقابًا. لكن في كثير من الأحيان، يُعاقَب السجناء على هذه الأفعال المُخلة بالنظام، ولا يوضع في الاعتبار مطلقًا أن هذه الأفعال قد تكون مجرد انعكاس لحالة ذهان وشيكة أو حاجة لاهتمام نفسي مباشر.

ولا يعني ذلك أن موظفي السجون يجب أن يتغاضوا عن السلوكيات غير المسموح بها من جانب السجناء المضطربين عقليًّا، وإنما يعني أن هذه السلوكيات يجب التعامل معها في سياق خطة علاج تتضمن اهتمامًا خاصًّا بالمسائل الأمنية. ويجب ألا يُسمَح ببقاء السجين المضطرب عقليًّا فترات طويلة في الحبس المشدد، فعند ظهور إنذار تأديبي بعد الوفاة عقابًا على أفعال مدمرة للذات في تقرير سجين نجح في الانتحار، نرى كيف يمكن أن يصبح الأسلوب العقابي مناقضًا للعلاج وجائرًا.

التدريب المتبادل، بما في ذلك التدريب على الجوانب الثقافية الحساسة

لكي يتمكن موظفو رعاية الصحة العقلية من الحفاظ على أمنهم وتقديم خدمات فعَّالة، لا بد أن يعوا المبادئ التي توجه عمل موظفي السجون. وموظفو السجون لا بد أن يكون لديهم أساس قوي من فهم مبادئ الطب النفسي وعلاج الصحة العقلية؛ كي يتمكنوا من فهم العدد الكبير من السجناء الذين يعانون اضطرابات عقلية، والتدخل بفعالية للتعامل معهم. وضابط السجن يكون عادةً أول مَن يلاحظ انهيار السجين الانفعالي الوشيك أو ميله للانتحار. والطبيب السريري المتخصص في الصحة العقلية يكون عادةً أيضًا أول مَن يدرك أن السجين، الذي تلقى عقابًا، يعاني في الواقع اضطرابًا شديدًا ويتطلب علاجًا نفسيًّا طارئًا. وبالإضافة إلى التدريب المتبادل، لا بد من وجود تعاون وثيق بين مختلف أنواع الموظفين في المؤسسة العقابية.

ونظرًا لوجود تنوع هائل بين السجناء فيما يتعلق بالعِرق والثقافة، يحتاج جميع الموظفين إلى الخضوع لتدريب مكثف حول قضايا التنوع العرقي والحساسية الثقافية. فقد سمعت مرارًا وتكرارًا من السجناء — حتى عندما لا يتهمون أحدًا بالعنصرية السافرة — أن الموظفين يجهلون على نحو هائل خلفيتهم العرقية ولا يكترثون بثقافتهم. وعلى الرغم من وجود الكثير من برامج التدريب على كيفية التعامل مع التنوع العرقي في المجتمع وتحقيقها نجاحًا كبيرًا في التدخل للحد من التمييز في أماكن العمل العامة والخاصة، فإن جميع أنظمة السجون التي تجولت فيها لم تقم بأية محاولات جادة لإشراك أعداد كبيرة من موظفيها في هذا النوع من التدريب. ولا يمكن تقديم خدمات صحة عقلية عالية الجودة داخل السجون دون الاهتمام الجاد بقضايا التنوع العرقي والثقافي.

•••

يؤسفني أن أعلن أننا بحاجة لإنفاق المزيد من الأموال لتأسيس خدمات صحة عقلية ملائمة خلف القضبان. والمبدأ الذي ينطبق هنا هو أن إنفاق بعض الأموال مقدمًا يعني إنفاق قدر أقل على المدى البعيد. وحبس شخص مريض عقليًّا مثال عملي جيد على هذا المبدأ. فنظام الصحة العقلية العام في المجتمع يعاني آثار عمليات خفض كبيرة في الميزانيات؛ ما يتطلب إغلاق الكثير من وحدات العلاج الخارجية وتقليص مدد المكث في المستشفيات ومنازل الإقامة الانتقالية. لكن هذه التخفيضات في الميزانيات تمثل ادخارًا زائفًا. فإذا سُمِح للمريض بزيارة معالج نفسي على نحو منتظم، أو قضاء المزيد من الوقت في التحدث مع طبيب نفسي، أو البقاء في منزل انتقالي فترة أطول بما فيه الكفاية ليدرك نقاط القوة لديه، فسيقل احتمال عودته إلى وحدات العلاج النفسي الداخلية أو إلقاء القبض عليه. ونظرًا لأن خدمات رعاية المرضى الداخلية باهظة التكلفة للغاية، فإن تكلفة علاج المريض العقلي الذي أُعيد إدخاله المستشفى عدة مرات في عام واحد أعلى بكثير من توفيرٍ منخفض التكلفة لأماكن إقامة في منازل انتقالية على مدار عام كامل.

ومقارنة التكاليف التي يتضمنها تشغيل النظام العقابي الحالي بتكاليف العلاج النفسي والعلاج الفعال بالأدوية توضح مدى الحمق في حبس المجرمين المصابين بأمراض عقلية في سجون شديدة الازدحام وقاسية الظروف. وإذا خالف مريض عقلي لا يحصل على العلاج الملائم القانونَ وحُبِس، فإن تكلفة إجراءات المحاكمة والسجن تفوق بكثير التكلفة التي كان من الممكن أن تتضمنها خدمات الصحة العقلية المجتمعية المناسبة التي كان من شأنها أن تُجنب هذا الشخص السجن. وتكلفة المنزل الانتقالي في المجتمع تبلغ حوالي ٦٨٠٠ دولار سنويًّا، وتكلفة العلاج النفسي الخارجي الداعم ونصف الشهري حوالي ٢٠٠٠ دولار كل عام، وتكلفة العلاج بالميثادون حوالي ٣٩٠٠ دولار كل عام. ولك أن تقارن بين إجمالي هذه المبالغ وتكلفة الحبس، التي تتجاوز ٣٠ ألف دولار في العام في حال كانت هناك حاجة لأي نوع من الحراسة المشددة أو الرعاية النفسية.

وبتطبيق هذا المبدأ نفسه في السجون، فإن تحسين خدمات الصحة العقلية بداخلها سيحتاج بالتأكيد إلى نفقات، لكن إذا حال العلاج المناسب دون إرسال عدد كبير من السجناء المصابين بأمراض عقلية إلى وحدات الحبس الانفرادي أو اعتقالهم مرة أخرى بعد إطلاق سراحهم، فستعتبر هذه الأموال استثمارًا جيدًا للغاية، وستؤدي إلى توفير مبالغ ضخمة على المدى البعيد.


سحر الحرف والكلام


شكرا للأخ صقر الأوراس على التوقيع