إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
13-10-2018, 04:05 PM
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
د. حسين آل الشيخ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

من أسماءِ الله – جلَّ وعلا -: الرقيب، يقول – تبارك وتعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء: 1]، ويقول – جلَّ وعلا -: ﴿وكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا﴾ [الأحزاب:52].
فهو – سبحانه – الرقيب المُطَّلِع على ما كنَّت الصدور، القائِمُ على كل نفسٍ بما كسبت، الحافظُ الذي لا يغيب عنه شيء، المُطَّلِعُ على الخلائق، يرى أحوالهم ويُحصي أعمالهم.
قال الإمام العلامة ابنُ القيم رحمه الله:
وهو القريبُ على الخواطِرِ واللَّوا***حِظِ كيف بالأفعالِ والأركانِ
وإنَّ استقرارَ هذا المعنى العظيم في قلبِ العبد، يجعله مُتيقنًا بدوامِ علمِ الله واطلاعه على ظاهرِه وباطنِه، فيثمرُ له ذلك علمًا جازمًا، بأن الله رقيبٌ عليه، ناظرٌ إليه، سامعٌ بقولِه، بصير بفعله، مُطلعٌ على عملِه في كل وقتٍ ولحظةٍ وفي كلِّ طرفةِ عين.
فالمراقبةُ – يا عباد الله -، المراقبةُ مِن العبدِ: تعبُّدٌ للهِ باسمه – سبحانه – الرقيبِ الحفيظِ، العليمِ المحيطِ، الخبيرِ اللطيفِ، المُهيمِنِ باطِّلاعهِ على خفايا الأمور وخبايا الصدور.
فهو – عزَّ شأنُه – الشهيدُ المُطَّلِعُ على جميع الأشياء، السميعُ لجميع الأصوات جليِّها وخفيِّها، البصيرُ لجميعِ الموجودات دقيقِها وجليلِها، صغيرِها وكبيرِها، القريبُ مِن كل أحدٍ بعلمِه وخبرتِه ومراقبتِه ومشاهدتِه وإحاطتِه، فمَن عقَلَ هذه الأسماء الحسنى، وتعبَّدَ لله بمُقتضاها، حصَلَت له المراقبةُ الحقَّة التي تجعلُ قلبَه مُراعِيًا لملاحظة الحق – سبحانه – مع كلِّ خطرةٍ وخطوةٍ.
وإنَّ واجبَ العبدِ في هذه الحياة الدنيا: أن يكونَ قلبه في مراعاةٍ دائمةٍ للرقيبِ – عزَّ شأنُه -، فلا يلتفِتُ إلا إليه، ولا يخافُ إلا منه، فهو دائم الحفظ لأوامره – جلَّ وعلا -، دائم الحفظِ لنواهيه، مُنصرف الهمةِ إلى ما يُرضيه ويُقرِّبه منه – سبحانه -، فمتى راقَبَ العبدُ ربَّه: أوجبَ له ذلك الحياءَ من خالقه، والإجلالَ والتعظيمَ لبارئِه، والخشيةَ والمحبةَ والإنابةَ والخضوعَ والتذلُّلَ لمَن خلقَه وأوجدَه.
فصلاحُ الدارَين وفلاحهما في مراقبةِ العبدِ لربه وتحرِّيه مرضاته، وملازمةِ عبوديتِه على السنَّةِ النبوية، مع لزومِ الإخلاص له – سبحانه -، إخلاصِ مَن يعلم: أن الناس إن راقبوا ظاهره، فالله – جلَّ وعلا – يراقبُ ظاهرَه وباطنه، كما قال– سبحانه -: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ [آل عمران: 5]، وقال – عزَّ شأنُه -: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ [البقرة: 235].
إن مراقبةُ الله – جلَّ وعلا – توجِبُ على العبدِ مُحاسبةَ النفس؛ استجابةً لقوله – سبحانه -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر: 18].
قال الإمام العلامة ابن القيم – رحمه الله -:“ فينظرُ العبدُ ما قدَّم لليوم الآخر أمِنَ الصالحات التي تُنجِيه، أم مِن المُوبقات التي تُوبِقه …” إلى أن قال: “والمقصودُ: أنَّ صلاحَ القلب بمحاسبةِ النفس، وفسادَه بإهمالِها والاسترسالِ معها”. اهـ كلامُه.
وإنَّ مراقبة الله حقًّا تحملُ العبدَ على الاجتهادِ في الطاعات، والتجرُّدِ عن كل ما يُعارِضُ أمرَ ربِّ الأرض والسماوات، كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90].
فالمؤمن يجبُ أن يكون في مراقبةٍ دائمةٍ لربِّه، في الطاعةِ: بالإخلاصِ والامتثالِ على الكمال، وفي بابِ النواهِي: بالانزجارِ والمداومةِ والمثوبةِ والإنابةِ إلى ربِّنا – جلَّ وعلا -، فما حُفِظَت حدودُ الله ومحارمُه، ووصلَ الواصلون إليه – سبحانه – بمثل خوفهِ ومراقبته، ورجائِه ومحبته، جعلنا اللهُ وإياكم من أهل الخوف والرجاء.
قال – سبحانه -: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 46]، وقال – عزَّ شأنُه -: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ﴾ [النازعات: 40- 41].
قال ابن الجوزي – رحمه الله -: “الحقُّ – عزَّ وجل – أقربُ إلى عبده من حبل الوريد …” إلى أن قال: “فقلوبُ الجُهَّال تستشعرُ البُعدَ، ولذلك تقعُ منهم المعاصي؛ إذ لو تحقَّقَت مراقبتهم للحاضرِ الناظرِ – سبحانه -، لكفُّوا الأكفَّ عن الخطايا”.
قيلَ لبعض السلف: بمَن أستعينُ على غضِّ البصر؟، قال:“ بعلمِك أنَّ نظرَ الناظرِ إليك: أسبقُ مِن نظرِك إلى المنظورِ إليه”.
وفي مِثل هذا المعنى يُذكِّرُنا نبيُّنا – صلى الله عليه وسلم – بهذا المعنى فيقول:«سبعةٌ يُظلُّهم الله في ظلِّه، يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: الإمام العادل، وشابٌّ نشأ في طاعةِ الله، ورجلٌ قلبُه معلَّقٌ بالمساجد، ورجلان تحابَّا في الله، اجتمعا عليه وتفرَّقَا عليه، ورجلٌ دعَتْه امرأةٌ ذات منصِبٍ وجمالٍ فقال إنِّي أخافُ الله، ورجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ، فأخفاها حتى لا تعلَمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يمينُه، ورجلٌ ذكَرَ اللهَ خاليًا ففاضَت عيناه».
رقابة الله – جلَّ وعلا – تُنزِّهُ الأفرادَ عن مُقارفة الآثام والمحرمات، وتُنزِّهُ القلوبَ عن كل ما يُدنِّسُها ويُفسدها، وبذا يتحقَّق المجتمع الصالح الذي أراده الله – جلَّ وعلا – بقوله:﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 71].
فمراقبةُ الله – جلَّ وعلا – تُنشئُ مجتمعًا نقيًّا ، يتحلَّى أبناؤه بكل فضيلة، ويعيشون عيشةً رضيَّةً، متعاونين على البرِّ والتقوى، مُعتصِمِين بحبل الله – جلَّ وعلا -، مُجتمِعين على كلمةِ الله، نابِذينَ كل تفرُّقٍ وتحزُّب، مُناوِئِين كلَّ منهجٍ غالٍ وفكرٍ متطرف، يعيشون على ضوء مبادئ دينهم، وما يحمِلُه من العدل والسماحة، واليسر والوسطية، والرفق واللين والمحبة .
يعيشون تحت رقابةِ ربِّهم، في استقامةٍ وإصلاحٍ، آمنين مُستقِرِّين، يعبدون ربَّهم، يشكرون خالِقَهم، يُوحِّدون صفَّهم في محبةٍ إيمانيةٍ، ومودةٍ إسلامية، شعارهُم: قولُه – جلَّ وعلا -: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10].
وقوله – صلى الله عليه وسلم – :«لا تحاسَدوا، ولا تناجَشوا، ولا تباغَضوا، ولا يبِع بعضُكم على بيعِ بعضٍ، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلمُ أخو المسلم لا يظلِمُه ولا يخذُلُه ولا يحقِرُه ..»الحديث.
فراقِبُوا الله – جلَّ وعلا – في أداء حقوقه – سبحانه -، وراقبوه في أداء حقوق عباده؛ تفلحوا وتفوزوا وتسعَدوا.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.