طرق دراسة المستشرقين للنحو العربي
20-07-2017, 09:23 AM
طرق دراسة المستشرقين للنحو العربي
د. عصام فاروق

الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:

عندما أراد المستشرقون أن يدرسوا النحو العربي، بدا التأثر منهم واضحًا بطريقة العرب في مصطلحاتهم، وترتيب الأبواب، وغيرها من المظاهر، "وقد بدا هذا التأثر واضحًا في مؤلفاتهم اللغوية القديمة.
ولو نظرنا في ملاحظات (فلايشر) في تعليقاته التي نشرها سنة 1885م تعقيبًا على كتاب:(النحو العربي) للمستشرق الفرنسي (دي ساسي): لوجدناها أقرب إلى النمط العربي في التفكير، وقد أكثر من استخدام المصطلح العربي.
ولو نظرنا في كتاب (كاسباري) وعنوانه:(النحو العربي): لوجدنا أنه قد تأثر تأثرًا كبيرًا في مضمونه ومصطلحه وطريقة معالجته بالدرس اللغوي العربي" [1].
لكنّ المستشرقين المتأخرين بدؤوا ينسلخون عن هذا التأثر، وحل محله تأثرهم بالفكر اللغوي الغربي، فعلى سبيل المثال، فإن فيشر: W.Fischer حينما شرع في تأليف كتاب جديد في:(نحو العربية الفصحى) أراد:" أن يخلص كتابه تمامًا من آثار الدرس اللغوي العربي، من جانب المصطلح، ومن جانب طريقة التفكير، فهو يريد أن يسير على الطريق الغربية الوصفيَّة في دراسة اللغة العربيَّة، وقد قسمه على النحو الآتي:
ابتدأ بقواعد الكتابة، فتحدث في ذلك عن الحروف، والخط، والصوائت القصيرة والطويلة، والتنوين، والتاء المربوطة، والهمزة، والمدة، والشدة، وهمزة الوصل، ثم تحدث عن بعض الأساسيات الصوتية، ومما تناوله في هذا الفصل: وصف الأصوات العربية، والنبر والتنغيم، وتسهيل الهمزة، والإدغام، وبناء المقاطع، وحذف المقاطع وتقصيرها.
وتناول بعدئذ المباحث الصرفية، وقد تناولها على الترتيب الآتي:
الأسماء وقسمها إلى أسماء خالصة في الاسمية وصفات فالأفعال، فالضمائر والأدوات، وقد أجمل الضمائر والأدوات معا، وتحدث في هذا الباب عن الضمائر، وضمائر النصب، وأسماء الإشارة وحروف الربط، وهي حروف العطف، و(إن) الشرطية و(إما)، وجعل المبحث الأخير للنحو، فتحدث عن العلاقة التي تربط الكلمة بالكلمة في الجملة، ثم عن العلاقة التي تربط الجملة بجملة أخرى، أو (ترابط الجُمل) على نحو ما يحدث في الجملة الحالية، وأنهى فيشر كتابه بقوائم لتصريف الأسماء والأفعال كما هي الحال في كتب المستشرقين بعامة" [2].
وبنظرة سريعة على ترتيب كتب النحو العربية، فسوف تلاحظ الاختلاف الكبير بين التناولين، مما يعد مظهرًا واضحًا من مظاهر تأثر المستشرقين بالفكر اللغوي الغربي.
كما أن المستشرقين حينما يتناولون النحو العربي بالدراسة: قد يستخدمون أساليب غير معهودة عند العرب، ومن ذلك استخدام:" الأساليب الإحصائية في الوقوف على أظهر مفردات اللغة وأشهر تراكيبها النحوية، مع مقارنة ظواهرها بظواهر غيرها من اللغات وبخاصة اللغات السامية" [3]
وكما اختلف التناول، فقد برز مظهر آخر خاص بالمادة اللغوية، حيث إن المستشرقين لم يقفوا عند حدود الاحتجاج الزمانية والمكانية المعروفة عند علماء العربية في دراساتهم، فالمادة:" اللغوية عند هؤلاء المستشرقين لم تكن في الغالب الأعم هي الشواهد اللغوية المألوفة عند النحاة العرب، إذ وسّع المستشرقون دائرة مصادرهم، فأخذوا من الأغاني للأصفهاني، ومن كتابات الطبري، والأحاديث النبوية، ولم يلتزموا بمفهوم لغة الاحتجاج التي ألفناها عند العرب" [4].
ومن القضايا النحوية التي يبدو فيها تأثر المستشرقين في دراسة العربية بالفكر اللغوي الغربي: حديث البعض منهم عن أصل الإعراب في العربية، ومن ذلك: ما " كتبه العالم (ريت) في محاضراته: (مقارنة نحو اللغات السامية)، وبيَّنه الأستاذ (بروكلمان) في كتابه:(مقارنة اللغات السامية)، وهو أن أصل لواحق الإعراب لا تعرف معرفة يقين، ولكن يمكن أن يرى أن الفتحة أصلها ha، وهي ضمير إشارة مستعمل في اللغات السامية، ولم يزل في الحبشية يلحق بالأعلام في حالة النصب إذا وقع عليها فعل ذو اتجاه، مثل: أقبل، وقصد؛ وأصل معناها في هذا الاستعمال: الاتجاه إلى شيء أو شخص معين، وإذا صح هذا جاز أن نرى الضمة مشتقة من hoأي: هو. أما علامة الجر، فظاهر مشابهتها بياء النسب، وهي تفيد الكلمة معنى الوصفية.
وفي اللغات الهندية الغربية نرى لواحق الخفض مشتقة من لواحق دالة على الوصفية، ويساعد على هذا في العربية أن الصفة تجيء بعد الموصوف، فيقال: البيت الملكي، وباتحاد الموصوف بالصفة في المعنى، واللفظ بهما مرة واحدة استغني عن إعراب التالي، وخفّفت الياء، فنشأ الخفض، وهو إعراب جديد" [5].
ولسنا هنا في مجال تفنيد هذا الرأي، وإنما ما يهمنا أن:" كل ما ذهب إليه المستشرقون في هذا الموضوع فروض، أساسها أن علامات الإعراب أثر لزوائد كانت تلحق الكلمات، ثم حذفت وبقي منها أثرها دالا عليها، وهو الإعراب، وهم في هذا متأثرون بنظام لغاتهم، وسبيل الإعراب والتصريف فيها، فقد يكون ذلك عندهم بمقاطع لا بحركات، وربما خفِّفت هذه المقاطع واختزلت بتأثير النَّبر واختلاف النطق، أو بغيرها من الأسباب، فبقيت منه حركة، هذا واضح في لغتهم، مقرر في علمها، ولكن العربية لها منهج آخر مخالف لمناهج اللغات الغربية في الإعراب وفي التصريف" [6].
وفي النهاية، فلعل القارئ يشاركني الرأي: أننا نستطيع أن نصل إلى فهم دقيق لكثير من الاختلافات في تناول المستشرقين للغة العربية عما عهدناه عند علمائنا العرب في ضوء اعتبارنا لتأثرهم بالفكر اللغوي الغربي الذي ينتمون إليه، فإذا أردنا أن نتفهم جيداً: اعتبار المستشرقين الانحرافات عن القواعد المعيارية نوعًا من التطور، أو دعوة البعض منهم للعامية، أو نظرتهم للفصحى القديمة على أنها ميتة أو في طريقها إلى ذلك، أو وصف العربية القديمة بالكلاسيكية، وما ينبني على هذا الوصف من أحكام، أو اختلاف تناولهم للأبواب النحوية وتقسيمها وطريقة عرضها، أو عدم تقيدهم بحدود الاحتجاج الزمانية منها والمكانية، أو حديث البعض منهم عن أصل علامات الإعراب، وأنها أثر لزوائد كانت تلحق الكلمات ...
أقول: إذا أردنا أن نتفهم جيداً هذه الاختلافات ودوافعها، فلا بد من قراءتها في سياق تأثرهم بفكرهم اللغوي الغربي.

هوامش:
[1] بحوث في الاستشراق (314)، بتصرف يسير.
[2] السابق (322- 324).
[3] المستشرقون ونظرياتهم (15).
[4] بحوث في الاستشراق (325).
[5] إحياء النحو (43، 44) إبراهيم مصطفى، ط. ثانية، 1413هـ-1992م.
[6] إحياء النحو (45).