قصة "حلاق دمشق" تحمل القراء لعالم مواز لبلاد الشام في العهد العثماني
08-05-2018, 05:39 AM


صدر أخيراً عن مشروع "كلمة" للترجمة، في دائرة الثقافة والسياحة أبوظبي، كتاب "حلاق دمشق: محدثو الكتابة ف بلاد الشام إبان العهد العثماني"، للكاتبة الأكاديمية، دانا السجدي، ويعد هذا الكتاب فريداً من نوعه حيث "التأريخ الشعبي" فيه يفتح للقارئ عالماً موازياً غنياً يعتبر مفقوداً أو خفياً في التاريخ العربي.

وتقول السجدي لـ 24: "هناك قصة ممتعة وراء هذا الكتاب، أن هذا الحلاق المذكور، اكتشفه عالم من القرن 19 وحقق واختصر وهذب كتاب الحلاق، ونشره عزت عبد الكريم في الخمسينات تقريباً، والنسخة المحققة والمنقحة موجودة لدي، وأي مؤرخ يدرس القرنين 18 و 19 يعرف بوجود الحلاق، ولكن حظي الحسن، تجلى في أني وجدت النسخة الأصلية الغير محققة في إيرلندا، تحديداً في مكتبة (تشستر بيثي)، والفصل الأخير من الكتاب مقارنة بين المخطوطة من القرن الـ 18 ومع مخطوطة القرن 19، وهناك اختلاف كبير، حيث أننا نكتشف أجندة عصر النهضة في القرن 19 وما كان هؤلاء يحاولون فعله في التاريخ، ونلاحظ الاختلاف في الطرح بين القرنين بوضوح".

حلاق ومؤرخ!
وتحكي السجدي: "شعرت بالغيرة من كتابات التاريخ الأوروبية الحديثة، التي اشتهرت لنجاحها في إبراز تاريخ الطحان "مينوكيو الفريولي، الذي عاش في القرن الـ 16، وكشفت نظرته وثقافته، لذا أردت إحياء سيرة بعض العوام في تاريخ بلاد الشام الوسيط، وحذرني من هم أكثر مني حكمة مما سأواجهه من عوائق، فمصادرنا الرئيسية، ولعلها الوحيدة عبر العصور الوسطى، هي كتب تاريخ ألفها العلماء، وفي سياق عصور ما قبل الحداثة، العلماء بالضرورة هم علماء الدين، أي من درسوا واهتموا بالعلوم الدينية والشرعية، ولكونهم الفئة الوحيدة القادرة على الكتابة والقراءة، كتبوا بالأغلب عن أنفسهم ولأنفسهم، فلم يبق للباحث في التاريخ الاجتماعي، سوى نافذة نصية واحدة تطل به على التاريخ الاجتماعي للقرون الوسطى، ونافذة العلماء هذه ضيقة للغاية، لأنها لا تسمح برؤية فئات اجتماعية أخرى، لذلك عقدت العزم على محاولة إثبات عكس مقولة (علم دراسة العلماء، بوصفهم فئة اجتماعية هو جل التاريخ الاجتماعي المتوفر لدينا)، فقضيت عاماً كاملاً في قراءة النتاج التاريخي لعلماء الشام في العصور الوسطى، آملة التمكن من البحث عن دور العامة من الناس، لكن دون نتيجة، وكنت أشعر بإحباط شديد إلى أن وقع عيناي بمحض الصدف على حاشي ذكرت (.. الـتاريخ الشعبي،، لمؤلفة الحلاق الدمشقي في القرن الثامن عشر أو الركيني، المزارع من جنوب لبنان في القرن الثامن عشر)، وهنا دهشت، حلاق ومؤرخ! مزارع ومؤرخ!، وهنا انطلقت للاكتشاف الكبير".

الفعل المذهل
وتضيف الساجدي: "لم يكن الحلاق الدمشقي والمزارع هما المؤلفين الوحيدين المنتمين إلى الطبقة العامة، أو الشخصيتين الاستثنائيتين اللتين كتبتا تاريخاً معاصراً عن حياتهما، فشبيه هذه النوعية من التواريخ، التي كتبت في بلاد الشام زمن القرن 18، ما ألفه اثنان من الجنود، وموظف بسيط كاتب محكمة، وقسيسان أحدهما ينتمي إلى كنيسة الروم الأرثوذوكس والآخر إلى شبيهتها الروم الكاثوليك وكاتب سامري وتاجر".

ويعتبر اكتشاف الساجدي للمخطوطة الأصلة الوحيدة للحلاق الدمشقي، شهاب الدين أحمد ابن بدير، الذي عاش قبل عام 1762، حدثاً مهماً كون تأريخ ابن دير هو المؤلف الوحيد في التاريخ العربي والإسلامي الذي كتبه حلاق، وتقول الساجدي: "طرحه حمل جرأة، ويكشف عالماً كاملاً لحياة وتاريخ شعبي في ذلك العصر، وبرأيي جرأة ابن بدير الحقيقية تكمن في فعله البسيط والمذهل في آن واحد، أنه كتب كتاباً!، لقد وجد الثقة الكافية في نفسه لاكتساب سلطة مكنته من التمثل بالعلماء على الرغم من أنه لم يتمتع بعلمهم وإجازتهم له، فألف كتاباً في التاريخ، وأبرز تحرك قام به هو تجاوز حدود عمله كحلاق إلى حقل نصي أدبي ثقافي لم تطأه قد حلاق من قبل".

حوادث يومية.. عالم جديد
ويوثق الكتاب هذ ال ظاهرة الاجتماعية والأدبية التي حدثت في القرن الثامن عشر في بلاد الشام، وتتناول دراسة الكتّاب والمؤلفين الجدد من الفئات المهمشة تاريخياً الذين دخلوا في نص التاريخ، مثل الحلاق "ابن بدير" الذي ألف كتاباً عن دمشق دون فيه حوادث دمشق اليومية، وعادات العامة من الشعب، ومعتقداتهم، وعلاقاتهم اليومية بصورة تختلف في سردها عن سير الملوك والقادة العسكريين والسياسيين، وترصد تلك الظاهرة تغيرات سياسية واجتماعية حدثت في بلاد الشام في تلك الحقبة، وترتب عليها نتاجاً جديداً في القرن التاسع عشر وخطوة إلى عالم جديد.

وحلاق دمشق "ابن بدير"، من بين هؤلاء المؤلفين الذين لم يضيّعوا فرصة تصوير أحداث مدينتهم وكأنما كانت تدور حول ذاتهم، فكتب كتابًا نقل فيه الأحداث المعاصرة الجارية التي أرّخت التغيير الذي عاشته المدينة وتمثل في التوسع في تشييد القصور والأبنية الفخمة التي أصبحت نصبًا تذكاريةً ميزت المدينة، وفي خروج أفراد المجتمع بأعدادٍ كبيرةٍ إلى أماكن التنزه في الهواء الطلق، والضرر العنيف المجلجل الذي أحدثه إطلاق النيران من جانب الكتائب الانكشارية المتنازعة (بالإضافة إلى الجلبة التي أحدثتها الهزات الأرضية والفيضانات التي وقعت بين الحين والأخر)، وكانت كل هذه "الضوضاء" توضيحًا لصدعٍ أصاب المجتمع المتغير، وعكست الفوضى التي اتسم بها النظام الجديد، فأينما وُجِدت الوفرة وتحقق الازدهار، نجد التنافس والعنف.

وتحدث ابن بدير بضمير المتكلم الطموح اجتماعيًّا الذي تمكن من دخول مجتمع المتعلمين واقتحم عالم الصوفيين وعلماء المدينة، فقد كان الحلاق المفضل عند النخبة المثقفة لكونه حلاقًا على درجةٍ معقولةٍ من التعليم ولولعه بالثقافة ورغبته في تحقيق رقيٍّ اجتماعي، تعلم ابن بدير صنعة كتابة التراجم ومن ثم استخدمها كوسيلةٍ أو أداةٍ ليرتقي اجتماعيًّا.

وكما صفف ابن بدير شعر زبائنه داخل دكان الحلاقة، حرص على خلق مكانةٍ له وسط تراجمهم التي شكلت تأريخه. وكانت شفافية طموح الحلاق الرامي إلى إيجاد مستقَرٍّ لنفسه داخل العوالم الاجتماعية الخاصة بالعلماء والصوفيين، قد جعلت منه متعلمًا جديدًا بالمعنى الحرفي للكلمة.

المؤلفة والمترجمة
يذكر أن الكتاب نقلته إلى العربية دكتورة سرى خريس، وراجع الترجمة دكتور سعيد الغانمي.

والكاتبة دانة السجدي من مواليد نابلس، وأستاذ مشارك في التاريخ الإسلامي بكلية بوسطن في الولايات المتحدة الأمريكية، وسبق لها أن حررت كتاب "الزنابق والقهوة: أنماط الحياة الاجتماعية في القرن الثامن عشر من العهد العثماني"، كما شاركت في تحرير كتاب "تحويل الفقدان إلى الجمال: دراسات في الثقافة العربية لذكرى ماجدة النويهي".

أما المترجمة دكتورة سرى خريس فهي أستاذ مشارك في النقد والأدب الإنجليزي في جامعة البلقاء التطبيقية بعمان، وتهتم بالدراسات النسوية والأدب العالمي، وترجمت مجموعة كتب صدرت عن مشروع كلمة منها "الإسلام والاستشراف في العصر الرومانسي: مواجهات مع الشرف" لمحمد شرف الدين، و"المؤلف " للكاتب أندرو بينيت، ورواية "السمي" للروائية جومبا لاهيري.