مستقر الشمس وسجودها: رجحان التفسير، والرد على المنكرين
26-03-2014, 03:21 PM
مقدمة:
ذكرنا في الجزء الأول من هذه الدراسة "مستقر الشمس: التهافت الإعجازي أن الشمس لا يمكن أن تسقط في موضع بعينه، كأن يكون جِرم من الأجرام، فيكون لها مستقرا. والسبب كما أوضحنا، أن شرط الاستقرار أن تحافظ على كيانها، فلا تنعدم. وهذا هو الشرط الذاتي بالشمس عينها. وهو شرط غير ممكن التحقق مع سقوط الشمس في أي جرم أعظم منها، لأن انهيارها وتفككها وزوالها داخله سيكون أمراً حتمياً إذا هوت فيه، فأين ذلك من معنى المستقر؟! والمستقر – كما هو معلوم - هو محل الاستقرار أو الدوام أو الحياة كما في قوله تعالى "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ"(الأنعام:98)، وقوله سبحانه "وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ"(البقرة:36). ومما يدعم ذلك أيضاً قول الله تعالى لموسى عليه السلام: "انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا"(الأعراف:143) أي أن الاستقرار يتنافى مع الاندكاك، وأن المُنْدكَ لا يوصف بالاستقرار. وكذلك الشمس إذا هوت في شيء آخر – كالثقوب السوداء مثلاً – لا يكون ذلك لها استقرارا. أما أن تقف الشمس ساكنة بلا حراك، فهذا خرق لناموسها الذي خلقها الله تعالى عليه بلا موجب له، ولا يستقيم مع دوام طلوعها على الناس لا يستنكرون منها شيء، بعد عودتها مراراً من ذلك المستقر، على نحو ما سنرى في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد رأينا في تلك الدراسة الأولى كيف أن تعيين موضع بعينه – كما فُهم خطاً من معنى أوج حركة الشمس Solar Apex الذي هو اتجاه وليس موضع، لا يمكن – بالتحليل اللُّغوي والفلكي- أن يكون هو مستقر الشمس الذي قال الله تعالى في شأنه "والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ"(يس:38)، وذلك حسبما زعم معظم من قرأنا له من المعاصرين المشتغلين بالإعجاز العلمي في القرآن، وتناول المسألة بالدعاية الحماسية، المفتقرة إلى التحقيق العلمي الجاد.
وبخلاف تهافت الزعم بأن أوج الشمس هو التفسير العلمي لمستقر الشمس، وعدم مناعته ضد سريع النقد الذي تناولناه به، فنجد أن هذا التفسير قد تم في إعراضِ تام عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم المشهور بحديث سجود الشمس وطلوعها من مغربها، وذلك فيما تناوله الحديث من علاقة المستقر بالاستئذان الدائم، وانتقال الشمس بين حالين؛ طلوعها من المشرق ثم طلوعها في النهاية من المغرب. والنتيجة أن هذا الإعراض عن الحديث النبوي يخدم غرض المنكرين للحديث وضرورته لتفسير قول الله تعالى "والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ"(يس:38)، ومن ثم يخدش هذا التفسير - الذي دحضناه - صحة عدد كبير من روايات هذا الحديث، المشهود له بالصحة، والتواتر، وقوة التآلف مع آي من القرآن المجيد. ثم أن حديث "سجود /مستقر الشمس" يرتبط روايةً وتعليلاً بـ "طلوع الشمس من مغربها"، وقد أتى بصددها عدد آخر من روايات الحديث. ويطالها الخدش أيضا.
حديث سجود الشمس وطلوعها من مغربها:
إذا استقرأنا أقوال المفسرين بالمأثور، نجدهم يستشهدون لـتفسير "مستقر الشمس" في قوله تعالى "والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ"(يس:38) بالحديث المروي في الصحيحين. والذي جاءت رواياته في صحيح البخاري كالآتي:
1- "قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: [أتدري أين تذهب قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم }]"
2- "عن أبي ذر قال: دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فلما غربت الشمس "قال: يا أبا ذر هل تدري أين تذهب هذه قال قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب تستأذن في السجود فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها ثم قرأ ذلك مستقر لها ".
3- "عن أبي ذر رضي الله عنه قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس [فقال: يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله تعالى { والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم }]"
وجاءت روايات نفس الحديث في صحيح مسلم كما يلي:
1- "عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم [قال يوما: أتدرون أين تذهب هذه الشمس قالوا الله ورسوله أعلم، قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون متى ذاكم ذاك حين { لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا }] ".
2- "عن أبي ذر قال: دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فلما غابت الشمس، [قال: يا أبا ذر هل تدري أين تذهب هذه قال قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها] قال: ثم قرأ - في قراءة عبد الله - : وذلك مستقر لها]".
هذا ... وقد وجدنا جدالاً واسعاً عند المفسرين المعاصرين حول صحة حديث "سجود الشمس"، ومن بين ما وقفنا عليه في ذلك، وجاء في مجلة المنار:(1):
[قد استشكله العلماء (يقصد حديث أبي ذر السابق) من الجهتين اللتين تقدم ذكرهما (يقصد في المقال الثامن من نفس المجلد) وكان استشكالهم مخالفته لما تقرر في علم الهيئة أقوى وأجوبتهم عنها أضعف. وقد كان جماهير علماء المسلمين حتى غير الناظرين في علم الهيئة الفلكية يعلمون أن نور القمر مستمد من نور الشمس، وعلماء المنطق منهم يمثلون بهذا للحدس المنطقي الذي هو أحد اليقينيات الستة، وكانوا يعلمون أيضًا أن سبب خسوفه حيلولة الأرض بينه و بين الشمس، ويمثلون بذلك للقضية الوقتية في المنطق أيضًا. وقال الغزالي: إن من أدلة كروية الأرض ظهور ظلها في القمر عند خسوفه مستديرًا، وإن هذا من القطعيات. فرؤية القمر بعد غروب الشمس دليل حسي على وجود الشمس وراء الأفق التي تتوارى عنه مقابلة للقمر تلقى نورها عليه. ولم يكن علم الهيئة وصل في عهدهم إلى ما وصل إليه الآن، ولا علم الجغرافية أيضًا. ولا كان الناس في عصرهم يطوفون حول الأرض بطيارتهم وغيرها، فيرون بأعينهم مصداق أدلة ثبات الشمس في فلكها. أفليس من الجناية على الإسلام أن تحكم مجلة الأزهر على من يقول أن مضمون الحديث مخالف للحس، بأنه مكذب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ؟!]
ويتضح من هذه العبارة أن صاحبها يدين اعتراض الأزهر على إبطال الحديث، ويستقوي بأن أدلة الحس يقينية، وتقطع بما ذهب إليه.
وقد استشكل شهاب الدين الألوسي(2) على الحديث في محاولة فهمه وقال: [الأمر في ذلك مشكل إذا كان السجود والاستقرار كل ليلة تحت العرش، سواء قيل أنها تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إليه فتسجد، أم قيل أنها تستقر وتسجد تحته من غير طلوع. فقد صرح إمام الحرمين – يقصد أبو المعالي الجويني، شيخ أبو حامد الغزالي- وغيره، بأنه لا خلاف في أنها تغرب عند قوم وتطلع على آخرين، وبين الليل والنهار اختلاف ما في الطول والقصر ما عدا عند خط الاستواء. وفي بلاد بلغار قد يطلع الفجر قبل أن يغيب شفق الغروب. وفي عرض تسعين لا تزال طالعة ما دامت في البروج الشمالية وغاربة ما دامت في البروج الجنوبية، فالسنة نصفها ليل ونصفها نهار، على ما فصل في موضعه . والأدلة قائمة على أنها لا تسكن عند غروبها ، وإلا لكانت ساكنة عند طلوعها ، بناء على أن غروبها في أفق طلوع في غيره. وأيضًا هي قائمة على أنها لا تفارق فلكها فكيف تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إلى العرش؟! بل كون الأمر ليس كذلك أظهر من الشمس لا يحتاج إلى بيان أصلاً . وكذا كونها تحت العرش دائمًا، بمعنى احتوائه عليها وكونها في جوفه، كسائر الأفلاك التي فوق فلكها والتي تحته. وقد سَألت كثيرًا من أجِلّه المعاصرين عن التوفيق بين ما سمعت من الأخبار الصحيحة وبين ما يقتضي خلافها من العيان والبرهان ، فلم اُوَفّق لأن أفوز منهم بما يروي الغليل ويشفي العليل.]
وانتقد "محمد رشيد رضا" الألوسي بشدة على ما ذهب إليه وقال في شأنه أنه(3): [استنبط له حلاًّ غريبًا بعد مقدمات مؤلفة من خرافات كثيرة أغرب منه ، خلاصته أن الشمس لها نفس عاقلة مدركة كروح الإنسان ، وأن هذه النفس هي التي تصعد فتسجد تحت العرش، ويبقى جسم الشمس المضيء على ما يراه الناس . ولم أره تجرد من عقله واستقلاله العلمي وأثبت عدة خرافات خلط فيها بين تخيلات الفلاسفة والصوفية والمبتدعة كما فعل في هذه المسألة.]
نقول:
إن أي حديث يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استصوب علماء الحديث الثقات صحة سنده، لا بد وأن يُقدَّم فيه صحة الحديث على ضعفه، ما أمكن ذلك، وذلك إذا استشكل المسلم فَهْمَ متنه. وعلى المسلم عدم رد الحديث والقطع ببطلانه لمحض الاستشكال، ولكن يكتفي بعدم القدرة على إدراجه ضمن معقول المتن في إطار ثقافته. إذ ربما يأتي في المتن غرابة بسبب من عدم تمام العلم بالمسألة، أو لغلبة الأُلفة الثقافية للمفسر والمغايرة لمقصود الحديث إذا كان صحيحاً. ولو رفض الإنسان معقولية كل شيءٍ لاستشكال في فهمه، ما علم الإنسان شيئاً، ولأغلق طريق العلم منذ أن وطأت قدماه الأرض. ويستوي في ذلك ما خلق الله تعالى من شيء، وما أنزله تعالى وأوحي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم به. فمعلومٌ أن الظواهر الطبيعية المُسَمّاة بالكمومية Quantum Phenomena من أشكل ما تحير فيه الفيزيائيون لأكثر من مئة عام حتى الآن، حتى عدُّوا من لم ينبهر بإشكالاتها بأنه لم يفهمها! فهل أدّى ذلك إلى نبذ هذه الظواهر من الوجود؟! .. أو من العلم المُدوَّن؟
وإشكال الإشكال أن النابذين لبعض الأحاديث التي قد تصح، يَخلطون بين عدم الفهم الناتج عن عدم العلم، وبين كون الحديث مُفترى، فيحكمون على الأول بحكم الثاني رغم عدم اكتمال نصاب أدلة النفي! وهم في ذلك يُضمرون في أنفسهم – من حيث لا يصرحون- "تمام العلم"، وهذا ما لا يدعيه عالم.
هذا، ومن أحدث ما سمعنا في رد هذا الحديث، رغم قوة سنده وتواتره، وتآلفه في آي القرآن المجيد في معنى "مستقر الشمس"، وفي بيان آية من آيات الله تعالى التي أشار إليها القرآن من بين العلامات العشر الكبرى لقيام الساعة، ونقصد: طلوع الشمس من مغربها، كان عدنان إبراهيم،
وباستصحاب هذا التحليل المبدئي، فسنرى أن حديث الشمس الذي نحن بصدده يمثل حالة نموذجية لإشكال جلي من هذا النوع الأول، أي: الناتج عن عدم الإحاطة، وقد تحكّم مَنْ نبذه بأنه من النوع الثاني، ويستوي في ذلك زعمه أو تصريحه أو تعريضه بالحديث، حيث مآلها جميعاً إلى قصده بأن الحديث مُفترى. وهو ما قد يُدخل صاحبها – بدرجة ما- في قول الله تعالى "بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ"(يونس:39).
ويجب الاعتراف بأن في الفهم السريع للحديث إشكالاً؛ موجزه: تعارض ذهاب الشمس بجِرمها للسجود تحت العرش مع كونها "دائبة"، وذلك "نقلاً" كما في قوله تعالى "وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ"(إبراهيم:33)، ومضيئة شطر الأرض على الدوام "حساً"؛ بما نعلمه الآن من تعلق الكواكب – ومنهم الأرض- بها، وطوافانهم حولها. ثم ما نعلمه من حتمية اختلال النظام الشمسي إذا ذهبت عنه الشمس بجرمها العظيم ولو لبرهة من الزمن، أو ما كان يعلمه السابقون من القرون المتأخرة في الإسلام من دوام طلوع الشمس على بلدان متتابعة مع غروبها على بعضهم في ذات الوقت.
الرد على المتعجلين برد الحديث واستنكاره(4):
لنخرج عن حبكات الفكر إلى سبحات الخيال الأدبي، رغم أنهما غير منفصلان في تَمَثُّل الحقيقة إذا كان مصدرهما صادق، ولنقرأ هذه القصة معاً:
قصة الغلام وأمه وأبيه الصياد
ربتت يدُ الأم الحنون على طفلها، ... غير أنه شارد عنها، ... عيناه تلاحقان أباه، ... الذي ما أن يتشقق الليل عن نهار، ... حتى يقوم متأهباً، .... ويفعل أشياءاً، ... ثم يخرج من بابٍ، ... ويغيب طويلاً، ... وفي الغد، وغد الغد، مثل ذلك، ... فما هذا الذي يحدث، وأين يغيب هذا الرجل المُجِدْ؟! ... يتساءل الطفل في نفسه.
انتبهت الأم لذهول طفلها أمام هذا المشهد المتتابع يوماً بعد يوم، ... فقالت له ذات يوم بعد أن تنسمت فيه أمارات الفهم: ... أتدري أين يذهب أبوك؟ ... فحملق في وجهها يستنطقها! ... قالت: إنه يذهب يسأل الله رزقنا، ويعود بالسمك الذي تحبه، ويذهب ثانية وثالثة، وسيظل يذهب حتى يأتي اليوم الذي يعود لنا بحوت كبير، نبيعه ونغتني كثيراً، وعندها، سننتقل من هذا الكوخ، ونسكن في قصر كبير. .... تنهد الطفل عميقاً وهو في حجر أمه، وكأنّ الكوخ قد أضاء غبشَه نورٌ ... كالذي خارجه، .... ما أجمل أن يفهم الإنسان، .... طفلاً كان أو شيخاً بلا أسنان.
فلما شب الطفل يخطو ويمشي، ... راقب أباه كعادته كل صباح، ... وأتبعه البصر من باب الكوخ، وخرج وراءه بخطوات قليلة ... يمط رقبته من خلف الجدار، .... فرأى ما لم يحتسبه، .... رأى أباه يجلس بعيداً في كوخ آخر ومعه رجال، ... وفي أيدهم أشياء لا يعلم ما هي!
اندهش الطفل .... وظن أن أباه سيرحل بعيداً ليأتي بالسمك كما أخبرته أمه ... !!... ولكنه لم يبرح ذلك المكان، ... وعاود الطفل النظر يراقب أباه حتى آخر النهار .. فلم يجده يبرحه، ... وتكرر ذلك فيما وراءه من أيام.
ذهل الطفل، ودارت عيناه مع الأفكار! هل كانت أمه تكذب عليّ، ألم تقل له إن أباك يذهب يسأل ربه الرزق، فيعطيه السمك الذي نأكله، إن أباه لم يبرح المكان، إنه خلف الكوخ، ويتساءل الطفل في نفسه: لماذا لم تقل أمي الحقيقة. هل كانت تسرد لي الحواديت؟! هل كانت تضحك عليّ؟!
دارت الأيام والطفل يرمق أمَّه بنظرات غريبات، ... لا يفهم لماذا يحدث ما يحدث؟ ... ولماذا قالت أمه ما قالت؟ ... وماذا يفعل أبوه؟ ... وأشياءَ أخرى كثيرة؟
وشب الطفل وصار غلاماً، ولم تزل طلاسم الأفكار تزاحم هوى اللعب مع الأنداد. وذات صباح ناداه أبوه، ... أن قم يا بُني... قم لتصحبني، .... أين يا أبي؟ ..... ستعلم يا بني.
تداخلت المشاعر، .. من ارتباك وسعادة، .. واستغراب ودهشة، .. وتردد ونشوة، .. وسار الغلام وراء أبيه، .... حتى دخلا الكوخ الآخر، الذي يعلم الغلام شأنه، .. وكان به رجال من اصحاب أبيه. فإذ بأبيه والرجال جميعاً يحملون لفائف كبيرة من حبالٍ يشدُّ بعضها بعضا، .. ثم مشوا بها مسيرة طويلة، .. حتى وصلا إلى شاطئ البحر. .. فإذا بكوخ آخر يعلو المياه، سمّاه أبوه سفينة، ... فقال لابنه: .. اركب معنا ولا تفارقني!
ما هذا؟! - إن السفينة تجري في المياه، .. والأسماك تتقاذفها الأمواج، .. والرجال ينشرون ويجمعون الشباك، .. وأبو الغلام معهم تعلوه الهمة والجد والنشاط، .. والشباك تمتلئ، .. ثم تنهمر منها الأسماك، .. تتراقص هنا وهناك، .. يا لها من مشهدٍ خلاب، .. أجمل من اللعب مع الأصحاب.
وفي نهاية الرحلة، وقف الغلام ينظر إلى الشمس تعانق البحر، وقد انسدل حاجباه يحدث نفسه: هذا هو إذاً. .. هذا ما قالته لي أمي منذ زمن. .. إنه المكان الذي يذهب إليه أبي ليأتي بالرزق من الله، .. إنه البحر. نعم، إن السمك فيه كثير، .. هذا هو إذاً ما يحدث .. وقد أتعبني جهلي به، .. قاتل الله الجهل ... يعاتب الغلام نفسه، ثم يقول: "يالغبائي، يالحماقتي"، .. كذبَّت نفسي الجاهلة كلام أمي الحنون، .. أرادت أن تُفهمني، .. فكنت قاصراً! .. الآن فهمت؛ كان أبي يخرج كل يوم يُجَهِّز الشباك مع أصحابه الصيادين، .. ثم يأتون البحر حيث يأتي السمك في مواقيت بعينها، .. فيسألون الله الرزق منها، .. فيغرقهم به، ... صدقت أمي .. صدقت. ....وسبق جهلي علمي، .. وحماقتي حلمي، .. أللهم اغفر لي .. ولكن .... بقى شيء!!! ... إنها السمكة الكبيرة جداً التي سمَّتها أمي الحوت، .... تُرى هل سيصطادها أبي وننتقل إلى قصر كبير. .... ؟!
....
هكذا إذاً لم يكن يفهم الطفل حديث أمه أوّل الأمر في شأن ذهاب أبيه للصيد، مثلما لم نكن نفهم نحن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذهاب الشمس إلى مستقرها!! ... وكنا نظن أن الشمس تغرب لمستقرها مع كل غروب لها، كما ظن الطفل أن أباه يذهب للصيد كل يوم. فأخطأنا كما أخطأ، وربما أننا فهمنا كما فهم. أما من كذَّب حديث النبي، فمثل ظنونه ظنون الغلام، وشكه في حديث أمه. غير أنه ندم عليه، وسيفعلون.
...
ويحدُث أن يسبق نقصان الفهم صوابه، وهوى النتائج أسبابَها. فهذا عمر بن الخطاب يقول للنبي صلى الله عليه وسلم، ورَضِي عن صحابته جميعا، يقول عمر يوم صلح الحديبية، يوم اصطلح المسلمون مع مشركي مكة على الرجوع للمدينة بلا طواف بالبيت في ذلك العام: [ألست نبي الله حقا، قال صلى الله عليه وسلم: بلى. قال عمر: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال عمر: فلم نعط الدنية في ديننا إذن؟ قال: إني رسول الله ولست اعصيه وهو ناصري. قال عمر: او لست كنت تحدثنا انا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، (ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عمر) فأخبرتك انا نأتيه العام؟ قال عمر: لا. قال صلى الله عليه وسلم: فإنك آتيه ومطوف به.] ... ومثل ذلك في حديث الشمس، فقوله صلى الله عليه وسلم (أتدرون أين تذهب الشمس) لا يلزم عنه بالضرورة عين الغروب، مثلما أن قوله للمسلمين (أنهم سيأتون البين ويطوفون به) لم يلزم عنه أن ذلك في نفس العام ، بل عام آخر. فكذلك ذهاب الشمس، لا يلزم عن ذهابها الذي أخبر عنه أنه الغروب اليومي، فقد يكون ذهاباً آخر. وهذا ما رمزنا إليه في قصة الغلام في قول أمه له: أتدري أين يذهب أبوك؟ - وما كان لها أن تحكي له عن ذهاب أبيه، وأبوه جالس بالبيت. فاقتضت الحكم أن تقول له ذلك في غياب أبيه. وما كان الطفل مميز بين ذهاب وذهاب. ثم أن طلوع الشمس من مغربها لا يلزم عنه أن عودتها من المستقر ستكون صباح تلك الليلة التي ظُن أنها ذاهبة فيها. فكلها موافقات ظنها السامعون لعدم علمهم الفرق بين غروب الشمس الذي يماثل ذهاب الأب يصنع شبكته خلف الدار، وذهاب الشمس إلى المستقر الذي يماثل ذهاب الصياد إلى البحر. وهذا الذهاب البعيد للشمس هو ما نعمد في هذه الدراسة إلى فهمه ليكون المقصود في الحديث، مثلما كان الذهاب إلى البحر هو المقصود في حديث أم الغلام.
يتبع
(( منقوووووووووووووووول))