المجاهدة البطلة الحاجة (عيشوش) بقلم الأستاذ : إبراهيم طاهري
15-10-2016, 11:26 PM



من بنات أبي العدل (سيدي إبراهيم الغول) : المجاهدة المسبّلة الحاجة عيشوش بن صالح
=======================================

بقلم الأستاذ : إبراهيم طاهري
----------------------------------

هي السيّدة عيشوش بنت أحمد بن رابح بن صالح وبنت السيّدة رقيّة بنت إبراهيم بن الفضيل شويخ، ولدت ببلدة الدّيس – أولاد سيدي إبراهيم يوم الثامن عشر من شهر سبتمبر في عام 1933 (فهي ستبلغ الثاني والثمانين من عمرها بعد أيام قليلة –أطال الله عمرها-) ، سكنت حيّ (الدّشرة) العتيق وقضت فيه جزءا هامّا من طفولتها ، سافرت مع عائلتها إلى الجزائر العاصمة في حدود سنة 1941 جرّاء قسوة الحياة وهيمنة الفقر وبحثًا عن وضع اجتماعي أفضل في عهد الإستعمار الفرنسيّ الغاشم.
استقرّت مع عائلتها بداية الأمر في حيّ (القبّــة) المشهور في ضيافة واحد من أبناء سيدي إبراهيم ، ثمّ انتقلت العائلة بعدها إلى حيّ (محي الدّين) ، تزوّجت من رجل مجاهد شارك في حرب الهند الصينية وفرّ هناك من صفوف الجيش الفرنسي وانضمّ إلى جيش التحرير الوطني وأنجبت معه بنتها الكبرى (نعيمة) وبنتا أخرى توفاها الله صغيرة ، وتزوّجت بعد ذلك من رجل فاضل أنجبت معه 5 أبناء.
كانت العائلة قد تشبّعت بالروح الوطنيّة وكان للشهيد البطل (سي البشير بن صالح) وهو ابن العائلة أثر واضح في ذلك ، كما كان للمجاهد الفدائيّ –صهر العائلة – (الحاج النوّي زرزور) المدعو (عبد الفتاح) دور كبير في ذلك.
بعد اندلاع الثورة التحريرية المباركة عام 1954 ، ونشاط الثوّار الحثيث في العاصمة ، والذي كان من أبرز مظاهره خليّة المجاهد الكبير والمعروف (ياسف سعدي) ، حيث كان صهر العائلة الحاج (زرزور) – عضوًا بارزًا فيها والحاج (زرزور) هو زوج الحاجّة (خيرة بن صالح) أخت الحاجّة عيشوش التي كانت بدورها مسبّلة – حيث تمّ اعتقاله وتعذيبه بعد اكتشاف الخليّة وإلقاء القبض على رئيسها (سعدي) في سبتمبر 1957 ، وانطلاقا من السجن الذي جمع الرجلين تمّ تأسيس خليّة فدائيّة أخرى تعتبر امتدادًا لخليّة (سعدي) لكن بقيادة الحاج (زرزور) المُفرَج عنه هذه المرّة وبمشاركة أخ الحاجة (عيشوش) المجاهد الفدائيّ (سي إبراهيم بن صالح) - الذي سنتناول مشاركته بالتفصيل في مقال لاحق - ، هذه الخليّة تمّ اكتشافها من طرف سلطات الإحتلال وتمّ على إثرها اعتقال الحاج (زرزور) وسي (إبراهيم) وشركائهما وتعرّضهم للتعذيب والحكم على أغلب أعضاء الخلية بالإعدام ...
كلّ هذه الملابسات والظروف حرّكت الغيرة والمشاعر الوطنية لدى الحاجّة (عيشوش) وهي لم تتجاوز الرابع والعشرين من عمرها آنذاك ، فقررّت أن تنضمّ إلى صفوف المسبّلين ، وبعد الإتّصال بالمسؤولين شرعت في تهريب السلاح والذخيرة من مخزني عائلتين فرنسيّتين كانت تشتغل في بيتيهما إلى جيش التحرير عبر شخصيّات ثوريّة بالعاصمة ، تروي الحاجّة (عيشوش) بعض التفاصيل في مقابلة شخصيّة لي معها فتقول : " كنت أشتغل عند امرأة فرنسيّة قريبة من منزلنا مقابل أجر زهيد ، وكان زوجها رجلا عنصريّا يكره الجزائريين والعرب ، وكنت في بعض المرّات أطّلع على المجلات والصحف الفرنسية السياسيّة التي يجلبها إلى البيت ، ولمّا اكتشف ذلك قال لي مهدّدا : " أنت تبحثين عن السياسة !" ، فقلتُ له : " لا ، أنا أحبّ مشاهدة الصور فقط ! " ، بينما كانت زوجته أقلّ شرّا ، فقد كانت تعطيني مرّة بعد مرّة مبلغًا من المال كي أشتري ما يلزم أخي وزوج أختي المسجونين ، بعد ذلك وبعدما وقفتُ على ما فعله الجيش الفرنسي بأخي وبصهري وبعائلتي من التنكيل والإحتقار والظلم انضممتُ إلى العمل الثوريّ السريّ كمسبّلة عن طريق صهري (الثوريّ العنيد) الحاج (زرزور) ، فأحالني على المجاهد سي (الجيلالي) المدعو (بلقاسم) الذي كان سيشرف على العمليات التي سأقوم بها ، وأُطلِقَ عليّ اسم (عيشة) –وهو الإسم الثوري -.
بدأتُ عمليّاتي بتهريب مسدّس من عيار 9 ملم وكميات قليلة من الذخيرة الحيّة من عيار 24 ملم التي كان يتوفّر عليها قبو العائلة الفرنسيّة التي اشتغلتُ عندها ، كما كنتُ في نفس الوقت قد هرّبتُ مسدّسين اثنين من عيار 9 ملم من عائلة فرنسية أخرى كنت أشتغل عندها في نهاية كلّ مساء ، وكنتُ أنقل ما أهرّبُهُ إلى والدة المجاهد (زرزور) وهي كانت تسلّمه إلى مسبّلٍ يُدعَى (محي الدّين سيفاوي) الذي كان يسلّمها بدوره إلى سي (الجيلالي) ، بالإضافة إلى الدور الذي لعِبتُهُ كوسيلة اتصال ونقل للسلاح الصغير بين الخلايا الثورية في العاصمة ...
ومع تكرار عمليّات التهريب خشي المسؤولون عنّي أن يُكتَشَف أمري ، ففكّروا في توقيف العمليات حفاظًا على أمني وأمن الشبكة التي كنت أنشط ضمن صفوفها ، وفي يومٍ من الأيّام خرج الزوجان الفرنسيّان من البيت ففكّرتُ مليًّا ثمّ قرّرتُ أن أقوم بعمليّة أخرى وأخيرة ... فنزلتُ إلى القبو وحملتُ معي قفّة كبيرة ، فوضعتُ في قاعها كميّة كبيرة من الذخيرة ومسدّسا من عيار 9 ملم ومسدّسًا آخر من الحجم الكبير ، ووضعتُ فوق الحمولة ألبستي وحاجياتي وفوق ذلك وضعتُ أوراق الجرائد ... ولمّا هممتُ بالمغادرة دخلت صاحبة البيت من الباب فاستوقفتني وسألتني عن حمولة القفّة ، فقلتُ لها : هذه جرائدٌ لجارنا (فُلان) صاحب الدكّان ليلفّ فيها البضائع ، فاقتربت المرأة وحملت القفّة فوجدتها ثقيلة جدّا ، فسألتني غاضبة : عيشة ، ماذا يوجد في القفّة ؟ ، فأجبتها مخادعة : هذا كي أحمي نفسي من (الفلاّقــة) !! ، فلم تصدّق المرأة –خاصّة وأنها كانت تعلم بتاريخ عائلتي الثوريّ – فأغلقت عنّي الباب الرئيسي وتركتني داخل البيت أنتظر مصيري بعد أن اكتشفت أمري ... بعد ذلك رأيتُ من النافذةِ المرأةَ الفرنسيّة تغادر المكان في سيّارتها الصغيرة فقرّرتُ أن أكمل ما بدأتُهُ ، فأضفتُ إلى حمولتي بندقيّة كبيرة وخرجتُ من الباب الخلفي وأنا أسحب القفّة ، وكان ذلك الباب مطلاّ على حديقة صغيرة ذات سورٍ منخفض ومطلاّ في نفس الوقت على بيوت المعمّرين الفرنسيّين الذين يعجّ بهم الحيّ ... لم أعرف كيف امتلكتُ تلك الجرأة في ذلك الوقت ، كنت مكشوفة جدّا وكان اكتشاف أمري ممكنا جدّا ، وكنتُ سألقى مصير الموت بسهولة ...عندما وصلتُ إلى السور وأردت أن أتسلّقه أعاقتني البندقيّة الكبيرة فحاولت تفكيكها ونجحت في ذلك بأعجوبة –إذ لم يكن لديّ أيّ علم بكيفية تركيب السلاح وتفكيكه – ووضعتُ جزأي البندقيّة تحت (الحايك) الذي كنت أرتديه ، وتسلّقتُ السور حاملة قفّتي الثقيلة ، صعدتُ دَرَجًا في آخر الحيّ وهناك وجدتُ سيارةً في انتظاري حملتني وحملت السلاح والذخيرة ... نقلني المسؤولون إلى بيت سي (الجيلالي) – الذي استشهد فيما بعد هو وأختاه (فطيمة) و (زهيّة) – تمهيدًا لنقلي إلى مكان آخر تاركة ابنتي (نعيمة) ووالدتي ، وفي أثناء ذلك تمّ اكتشاف أمري فاقتحم الجيش الفرنسيّ بيتنا وقلبوه رأسًا على عقب ، وسألوا أمّي عن مكان تواجدي فكانت تجيب : لا أدري ، لعلّها عند المرأة الفرنسية ! .. ومن ثمّ تمّ نقلي بعد أسبوع إلى بيتٍ بحيّ (بئر خادم) ومن ثمّ إلى بيت آخر ومنه تمّ نقلي إلى ريف مدينة (العلمة – سطيف) ، حيث مكثتُ عند عائلة بسيطة وطيّبة لمدّة 4 أشهر تقريبا إلى غاية وقف إطلاق النار في مارس 1962 ، وأردتُ أن أعود إلى بيتي بالعاصمة فاقترح عليّ المسؤولون النزول بالسلاح واللباس العسكريّ كشكلٍ من أشكال التكريم المعنويّ ، لكنّني رفضتُ ذلك وعدتُ إلى بيتي ، وفي أثناء ذلك كانت (منظّمة الجيش السرّي OAS) تقوم باغتيال الجزائريّين ، ففتح جيش التحرير الوطني عيادة صغيرة بحيّ (محي الدّين) الذي أسكنه لإسعاف المُصابين والجرحى ، فتطوّعتُ للمساعدة في ذلك واكتسبتُ مع الوقت وبالممارسة خبرةً لا بأس بها في التمريض ، ومكثتُ متطوّعة إلى ما بعد الإستقلال .. " انتهى كلام الحاجة عيشوش.
لم تَرْوِ المجاهدة المسبّلة الحاجّة (عيشوش بن صالح) كلّ شيء ، فقد تحجّجت –تواضُعًا- بالنّسيان وقالت أنّ أختها الحاجّة (خيرة) وأخاها سي (إبراهيم) قد قدّما أكثر مّما قدّمته هي ، وقد ذكرت لي شخصيّا بعض المواقف التي لم أوردها في مقالي هذا لأسباب خاصّة ، والحاصل أنّ الحاجّة (عيشوش) وهي بنت سيدي إبراهيم الغول وبنت الجزائر الحرّة الأبيّة الغيورة على الأرض والعرض والوطن هي واحدُ من أروع نماذج البطولة والتضحية والشجاعة والإقدام ، استرخصت نفسها وحملت كفنها أكثر من مرّة بيدها في سبيل أن يحيا أبناء وطنها حياة العزّة والحرّية ... واليوم وبعد أكثر من 50 سنة فهي لم تَحْظَ بتكريمٍ واحدٍ : لا من أبناء بلدتها ومسقط رأسها بالخصوص ، ولا من أبناء وطنها على العموم !! ، وربّما لا يعرف قصّتها البطوليّة إلاّ القليلون جدّا من أبناء بلدتها .. وهي لا تطمع في سنّها المتقدّمة سوى في قطعة أرضٍ صغيرة –شاركت في تحريرها من الغصب- في بلدتها الأمّ وبلدة آبائها وأجدادها ، كي تبني عليها بيتًا صغيرًا تقضي فيه ما تبقّى لها من الأيّام ...
.. حفظ الله المجاهدة البطلة الحاجة (عيشوش) وعائلتها المجاهدة ورزق الجميع الصحّة والعافية ووفّقنا إلى السير على خطاها وسيرتها.









سحر الحرف والكلام


شكرا للأخ صقر الأوراس على التوقيع