الدروس الطبية الإكلينيكية في الحضارة الإسلامية
16-01-2019, 12:34 PM


الدروس الطبية في البيمارستان النوري

قال موفَّق الدين أبو العبَّاس ابن أبي أصيبعة: "كنت بعد ما يفرغ الحكيم مهذَّب الدين والحكيم عمران من معالجة المرضى المقيمين بالبيمارستان، وأنا معهم أجلس مع الشيخ رضي الدين الرحبي فأعاين كيفيَّة استدلاله على الأمراض، وجملة ما يصفه للمرضى وما يكتب لهم، وأبحث معه في كثيرٍ من الأمراض ومداولتها. ثم قال: وكان معه -أي مع مهذَّب الدين- في البيمارستان لمعالجة المرضى الحكيم عمران، وهو من أعيان الأطباء وأكابرهم في المداواة والتصرُّف في أنواع العلاج، فتضاعف الفوائد المقتبسة من اجتماعهما، وممَّا كان يجري بينهما من الكلام في الأمراض ومداولتها، وما كانا يصفان للمرضى".

وذكر موفَّق الدين أبو العبَّاس ابن أبي أصيبعة نقلًا عن شيخه مهذَّب الدين عبد الرحيم بن علي: أنَّه كان في البيمارستان الكبير النوري وهو يُعالج المرضى المقيمين به، فكان من جملتهم رجلٌ به استسقاء زقي قد استحكم به وقصد إلى بزله، وكان في ذلك الوقت في البيمارستان ابن حمدان الجرائحي وله يدٌ طولى في العلاج، فجزموا على بزل المستسقى، قال: فحضرنا وبزل الموضع على ما يجب. وذكر أنَّ أبا المجد بن أبي الحكم كان يدور على المرضى بالبيمارستان الكبير النوري، ويتفقَّد أحوالهم، ويعتبر أمورهم، وبين يديه المشارفون والقوام لخدمة المرضى، فكان جميع ما يكتبه لكلِّ مريضٍ من المداواة والتدبير لا يُؤخَّر عنه ولا يتوانى في ذلك.

قال: وبعد فراغه من ذلك يأتي فيجلس في الإيوان الكبير الذي للبيمارستان وجميعه مفروش، ويحضر كتب الاشتغال، وكان السلطان نور الدين محمود بن زنكي قد وقف على هذا البيمارستان جملةً كبيرةً من الكتب الطبِّيَّة، وكانت في الخرستانين الخزانتين اللذين في صدر الإيوان، فكان جماعةٌ من الأطباء والمشتغلين يأتون إليه ويقعدون بين يديه، ثم يجري مباحث طبِّيَّة ويُقرئ التلاميذ، ولايزال معهم في اشتغالٍ ومباحثةٍ ونظرٍ في الكتب الطبِّيَّة مقدار ثلاث ساعات، ثم يركب إلى داره.



مدرسة مهذب الدين الدخوار

وكان بعض متقدِّمي الأطباء قد جعل له مجلسًا عامًّا لتدريس صناعة الطبِّ للمشتغلين عليه، وقد وقف مهذَّبُ الدين عبد الرحيم بن علي سنة 622هـ الدارَ التي له بدمشق، وجعلها مدرسةً يدرس فيها صناعة الطب، ووقف لها ضياعًا وعدَّة أماكن يستغلُّ منها ما ينصرف في مصالحها، وفي جامكيَّة المدرسة وجامكيَّة المشتغلين بها.



الاختبارات الطبية

ولم يكن الأطباء يغفلون النظر في أبوال المرضى؛ فقد كانوا يُسمُّون ذلك القارورة، ويُسمُّون الاستنتاج من نظر البول التفسرة، فما كان يُعالج مريضٌ دون النظر إلى قارورته، ولهم في نظرها آراء وعلامات يتعرَّفون منها حالة البول من صحَّة وسقم، ونحن نقصُّ الحكاية الآتية للدلالة على مهارة الأطباء وقوَّة استدلالهم وحسن استنتاجهم من النظر في بول المريض:

أراد الرشيد أن يمتحن بختيشوع الطبيب، أمام جماعة من الأطباء فقال الرشيد لبعض الخدم: أحضره ماء دابَّة حتى تجرِّبه، فمضى الخادم وأحضر قارورة الماء، فلمَّا رآه قال: يا أمير المؤمنين ليس هذا بول إنسان. قال له أبو قريش وقد كان حاضرًا: كذبت هذا ماء حظية الخليفة. فقال له بختيشوع: لك أقول أيُّها الشيخ الكريم، لم يبل هذا إنسانٌ البتَّة، وإن كان الأمر على ما قلت فلعلَّها صارت بهيمة. فقال له الخليفة: من أين علمت أنَّه ليس ببول إنسان؟ قال بختيشوع: لأنَّه ليس له قوام بول الناس، ولا لونه، ولا ريحه، ثم التفت الخليفة إلى بختيشوع فقال له: ما ترى أن نطعم صاحب هذا الماء؟ فقال: شعيرًا جيِّدًا. فضحك الرَّشيد ضحكًا شديدًا، وأمر فخلع عليه خلعة حسنة جليلة، ووهب له مالًا وافرًا، وقال: بختيشوع يكون رئيس الأطباء كلِّهم، وله يسمعون ويُطيعون.



التجارب الطبية

وكان للطبيب الحرِّيَّة التامَّة في العمل والتجريب واستنباط الأساليب المناسبة للعلاج، وكانت التجارب تُدوَّن في كتبٍ خاصَّةٍ يقرؤها الجمهور من الأطبَّاء؛ فقد كان لأبي البيان المدوَّر المتوفَّى سنة (580هـ=1184م) بالقاهرة كتاب في مجرباته في الطب، وكان للسَّاهر يوسف القس كناش، وهو ما استخرجه وجرَّبه في أيَّام حياته، ولأفرايم بن الزَّقان تعاليق ومجريات، ولابن العين رزبي مجريات في الطب، ولابن أبي الفضائل الناقد مجريات في الطبِّ، ولأبي المعالي تمام بن هبة الله بن تمام تعاليق ومجريات في الطب، ولمحمد بن زكريا الرازي كتاب عنوانه "قصص وحكايات المرضى"، ومنه نسخةٌ في خزانة كتب بودليان في إكسفورد، وطُبِع منه الدكتور العالم المستشرق مكس مايرهوف جزءًا.



أخلاق الأطباء مع المرضى

وكان لبعض الأطباء أنواعٌ من العلاج هي من مبتكرات قرائحهم كعلاج أوحد الزمان أبي البركات هبة الله بن علي بن ملكا أحد الموسومين بالفهم، وفوق الهمَّة العظيمة والتدبير الحسن والعناية التامَّة براحة المرضى؛ فقد كان لهم من حسن الخلق وطول الأناة والتسامح مع المرضى الشيء الكثير: كان أبو الحسن سعيد ابن هبة الله يتولَّى مداواة المرضى بالبيمارستان العضدي، فإنَّه كان يومًا بالبيمارستان وقد أتى إلى قاعة الممرورين (وهو لمن بهم المرض المسمَّى مانيا وهو الجنون السبعي) تفقَّد أحوالهم ومعالجتهم، وإذا بامرأةٍ قد أتت إليه واستفتته فيما تُعالج به ولدًا لها، فقال: أن تُلازميه بتناول الأشياء المبرِّدة المرطِّبة، فهزأ به بعضُ من كان مقيمًا في تلك القاعة من الممرورين، وقال: هذه صفةٌ يصلح أن تقولها لأحد تلامذتك ممَّن يكون قد اشتغل بالطبِّ وعرف أشياء من قوانينه، وأمَّا هذه المرأة فأيُّ شيءٍ تدري ما هو من الأشياء المبرِّدة المرطِّبة، وإنَّما سبيله أن تصف لها شيئًا معيَّنًا تعتمد عليه، فلم يتحرَّج الطبيب من هذا القول.

وقد أوصلهم سموُّ الخلق وبسطة العلم إلى أعلى الدرجات؛ فإنَّ القاضي ابن المرخم يحيى بن سعد صار أقضى القضاة في أيَّام المقتفي ببغداد، وقد كان طبيبًا في المارستان المحمول وفصادًا فيه، والإمام العالم علَّامة زمانه أفضل الدين أبو عبد الله محمد بن نامادار الخونجي قد تميَّز في العلوم الحكميَّة، وأتقن العلوم الشرعيَّة، وفي آخر أيَّامه تولَّى القضاء بمصر، وصار قاضي القضاة بها وبأعمالها، تُوفِّي سنة 646هـ، وصار سعيد بن البطريق بطريركًا بالإسكندريَّة.



تدريس الطب بالبيمارستان وفي مدارس خاصة

ذكرنا أنَّ طلبة الطبِّ كانوا يتلقُّون علومهم على أساتذتهم في البيمارستانات؛ إذ كانت تُهيَّأ لهم الإيوانات الخاصَّة المعدَّة والمجهَّزة بالآلات والكتب أحسن تجهيز، فيقعدون بين يدي معلِّمهم بعد أن يتفقَّدوا المرضى وينتهوا من علاجهم، كما كان يفعل أبو المجد ابن أبي الحكم في البيمارستان النوري الكبير، وإنَّ بعضًا من مشايخ الطبِّ وكبار رؤسائهم كان يجعل له مجلسًا عامًّا لتدريس صناعة الطبِّ للمشتغلين عليه في منزله أو في المدارس الخاصَّة.

وذكر ابن أبي أصيبعة أنَّ الفيلسوف الإمام العالم أبا الفرج بن الطيِّب كان يُقرئ صناعة الطبِّ في البيمارستان العضدي، ويُعالج المرضى فيه، وأنَّ إبراهيم بن بكس كان يُدرِّس صناعة الطبِّ في البيمارستان العضدي لمـَّا بناه عضد الدولة، وكان له منه ما يقوم بكفايته، وأنَّ زاهد العلماء [1] ألَّف كتابه في الفصول والمسائل والجوابات التي أجاب عنها في مجلس العلم المقرَّر في البيمارستان الفارقي، وكان في بيمارستان أحمد بن طولون خزانة كتب كانت في أحد مجالس البيمارستان، وكان فيها ما يزيد على مائة ألف مجلَّد في سائر العلوم.



المدرسة الدخوارية

وفي سنة (622هـ=1225م) أوقف مهذَّب الدين عبد الرحيم بن علي بن حامد المعروف بالدخوار، شيخ الأطباء ورئيسهم، داره بدمشق المدرسة الدخوارية شرق سوق المناخليِّين عند الصاغة العتيقة قبلي الجامع الأموي، ووقف لها ضِياعًا وعدَّة أماكن يستغلُّ منها ويتصرَّف في مصالحها، وفي جامكيَّة المدرِّسين وجامكيَّة المشتغلين بها، فكان إذا فرغ من البيمارستان وافتقد المرضى من أعيان الدولة وأكابرها وغيرهم، يأتي إلى داره ثم يشرع في القراءة والدرس والمطالعة، ولابُدَّ له مع ذلك من نسخ، فإذا فرغ من -أيضًا- أَذِنَ للجماعة فيدخلون عليه، ويأتي قومٌ بعد قومٍ من الأطبَّاء والمشتغلين، وكان يُقرئ كلُّ واحدٍ منهم درسه ويبحث معه فيه، ويُفهمه إيَّاه بقدر طاقته، ويبحث في ذلك مع المتميِّزين منهم إن كان الموضع يحتاج إلى فضل بحث، أو فيه إشكالٌ يحتاج إلى تحرير، وكان إلى جانبه ما يحتاج إليه من الكتب الطبِّيَّة، ومن كتب اللغة؛ ككتاب الصحاح للجوهري، والمجمل لابن فارس، وكتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري، فكان إذا جاءت في الدرس كلمة لغةٍ يحتاج إلى كشفها وتحقيقها نظرها في تلك الكتب.

ثم مرض مهذَّب الدين عبد الرحيم بن علي، وتُوفِّي في يوم الاثنين (الخامس عشر من شهر صفر سنة 628هـ= 24 ديسمبر سنة 1230م)، ووصَّى أن يكون المدرِّس فيها الحكيم شرف الدين على بن الرحبي.



افتتاح المدرسة الدخوارية

لمـَّا كان في يوم الاثنين (الثاني عشر من شهر ربيع الآخر سنة 628هـ= 18فبراير سنة 1230م) حضر الحكيم سعد الدين إبراهيم بن الحكيم موفَّق الدين عبد العزيز، والقاضي شمس الدين الخواتيمي، والقاضي جمال الدين الخرستاني، والقاضي عز الدين السنجاري، وجماعة من الفقهاء والحكماء، وشرع الحكيم شرف الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن حيدرة الرَّحبي في التدريس بها في صناعة الطب، واستمرَّ على ذلك وبقي سنين عدَّة ثم صار المدرِّس فيما بعد الحكيم بدر الدين المظفَّر بن قاضي بعلبك، وذلك أنَّه لمـَّا ملك دمشق الملك الجوَّاد مظفَّر الدين يونس بن شمس الدين ممدود ابن الملك العادل، كتب للحكيم بدر الدين ابن قاضي بعلبك منشورًا برياسته على سائر الحكماء في صناعة الطبِّ، وأن يكون مدرِّسًا للطبِّ في مدرسة الحكيم مهذَّب الدين عبد الرحيم بن علي المعروف بادخوار، وتولَّى ذلك في يوم الأربعاء رابع صفر سنة 677هـ، ثم درس بعده عماد الدين الدنيسري، ومحمد بن عبد الرحيم بن مسلمة كمال الدين الطبيب المتوفَّى سنة (697هـ=1297م)، والجمال المحقِّق أحمد بن عبد الله بن الحسين الأشقر، وقد وَلِيَ مشيخة الدخوارية، وتُوفِّي سنة (694هـ=1294م)، وأمين الدين سليمان بن داود الدمشقي تُوفِّي سنة 732هـ، ثم شهاب الدين الكحال تُوفِّي سنة 732هـ.

______________

المصدر: أحمد عيسى بك: تاريخ البيمارستانات في الإسلام، الناشر: دار الرائد العربي - بيروت، الطبعة: الثانية، 1401هـ=1981م.

[1] زاهد العلماء: هو أبو سعيد منصور بن عيسى وكان نصرانيًّا نسطوريًّا، وأخوه مطران نصيبين المشهور بالفضل، وهو الذي بنى بيمارستان ميافارقين، وقد كان نصير الدولة محترمًا له معتمدًا عليه في صناعته محسنًا إليه. انظر: ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص341.