تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
منتديات الشروق أونلاين > المنتدى الحضاري > أرشيف > منتدى شهر رمضان

> فمن اتقى الشبهات؛ استبرأ لدينه وعرضه

 
 
أدوات الموضوع
  • ملف العضو
  • معلومات
sofiane_info
زائر
  • المشاركات : n/a
sofiane_info
زائر
فمن اتقى الشبهات؛ استبرأ لدينه وعرضه
02-02-2008, 11:59 PM
68- باب الورع وترك الشبهات[FONT='Times New Roman','serif'][/FONT]

قال الله تعالى: ( وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)(النور:15) وقال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر:14).

الشرح
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين: باب الورع وترك الشبهات.
الورع والزهد يشتبه معناهما عند بعض الناس، لكن الفرق بينهما كما قال ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح: الورع ترك ما يضرُّ في الآخرة، والزهد ترك ما لا ينفع، فمقام الزهد أعلى من مقام الورع؛ لأن الورع أن يترك الإنسان ما يضره، والزهد أن يترك ما لا ينفع؛ لأن الأشياء ثلاثة أقسام: ضار، ونافع، وما ليس بضار ولا نافع يعني منها ضار، ومنها نافع، بضار ولا نافع.
فالزاهد يترك شيئين من هذا؛ يترك الضار، ويترك ما ليس بنافع ولا ضار، ويفعل ما هو نافع.
والورعُ يترك شيئاً واحداً منها وهو ما كان ضاراً، ويفعل النافع، ويفعل الشيء الذي ليس فيه نفع ولا ضرر.
وبهذا صارت منزلة الزاهد أرفع من منزلة الورع، وربما يطلق أحدهما على الآخر؛ فالورعَ ترك ما يضر، ومن ذلك ترك الأشياء المشتبهة؛ المشتبهة في حكمها، والمشتبهة في حقيقتها، فالأول اشتباه في الحكم والثاني اشتباه في الحال، فالإنسان الورع هو الذي إذا اشتبه الأمر عليه تركه إن كان اشتباهاً في تحريمه، وفعله إن كان اشتباهاً في وجوبه لئلا يأثم بالترك.
ثم إن المؤلف رحمه الله ذكر آيتين في هذا الباب، قال رحمه الله: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ ٌ)(النور: 15)
(وَتَحْسَبُونَهُ) الضمير يعود على ما تلقَّاه الناس من حديث الإفك الكذب في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وذلك أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: كانت زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان المنافقون يتربّصون بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يشوهوا سمعته، ويدنسوا عِرضه، فحصلت غزوة من الغزوات ، فلما قفل النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً منها نام في أثناء الطريق، وكانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم لهن رجال يساعدون في ترحيلهن.
فلما كان في آخر الليل ذهبت عائشة رضي الله عنها لقضاء حاجتها فجاء الذين يحملون الهودج الذي تركب فيه فحملوه على البعير وشدوه عليه، وظنوا أنها كانت فيه؛ لأنها كانت في ذلك الوقت صغيرة السن خفيفة الوزن.
ثم سار الركب، فلما رجعت عائشة رضي الله عنها إلى المكان وجدت الناس قد رحلوا، فكان من ذكائها وثبات جأشها وطمأنينتها أن بقيت في المكان، فلم تذهب تتجول يميناً وشمالاً؛ لأنها لو ذهبت ربما ضاعت وضيعوها، لكنها بقيت في مكانها، وكان رجل من خيار الصحابة يُقال له: صفوان بن المعطل نائماً، وكان من قوم إذا ناموا لم يستيقظوا إلا إذا شبعوا من النوم.
فاستيقظ صفوان رضي الله عنه فوجد الناس قد رحلوا، ورأى هذا الشبح؛ هذا السواد، فأقبل إليها، فإذا هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وكان يعرفها قبل أن ينزل الحجاب، فماذا صنع هذا الرجل؟
هذا الرجل أناخ البعير، ولم يتكلم بأي كلمة احتراماً لفراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يريد أن يتكلم مع زوجته في مثل هذا المكان، أناخ البعير، ووضع رجله على ساق البعير وعضده، فركبت عائشة رضي الله عنها، فأخذ الزمام وجعل يقود البعير، ليجعل عائشة خلفه.
فلما أقبل على القوم تكلَّم المنافقون، ورأوا أن هذه فرصة، وقالوا في عائشة ما هم فيه كاذبون؛ امرأة في سفر مع رجل تتأخر عن القوم، فصاروا يتكلمون في عِرض عائشة، وهم لا يريدون عِرض عائشة، ولا تهمهم فتاة عند زوجها، الذي يهمهم تدنيس فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(التوبة:30).
فجعلوا يتكلمون، وكان من حكمة الله عزّ وجلّّ أن عائشة لما قدموا المدينة مرضت وبقيت في بيتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل عليها، ولم تر منه ما كانت تراه في السابق، كان يمر ويقول : (( كيف تيكم)) ، يعني : كيف هذه؟ لا يسأل ويلح ويقول: كيف هي اليوم؟ عساها أحسن من أمس، وما أشبه ذلك، ولكنه يقول هذه الكلمة؛ لأن كلام المنافقين قد شاع في المدينة وصار عند بعض المؤمنين تردد، والرسول عليه الصلاة والسلام كان لا يشك في أهله، ويرى أن الله عزَّ وجلَّ يأبى بحكمته أن يدنِّس فراش نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولم يكن ليصدق بهذا أبداً، لكن مع كثرة الكلام وكثرة القرع وكثرة الإرجاف، تردد الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمر، وبعد أن مضى نحو شهر خرجت عائشة رضي الله عنها وخالتها أم مسطح بن أثاثة، خرجت تقضي حاجتها، وكانوا في هذا الوقت ليس عندهم مراحيض في البيوت، إذا أراد الواحد أن يقضي حاجته خرج إلى الخلاء وبحث عن مكانٍ مطمئنٍ نازلٍ وقضى فيه حاجته.
فخرجت عائشة مع خالتها أم مسطح إلى مكان قضاء الحاجة، فعثرت أم مسطح، فقالت : تعس مسطح، تقول أم مسطح: تعس مسطح فاستغربت عائشة كيف تقول لرجل من المهاجرين شهد بدراً تقول فيه: تعس مسطح، فقالت: لم تقولين هذا الكلام؟ لأن معنى تعس خسر وهلك، فقالت : أما علمت بكذا وكذا وكذا، وأخبرتها بقصة الإفك، وإن مسطحاً كان ممن صدَّقوا تلك الفرية، فازدادت عائشة رضي الله عنها مرضاً إلى مرضها، وصارت تبكي ليلاً ونهاراً لا يرقأ لها دمع ، ولا تهنأ بعيش.
وبينما الأمر كذلك حتى انتهى نفاق المنافقين إلى الرأس، أنزل الله فيها هذه الآيات الكريمة: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ )(النور: 11) يعني طائفة منكم ( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) سبحان الله!! هذا الإفك والرمي بالفاحشة لا نحسبه شراً ؟ نعم لا نحسبه شراً، بل هو خير لكم؛ لأنه حصل به من تمحيص الذنوب ورفعة المقامات، والدفاع عن عرض الرسول عليه الصلاة والسلام وفراشه ما هو خير.
( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإثْمِ) كل واحد تكلم في هذا الأمر له ما اكتسب من الإثم ( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(النور: 11).
أعظمهم إثماً الذي قاد هذه الفتنة وأوقد نارها والعياذ بالله.
ثم ساق الله تعالى الآيات إلى قوله : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور:15).
وكان الورع والتقى ألا يتكلموا في هذا الأمر، وأن يسألوا أنفسهم: من أين مصدره؟ من المنافقين الذين هم أكذب عباد الله.
المنافقون أكذب الناس، ولهذا من علامات النفاق الكذب، استمعوا إلى قوله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ) شهادة مؤكدة بإنَّ واللام. قال الله عز وجلَّ (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) حقاً إنك رسوله ومع ذلك: (واللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (المنافقون:1) .
شهادة بشهادة أيهما أعظم؛ وقولهم : ( نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه)ِأم قول الله: (واللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) ؟ لا شك أن قول الله أصدق، فهو يشهد عزَّ وجلَّ:(ُإِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) في قولهم ( نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه) .
هذه الفاحشة التي أشيعت مصدرها من المنافقين، وعلى رأسهم عبد الله بن أُبي بن سلول، لكنه الخبيث لا يتكلم صراحة، يأتي إلى الناس ويقول: أما سمعتم ما قيل في عائشة، قيل كذا وكذا.
وهناك أُناس من المؤمنين تكلَّموا بهذا صراحة، منهم مسطح بن أثاثه، وحسان بن ثابت رضي الله عنه، وحمنة بنت جحش ، تكلموا لأنهم بشر، وأقسم أبو بكر رضي الله عنه ألا ينفق على مسطح بن أثاثة وهو ابن خالته، لكنه أقسم ألا ينفق عليه؛ لا لأنه قال في ابنته؛ بل قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يليق.
فماذا قال الله عزَّ وجلَّ؟ قال الله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )(النور: 22).
(وَلا يَأْتَلِ ) إي لا يحلف، والمراد بهذا من؟ أبو بكر (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّه) من يعني بأولي القربة واليتامى والمساكين والمهاجرين؟ يعني بذلك مسطحاً، فلا ينبغي لأهل الفضل أمثال أبي بكر رضي الله عنه أن يمتنعوا عن الإنفاق على أولي القربى والمساكين والمهاجرين، وإن هم أخطئوا في بعض الأمور.
( أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(النور:22) لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: بلى والله، نحب أن يغفر الله لنا ، فرد النفقة على مسطح.
هذا الامتثال العظيم، وإلا فرجل يقول في ابنته ما يقول بل في رسول الله ما يقول، فامتثل أبو بكر هذا الامتثال العظيم، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلد مسطح وحسان وحمنة، كل واحد منهم ثمانين جلدة حد القذف، ولكن لم يأمر بجلد عبد الله بن أبي؛ لأنه خبيث ما كان يصرح، وأن الحد تطهير للمحدود، وعبد الله بن أبي ليس أهلاً للطهارة؛ لأنه رجس نجس خبيث.
فالحاصل أن من الورع أن الإنسان لا يتكلم إلا بما يعلم، وهذا الاستشهاد الذي استشهد به المؤلف ينطبق تماماً على زماننا الآن، ما أكثر الذين يتكلمون في ولاة الأمور بغير علم، ما أكثر الذين يتكلمون في العلماء بغير علم، ما أكثر الذين يتكلمون في طلبة العلم بغير علم، ما أكثر الذين يتكلمون في المحسنين من ذوي الأموال بغير علم.
فليس عند أكثر الناس ورع، يتكلم الإنسان بما جاء على لسانه من غير أن يتحقق، وهذا من الظلم والعدوان على من تكلم فيه، أن يتكلم فيه بغير علم. لما قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الغيبة إنها (( ذكرك أخاك بما يكره)) قالوا: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)) .
نسأل الله أن يهدي ألسنتنا وألسنتكم من الكذب وقول الزور، وأن يعصمنا من الزلل ويعفو عنا إنه جواد كريم.
* * *
1/588- وعن النُعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهما قالَ: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقُولُ: (( إن الحلالَ بينٌ ، وإن الحرام بينٌ، وبينهما مُشتبِهاتٌ لا يعلمهن كثيرٌ من الناسِ، فمن اتقى الشبُهاتِ؛ استبرا لدينه وعرضهِ، ومن وقع في الشبهاتِ؛ وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يُوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكلّ ملكٍ حمى، ألاَ وإنَّ حمى الله محارمهُ، الاَ وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت؛ صلح الجسدُ كلهُ، وإذا فسدت: فسد الجسد كلهُ: ألا وهيَ القلبُ)) متفق عليه. وروياهُ من طرقٍ بالفاظٍ مُتقاربة.

الشرح
قال المؤلف رحمه الله فيما نقله عن النعمان بن بشير رضي الله عنه وعن أبيه بشير بن سعد في كتابه رياض الصالحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إن الحلال بينٌ وإن الحرام بيّنٌ وبينهما متشبهات لا يعلمهن كثيرٌ من الناس)) قسم النبي صلى الله عليه وسلم الأمور إلى ثلاثة أقسام: حلال بيّن، ومشتبه.
الحلال البيّن؛ كحلَّ بهيمة الأنعام، والحرام البين؛ كتحريم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أشبه ذلك، وكلّ ما في القرآن من كلمة (( أحلَّ)) فهو حلال، ومن كلمة ((حرّم)) فهو حرام، فقوله تعالى: ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ )(البقرة: 275) هذا حلال بيّن، وقوله تعالى: ( وَحَرَّمَ الرِّبا ) (البقرة: 275)هذا حرامٌ بيّن.
هناك أمور مشتبهات تخفى على الناس، وأسباب الخفاء كثيرة، منها ألا يكون النصُّ ثابتاً عند الإنسان، يعني يتردد: هل يصح عن الرسول عليه الصلاة والسلام أو لا يصح، ثم إذا صح قد تشتبه دلالته: هل يدل على كذا أو لا يدل؟ ثم إذا دلّ على شيء معين فقد يشتبه: هل له مخصص إن كان عاماًّ؟ هل له مقيد إن كان مطلقاً؟ ثم إذا تبين قد يشتبه: هل هو باقٍ أو منسوخ.
المهم أن أسباب الاشتباه كثيرة، فما هو الطريق إلى حل هذا الاشتباه؟ والجواب: أن الطريق بينه النبي صلى عليه الصلاة والسلام فقال: (( فمن اتقى الشبهات؛ استبرأ لدينه وعرضه)) من أتقاها يعني تجنبها إلى الشيء الواضح البيّن؛ فقد استبرأ لدينه وعرضه.
استبرأ لدينه: حيث سلم من الوقوع في المحرم. ولعرضه: حيث سلم من كلام الناس فيه؛ لأنه إذا أخذ الأمور المشتبهة؛ صار عرضة للكلام فيه، كما إذا أتى الأمور البينة الواضح تحريمها.
ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لذلك بالراعي راعي غنم أو إبل أو بقر (( يرعى حول الحمى)) يعني حول الحمى الذي حماه أحد من الناس لا يرعى فيه أحد، ومعلوم أنه إذا حمي؛ ازدهر وكثُر عشبه أو كثر زرعه؛ لأن الناس لا ينتهكونه بالرعي، فالراعي الذي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه؛ لأن البهائم إذا رأت الخضرة في هذا المحمي، ورأت العشب، فإنها تنطلق إليه وتحتاج إلى ملاحظة ومراقبة كبيرة.
ومع ذلك لو لاحظ الإنسان وراقب، فإنه قد يغفل ، وقد تغلبه هذه البهائم، فترتع في هذا الحمى (( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه)).
ثم قال عليه الصلاة والسلام : (( ألا وإن لكل ملك حمى)) وهذا يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك إقراراً له، وأن الملك له أن يحمي مكاناً معيناً يُكثر فيه العشب لبهائم المسلمين؛ وهي البهائم التي تكون في بيت المال؛ كإبل الصدقة، وخيل الجهاد، وما أشبه ذلك.
وأما الذي يحمي لنفسه فإن ذلك حرامٌ عليه، لا يحل لأحد أن يحمي شيئاً من أرض الله يختص بها دون عباد الله، فإن ذلك حرامٌ عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار" .
فالكلأ لا يجوز لأحد أن يحميه فيضع عليه الشبك، أو يضع عنده جنوداً يمنعون الناس من أن يرعوا فيه، فهو غصب لهذا المكان، وإن لم يكن غصباً خاصاً؛ لأنه ليس ملكاً لأحد، لكنه منع لشيء يشترك فيه الناس جميعاً، فهذا لا يجوز، ولهذا قال أهل العلم: يجوز للإمام أن يتخذ حمى مرعى لدواب المسلمين بشرط ألا يضرهم أيضاً.
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن لكل ملك حمى" يحتمل إنه إقرار ، فإن كان كذلك؛ فالمراد به ما يحميه الملك لدواب المسلمين؛ كخيول الجهاد، وإبل الصدقة، وما أشبه ذلك.
ويحتمل أنه إخبار بالواقع وإن لم يكن إقراراً له؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد يخبر بالشيء الواقع أو الذي سيقع من غير إقرار له، أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أننا سنركب سنن اليهود والنصارى. فقال: (( لتركبن سَنَن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا حجر ضبًّ لدخلتموه)). قالوا: يا رسول الله ، اليهود والنصارى؟ قال : (( فمن؟))فهل هذا إقرار؟ لا . لكنه تحذير
على كل حال الملك له حمى يُحمى سواء بحق أو بغير حق، فإذا جاء الناس يرعون حول الحمى؛ حول الأرض المعشبة المخضرة، فإنهم لا يملكون منع البهائم أن ترتع فيها.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (( ألا وإن حمى الله محارمه)) الله عز وجلَّ أحاط الشريعة بسياج محكم، حمى كل شيء محرم يضر الناس في دينهم ودنياهم حماه، وإذا كان الشيء مما تدعو النفوس إليه شدد السياج حوله إذا كان مما تدعو النفوس إليه؛ فإنه يشدد السياح حوله.
انظر مثلاً إلى الزنى والعياذ بالله، الزنى سببه قوة الشهوة وضعف الإيمان، لكن النفوس تدعوا إليه؛ لأنه جبلة وطبيعة، فجعل حوله سياجاً يبعد الناس عنه فقال: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى) (الاسراء:32)، لم يقل ولا تزنوا، قال (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى) يشمل كل ذريعة توصل إلى الزنى من النظر واللمس والمحادثة وغير ذلك.
كذلك الربا حرمه الله عزَّ وجلَّ ، ولما كانت النفوس تطلبه لما فيه من الفائدة؛ حرم كل ذريعة إليه فحرم الحيل على الربا ومنعها، وهكذا جعل الله عزَّ وجلَّ للمحارم حمى له تمنع الناس من الوقوع فيها.
ثم قال صلى الله عليه وسلم : (( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت ؛ صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) .
(( مضغة)) يعني قطعة لحم صغيرة بقدر ما يمضغه الإنسان، صغيرة لكن شأنها عظيم، هي التي تدبر الجسد (( إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله)) ليست العين، ولا الأنف، ولا اللسان، ولا اليد، ولا الرجل، ولا الكبد، ولا غيرها من الأعضاء، إنما هي القلب، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (( اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم مصرف القلوب صرَّف قلوبنا إلى طاعتك)).
فالإنسان مدار صلاحه وفساده على القلب. ولهذا ينبغي لك أيها المسلم أن تعتني بصلاح قلبك، فلاح الظواهر وأعمال الجوارح طيب، ولكن الشأن كل الشأن في صلاح القلب، يقول الله عن المنافقين: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ )(المنافقون: 4) (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ) من الهيئة الحسنة، وحسن عمل الجوارح، وإذا قالوا ، قالوا قولاً تسمع له من حسنه وزخرفته، لكن قلوبهم خربة والعياذ بالله ( كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ )(المنافقون: 4)ليس فيها خير.
فأنت اعتنِ بصلاح القلب، انظر قلبك هل فيه شيء من الشرك؟ هل فيه شيء من كراهة ما أنزل الله؟ هل فيه شيء من كراهة عباد الله الصالحين؟ هل فيه شيء من الميل إلى الكفار؟ هل فيه شيء من موالاة الكفارة؟ هل فيه شيئاً من الحسد، هل فيه شيء من الغل؟ هل فيه شيء من الحقد؟ وما أشبه ذلك من الأمراض العظيمة الكثيرة في القلوب، فطهر قلبك من هذا وأصلحه، فإن المدار عليه.
(أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) (العاديات:9-11)، هذا يوم القيامة، العلم على الباطن، في الدنيا العمل على الظاهر، مالنا إلا ظواهر الناس، لكن في الآخرة العمل على الباطن، أصلح الله قلوبنا وقلوبكم.
قال تعالى: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) (الطارق:9) (تُبْلَى) يعني تختبر السرائر فمن كان من المؤمنين؛ ظهر إيمانه، ومن كان من أهل النفاق؛ ظهر نفاقه والعياذ بالله.
لذلك أصلح قلبك يا أخي، لا تكره شريعة الله، لا تكره عباد الله الصالحين، لا تكره أي شيء مما نزَّل الله، فإن كراهتك لشيء مما نزَّل الله كفر بالله تعالى، نسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق والصلاح.
* * *
3/590- وعنِ النواسِ بن سمعانَ رضي الله عنهُ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( البرُّ حُسنُ الخلقِ، والإثمُ ما حاكَ في نفسكَ، وكرهتَ أن يطلع عليه الناسُ)) رواه مسلم.
4/590- وعن وابصة بن معبدٍ رضي الله عنهُ قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: "جئت تسألُ عن البر؟" قُلتُ نعم، قال : (( استفت قلبك، البرُّ: ما اطمأنت إليه النفسُ، واطمأن إليه القلبُ، والإثم ما حاك في النفسِ وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناسُ وأفتوكَ)) حديث حسن، رواهُ أحمدُ، والدارميُّ في مُسنديهما".

الشرح

قال المؤلف الحافظ النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب الورع وترك الشبهات: عن النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس)).
فقوله عليه الصلاة والسلام: (( البر حسن الخلق)) يعني أن حسن الخلق من البر الداخل في قوله تعالى: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)(المائدة: 2) وحسن الخلق يكون في عبادة الله، ويكون في معاملة عباد الله.
فحسن الخلق في عبادة الله: أن يتلقى الإنسان أوامر الله بصدر منشرح، ونفس مطمئنة، ويفعل ذلك بانقياد تام، بدون تردد، وبدون شك، وبدون تسخط، يؤدي الصلاة مع الجماعة منقاداً لذلك، يتوضأ في أيام البرد منقاداً لذلك، يتصدق بالزكاة من ماله منقاداً لذلك، يصوم رمضان منقاداً لذلك، يحج منقاداً لذلك.
وأما في معاملة الناس فإن يقوم ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والنصح بالمعاملة وغير هذا، وهو منشرح الصدر، واسع البال، لا يضق بذلك ذرعاً، ولا يتضجر منه، فإذا علمت من نفسك أنك في هذه الحال ، فإنك من أهل البر.
أما الإثم فهو أن الإنسان يتردد في الشيء، ويشك فيه، ولا ترتاح له نفسه، وهذا فيمن نفسه مطمئنة راضية بشرع الله.
وأما أهل الفسوق والفجور فإنهم لا يترددون في الآثام، تجد الإنسان منهم يفعل المعصية منشرحاً بها صدره والعياذ بالله، لا يبالي بذلك، لكن صاحبَ الخير الذي وُفق للبر هو الذي يتردد الشيء في نفسه، ولا تطمئن إليه، ويحيك في صدره، فهذا هو الإثم.
وموقف الإنسان من هذا أن يدعه، وأن يتركه إلى شيء تطمئن إليه نفسه، ولا يكون في صدره حرج منه، وهذا هو الورع، ولهذا قال النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام: (( وإن أفتاك الناس وأفتوك)) حتى لو أفتاك مفتٍ بأن هذا جائز، ولكن نفسك لم تطمئن ولم تنشرح إليه فدعه، فإن هذا من الخير والبر.
إلا إذا علمت أن في نفسك مرضاً من الوسواس والشك والتردد فيما أحل الله، فلا تلتفت لهذا، والنبي عليه الصلاة والسلام إنما يخاطب الناس، أو يتكلم على الوجه الذي ليس فيه أمراض، أي ليس في قلب صاحبه مرض، فإن البر هو ما أطمأنت إليه نفسه، والإثم ما حاك في صدره وكره أن يطلع عليه الناس، والله الموفق.
* * *
5/592- وعن ابي سروعةَ - بكسر السين المهملة وفتحها- عُقبةَ بن الحارثِ رضيَ الله عنهُ أنهُ تزوجَ ابنةً لأبي إهاب بن عزيز، فأتتهُ امرأةٌ فقالت: إني قد أرضعتُ عُقبة والتي قد تزوج بها، فقال لها عُقبةُ: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ، فسألهُ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"كيفَ، وقد قيلَ؟!" ففارقها عقبةُ ونكحت زوجا غيرهُ . رواهُ البخاري.
6/593- وعن الحسنِ بن عليّ رضي اله عنهما، قال: حفظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )) رواه الترمذي وقال : حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

الشرح
هذان الحديثان ذكرهما المؤلف رحمه الله في باب الورع وترك الشبهات من باب رياض الصالحين. فالأول في مسألة الرضاع: حديث عقبة، والثاني في ترك المتشابه: حديث الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
أما الأول: فإن عقبة تزوج امرأة ابن أبي إهاب، فلما تزوجها جاءت امرأة فقالت: إني أرضعته هو والمرأة التي تزوجها، يعني فيكون أخاً لها من الرضاع، وأخوها من الرضاع يحرم عليها كما يحرم عليها أخوها من النسب؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)) ولكن لا بد لهذا شروط.
الشرط الأول: أن يكون اللبن من آدمية، فلو اشترك طفلان في الرضاع من شاة أو من بقرة أو من بعير ، فإنهما لا يصيران أخوين؛ لأنه لا بد أن يكون الرضاع من آدمية؛ لقوله تعالى: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ )(النساء: 23).
الشرط الثاني: لابد أن يكون الرضاع خمس رضعات فأكثر، فإن كان مرة واحدة أو مرتين أو ثلاث مرات أو أربع مرات، فإنه ليس بشيء، ولا يؤثر، فلو أن امرأة أرضعت طفلاً أربع مرات في أربعة أيام كل مرة يشبع، فإنه لا يكون ابناً لها؛ لأنه لا بد من خمس، ولو أرضعته خمس مرات ولو لم يشبع فإنها تكون أماً له ويكون الرضاع محرماً.
الشرط الثالث :لابد أن يكون في زمن الإرضاع، وهو ما قبل الفطام في الحولين ، فإن لم يكن في هذا الزمن بأن أرضعته وهو كبير، فإن ذلك لا يؤثر، فلو أن طفلاً له خمس سنوات رضع من امرأة خمس مرات أو عشر مرات، فإنه لا يكون ابناً لها من الرضاع؛ لأنها ليس في زمن الإرضاع.
فهذه الشروط ثلاثة :وإذا ثبت التحريم فإنه ينتشر إلى المرتضع وذريته فقط، ولا ينتشر إلى إخوانه وآبائه وأمهاته، وإنما ينتشر إليه وإلى فروعه فقط وهم ذريته وعلى هذا فيجوز لأخي الطفل الراضع أن يتزوج أخت أخيه من الرضاع، لأنه لا علاقة أو لا تأثير في الرضاع إلا على المرتضع وذريته يعني فروعه.
فأما أصوله وحواشيه: أصوله من آباء وأمهات، حواشيه من إخوة، وأعمام، وأبنائهم، وبناتهم، فإنه لا تأثير لهم في الرضاع، سواء كان أكبر منه أو أصغر منه، وما اشتهر عند العامة من أن أخوته الذين هم أصغر منه يلحقهم حكم الرضاع، فإنه لا صحة له.
بعض العوام يقول: إذا رضع طفل من امرأة صار ابناً لها وصار اخوته الذين من بعده أبناءً لها، وهذا غير صحيح؛ بل جميع اخوته ليس لهم فيها تعلق بوجه من الوجوه.
وأما حديث الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما- فإنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وحفظ منه هذه الجملة المفيدة العظيمة التي تعتبر قاعدة في الورع وهي: (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )) يريبك : يعني يحصل لك به ريب وشك، فدعه ولا تأخذ إلا بما تيقنته أو غلب على ظنك، إن كان مما يفيد فيه غلبة الظن.
وأما ما شككت فيه فدعه، وهذا أصل من أصول الورع، ولهذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم تمرة، رآها في الطريق فلم يأكلها وقال: (( لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها)) ،وهذا يدخل في هذا الحديث : (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) .
ومن ذلك ما إذا كان بينك وبين شخص محاسبة، وحصل زيادة لك من أجل هذه المحاسبة، وشككت فيها فدعها، وإذا شك فيها صاحبك وتركها فتصدق بها، تصدق بها تخلصاً منها، أو تجعلها صدقة معلقة؛ بأن تقول: اللهم إن كانت لي فهي صدقة أتقرب بها إليك، وإن لم تكن لي فهو مالٌ أتخلص بالصدقة به من عذابه.
والحاصل أن هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ في باب الورع: (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) . ما تشك فيه أتركه وخذ بالشيء الذي لا يلحقك به قلق ولا شك ولا اضطراب.

* * *
7/594- وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : كان لأبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهُ ، غلام يخرجُ لهُ الخرج وكان أبو بكرٍ يأكلُ من خراجه، فجاء يوماً بشيءٍ ، فأكل منه أبو بكرٍ، فقال له الغلامُ: تدري ما هذا؟ فقال ابو بكرٍ؟ وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسانٍ في الجاهلية وما أحسنُ الكهانةَ إلا أني خدعتهُ، فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منهُ، فأدخل أبو بكرٍ يده فقاء كلَّ شيءٍ في بطنهِ . رواهُ البخاري.

الشرح
نقل الحافظ النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين، باب الورع وترك الشبهات عن عائشة رضي الله عنها أن غلاماً كان لأبي بكر، وكان أبو بكر يخارجه يعني يدعه يشتغل ويضرب عليه خراجاً معيناً، يقول: أئتِ لي كل يوم بكذا وكذا، وما زاد فهو لك.
وهذه المخارجة جائزة بالنسبة للعبيد، إذا كان الإنسان عنده عبيد وقال لهم: اذهبوا اشتغلوا وأتوني كل يوم بكذا وكذا من الدراهم وما زاد فهو لكم؛ فإن هذا جائز؛ لأن العبيد ملك للسيد، فما حصَّلوه فهو له سواء خارجهم على ذلك أم لم يخارجهم.
لكن فائدة المخارجة أن العبد إذا حصَّل ما اتفق عليه مع سيده فإن له أن يبقى من غير عمل، أن يبقى في طلب العلم، أن يبقى مستريحاً في بيته أو أن يشتغل ويأخذ ما زاد.
أما بالنسبة للعمال الذين يجلبهم الإنسان إلى البلاد ويقول: اذهبوا وعليكم كل شهر كذا وكذا من الدراهم، فإن هذا حرامٌ وظلم ومخالف لنظام الدولة، والعقد على هذا الوجه باطل، فليس لصاحب العمل شيء مما فرضه على هؤلاء العمال؛ لأن العامل ربما يكدح ويتعب ولا يحصل ما فرضه عليه كفيله، وربما لا يحصل شيئاً أبداً، فكان في هذا ظلم.
أما العبيد فهم عبيد الإنسان، مالهم وما في أيديهم فهو له.
هذا الغلام لأبي بكر، كان أبو بكر قد خارجه على شيء معين يأتي به إليه كل يوم، وفي يوم من الأيام قدّم هذا الغلام طعاماً لأبي بكر فأكله فقال: أتدري ما هذا؟ قال : وما هو؟ قال : هذا عوض عن أجرة كهانة تكهنت بها في الجاهلية وأنا لا أحسن الكهانة، لكنى خدعت الرجل فلقيني فأعطاني إياها.
وعوض الكهانة حرام، سواء كان الكاهن يحسن صنعة الكهانة أو لا يحسن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن (( حُلوان الكاهن)) .
فلما قال لأبي بكر هذه المقالة، أدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كلّ ما أكل ، كل ما أكل قاءه وأخرجه من بطنه لماذا؟ لئلا يتغذى بطنه بحرام. وهذا مال حرام؛ لأنه عوض عن حرام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه)).
فالأجرة على فعل الحرام حرام، ومن ذلك تأجير بعض الناس دكاكينهم على الحلاقين الذين يحلقون اللحى، فإن هذه الأجرة حرام ولا تحل لصاحب الدكان؛ لأنه استؤجر منه لعمل محرم.
ومن ذلك أيضاً تأجير البنوك في المحلات، فإن تأجير البنوك حرام؛ لأن البنك معاملته كلها أو غالبها حرام، وإذا وجد فيه معاملة حلال؛ فهي خلاف الأصل الذي من أجله أنشىء هذا البنك، الأصل في إنشاء البنوك أنها للربا، فإذا أجرَّ الإنسان بيته أو دكانه للبنك فتعامل فيه بالربا فإن الأجرة حرامٌ ولا تحل لصاحب البيت أو صاحب الدكان.
وكذلك من أجَّر شخصاً يبيع المجلات الخليعة أو المفسدة في الأفكار الرديئة ومصادمة الشرع؛ فإنه لا يجوز تأجير المجلات لمن يبيع هذه المحلات؛ لأن الله تعالى قال ( وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ )(المائدة:2) ، وتأجير المحلات لهؤلاء معونة لهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه)).
وفي هذا الحديث دليلٌ على شدة ورع أبي بكر رضي الله عنه، فهو جدير بهذا؛ لأنه الخليفة الأول على هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان قول أهل السنة والجماعة إن أبا بكر رضي الله عنه أفضل هذه الأمة؛ لأنه الخليفة الأول.
ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد خطب الناس في مرضه وقال : (( إن من أمنّ الناس على في نفسه وماله أبو بكر)) ، ثم قال: (( ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر ، ولكن خلة الإسلام أفضل))"
والنصوص في هذا كثيرة متواترة، حتى أمير المؤمنين على بن أبي طالب القائل بالصدق والقسط والعدل، كان يقول على منبر الكوفة وقد تواتر ذلك عنه: (( خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر)).
هكذا يقول رضي الله عنه وقال:" لا أوتى برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته- جلدة الفرية-" يعني جلد القذف والكذب، وهذا من تواضعه رضي الله عنه في الحق وقول الصدق.
وفيه ردٌّ ظاهرٌ على الروافض الذين يفضلون عليّاً على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ بل بعضهم يفضل علياً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: علي أفضل من محمد وأحق بالرسالة، ولكن جبريل خان الأمانة وانصرف بالرسالة عن على إلى محمد، ولا شك أنهم على ضلال بيّن والعياذ بالله، نسأل الله لنا ولهم الهداية.
والحاصل أن أبا بكر رضي الله عنه فيه هذا الورع العظيم بعد أن أكل المحرم ذهب يخرجه من جوفه لئلا يتغذى به، والله الموفق.

* * *
8/595- وعن نافع أن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة الآف وفرضَ لأبنه ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين فلم نقصتهُ؟ فقال: إنما هاجر به أبوهُ يقولُ: ليس هو كمن هاجر بنفسه. رواه البخاري.
9/596- وعن عطية بن عُروة السعدي الصحابي رضي الله عنه قالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لا يبلغُ العبدُ أن يكونَ من المُتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأسٌ)). رواه الترمذي وقال : حديثٌ حسنٌ.

الشرح
قال المؤلف رحمه الله في كتاب رياض الصالحين في باب الورع وترك الشبهات فيما نقله عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فرض للناس أعطياتهم من بيت المال، فجعل للمهاجرين أربعة آلاف، وجعل لأبنه عبد الله ثلاثةَ آلاف وخمسمائة.
وابنه عبد الله مهاجر، فنقصه عن المهاجرين خمسمائة من أربعة آلاف ، فقيل له: إنه من المهاجرين فلماذا نقصته؟ قال: إنما هاجر به أبوه ولم يهاجر هو بنفسه، وليس من هاجر به أبوه كمن هاجر بنفسه، وهذا يدل دلالة عظيمة على شدة ورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وهكذا يجب على من تولى شيئاً من أمور المسلمين ألا يحابي قريباً لقربه، ولا غنياً لغناه، ولا فقيراً لفقره، بل ينزل كل أحد منزلته، فهذا من الورع والعدل، ولم يقل عبد الله بن عمر: يا أبت، أنا مهاجر ولو شئت لبقيت في مكة؛ بل وافق على ما فرضه له أبوه.
وأما الحديث الأخير في هذا الباب فهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به بأس))، وهذا فيما أشتبه مباح بمحرم وتعذر التمييز، فإنه من تمام اليقين والتقوى أن تدع الحلال خوفاً من الوقوع في الحرام.
وهذا أمر واجب؟ٌ كما قال أهل العلم: إنه إذا اشتبه مباح بمحرم وجب اجتناب الجميع؛ لأن اجتناب المحرم واجب، ولا يتم إلا باجتناب المباح، و ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
لكن لو اضطر إلى أحدهما فله أن يتحرى في هذه الحال ويأخذ بما غلب على ظنه، ولنفرض أنه اشتبه طعام غيره بطعام نفسه، ولكنه مضطر إلى الطعام، ففي هذه الحال يتحرى ويأكل ما يغلب على ظنه أنه طعامه، والله الموفق.

------------------------

444 رواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الغيبة ، رقم (2589).
445 رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم (52) ومسلم كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم (1599).
446 رواه أبو داود، كتاب البيوع، باب في منع الماء، رقم (3477).
447 رواه البخاري، كتاب الاعتصام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لتتبعن، رقم (7320)، ومسلم، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود، رقم (2669).
448 رواه مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، رقم (2654).
449 رواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب تفسير البر والآثام، رقم (2553).
450 رواه أحمد في مسنده (4/228).
451 رواه البخاري، كتاب العلم، باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله، رقم (88)
452 رواه الترمذى، كتاب صفة القيامة، باب منه، رقم(2518)، وقال الترمذي: حسن صحيحٌ
453 رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب الشهادات على الأنساب..، رقم (2645)، ومسلم ، كتاب الرضاع باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، رقم (1447).
454 رواه البخاري، كتاب اللقطة باب إذا وجد تمرة في الطريق، رقم (2431)، ومسلم كتاب الزكاة، باب تحريم الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم رقم(1071).
455 رواه البخاري، كتاب المناقب، باب أيام الجاهلية ، رقم (3842).
456 رواه البخاري كتاب البيوع، باب ثمن الكلب، رقم (2237)ومسم، كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن، رقم (1567)
457 رواه أبو داود ن كتاب البيوع، باب في ثمن الخمر والمنية، رقم (3488)
458 رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب الخوخة والممر في المسجد، رقم (467).
459 رواه البخاري، كتاب المناقب، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رقم (3912).
460 رواه الترمذي كتاب صفة القيامة، باب ما جاء في صفة اأوني الحوض، رقم (2451)، وقال الترمذي: حسن غريب.
  • ملف العضو
  • معلومات
علي قسورة الإبراهيمي
مشرف (سابق )
  • تاريخ التسجيل : 22-03-2007
  • الدولة : NICE-France
  • المشاركات : 4,149
  • معدل تقييم المستوى :

    23

  • علي قسورة الإبراهيمي will become famous soon enoughعلي قسورة الإبراهيمي will become famous soon enough
علي قسورة الإبراهيمي
مشرف (سابق )
 
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 


الساعة الآن 06:47 PM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى