تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
منتديات الشروق أونلاين > المنتدى التعليمي > فضاء الجامعة و الدراسات العليا > قسم المذكرات والبحوث الجامعية

> دراسة: " النـَّقــد والخطاب محاولة قراءةٍ في مراجعةٍ نقديّة عربيّةٍ معاصرة "

 
أدوات الموضوع
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية أبو اسامة
أبو اسامة
مشرف عام ( سابق )
  • تاريخ التسجيل : 28-04-2007
  • الدولة : بسكرة -الجزائر-
  • المشاركات : 44,562
  • معدل تقييم المستوى :

    64

  • أبو اسامة is a jewel in the roughأبو اسامة is a jewel in the roughأبو اسامة is a jewel in the rough
الصورة الرمزية أبو اسامة
أبو اسامة
مشرف عام ( سابق )
دراسة: " النـَّقــد والخطاب محاولة قراءةٍ في مراجعةٍ نقديّة عربيّةٍ معاصرة "
22-02-2015, 10:58 AM
الأستاذ مصطفى خضر
النــَّـقــد والخــطاب
محاولــــة قـــراءةٍ فــي
مراجعةٍ نقديّة عربيّةٍ معاصرة

- دراســــــــــة -
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2001

مدخل

في لحظة نقديّة عابرة حاول الخطاب العربيّ إعادة النظر في الفكر القوميّ واليوتوبيا القوميّة، وكأنّه يمارس شكلاً من أشكال النقد الذاتيّ الذي لم يكن بعضه أكثر من احتجاج على هزيمة مّا، أو على حدث أعاق وحدة العمل القوميّ، وأخّر حلم ثورة عربيّة…
وفي لحظة نقديّة أخرى توقّف عند ماركسيّات عربيّة شائعة انتظرت تطورّاً مادياً واجتماعيّاً يدفع بالطبّقة العاملة إلى أن تكون طبقة "وازنة" تمثل الأمّة، وتصنع "الثورة" التي هي جزء من الثورة في العالم ورأى "زيف" الفكرة التي لم تستطع أن تكون "قوة"، ولم تنضج بعد!
وبين هذه اللحظة النقديّة وتلك اللحظة النقديّة تأمّل الخطاب العربيّ مفهومات "سلفيّة"، قد تكون "أصولية"، بمعنى مّا، وقد لا تكون. ولاحظ إجاباتها الجاهزة والناجزة التي تقي إنسانها من انحطاط وشكّ وإلحاد، وتعمل من أجل أن تكون بديلاً لفشل نخبات قوميّة حديثة أو شبه حديثة ونخبات أمميّة حديثة أو شبه حديثة.. ورأى (قوّة) الفكرة التي لم تستطع أن تتحوّل إلى سلوك "حديث" حقاً…
ويستمرّ خطابنا في إعادة النظر!
وقد تكون إعادة النظر دليل حيويّة بمعنى مّا، ولكنها علامة قلق أيضاً، فالصراع بين اتجاهات الخطاب العربيّ وتياراته وميوله لم تنته، ولن تنتهي، على الرغم من أجواء الركود التي تشيع في النظام الثقافيّ العربي بعامّة!
ولكن! كيف تتحوّل إعادة النظر إلى مراجعة نقديّة شاملة ومستمرة تعلن الحوار العقلاني بديلاً لصراعٍ يلغي الآخر، ولا يعترف بحضوره!
ومتى تكون المراجعة النقديّة جزءاً من مشروع ثقافيّ عربيّ، يهدف إلى إعادة بناء الخطاب العربيّ من داخله، وإن اختلفت تياراته، وتنوّعت اتجاهاته، وتباعدت ميوله، أو تقاربت!
إن إعادة النظر مهمّة دائمة يستطيع أن يمارسها الخطاب العربي بعامة، إذا ما تحرّك في أفق ينفتح على أهداف الجماعة القوميّة الكبرى في التوحيد والتحرير والتغيير والتقدّم…
وينبغي لهذه المهمة أن تكون هادفةً وواعيةً ومخططة كي تستطيع إنجاز ما يُتوقع منها.
يستأنف الخطاب العربيّ إعادة نظر تلو إعادة نظر ويدعو إلى هذه المراجعة النقديّة أو تلك استجابة لظواهر جديدة، أو لأحداث مفاجئة، وتبقى دعوة إعادة النظر مؤقتة أو طارئة، لا يلبث رجعها أن يتلاشى، ويخفت صداها، وتتحوّل إلى جزء من ذاكرة بعيدة تبعثرها وقائع الحياة العربيّة اليوميّة، بدلاً من أن تكون مدخلاً إلى مراجعة نقديّة شاملة ومستمرّة، أو محاولة في نقد الذات تتفاعل مع العالم والآخر في العالم، وتعمل على افتتاح فضاء للخطاب النقديّ يتسع للحوار، وبالحوار، بين تيارات الخطاب العربيّ واتجاهاته وميوله. وتجتهد في تحريك منظومة وعي نقديّ حديث، يتقدّم بتقدّم الأمّة، وتتقدَّم الأمّة بتقدّمه!
قد تعبّر هذه الدعوات المتكرّرة والمتقطّعة عن خصوبة وحيويّة وإلهام. ولكنّها قد تفصح عن قلقٍ واضطراب وارتباك أيضاً، إذاً…
وقد يشكّل مفهوم إعادة النظر أو المراجعة النقديّة أحد المفهومات التي يستلهمها خطابنا العربيّ من الفكر الغربي، كما استلهم خطابُ نهضة عربيّة أولى مفهومات التنوير والتحرير والنهضة وغيرها من قبل، وكما استلهم خطابُ نهضة عربيّة ثانية مفهومات الطبقة والثورة والتقدّم فيما بعد…
مراجعات تلي مراجعات، تسبقها مراجعات. وكأنَّها تعلن أن المراجعة النقديّة هي استراتيجية مرحلةٍ راهنة!
ولكن! ماذا يُتوقّع من هذه المراجعة النقديّة؟ وأيّة أهداف ستحقّقها؟







النَّقد والخطاب النقديّ
في الفكر العربي المعاصر


الفرضيّة التي يحاولها الخطاب العربيّ المعاصر تتوقّع منه أن يكون خطاباً نقدياً، أي خطاباً حديثاً؛ فهو خطاب يتدرّب على النقد، إن لم يكن قد تحوّل في مرحلته الأخيرة، إلى خطاب نقديّ يؤسس في المختلف، وللمختلف وللمغاير، كما يتأمّل أصوله، أعني: هويتّه!..

وهو خطاب هادف يوجهه وضع أمّة أمام مستقبلها، وشروط مجتمع، قياساً إلى تاريخ الغرب والأمّة والمجتمع في الغرب الذي هو تاريخ حداثة العالم وتكوين عقله الحديث، وقياساً إلى تاريخ "ذاتي" هو تاريخ "فتح" و"علم" لم يبق منهما إلاّ "ذاكرة" معطّلة!..
وكأنّه يستعيد "فرضيّات" مشروع النهضة الأولى، بأنموذجاتها المختلفة والمتعدّدة، شيوخ إصلاح ودعاة تقنية وعلم وممثلي تنوير وتغيير، اقترحوا أفكاراً وأحلاماً وأشواقاً تعبّر عن رغبةٍ قويّة بالنهضة وبإمكانيّة النهضة، لم تلبث أن تحوّلت فيما بعد إلى حلم بانفجار "ثورة" عربية…
ولم تكن "البذور" الفكريّة العلميّة والعلمانية تابعةً لصدمة حضارية وفّرتها مواجهةٌ مع غرب "استعماريّ" أو "إمبريالي" و"صهيوني" فيما بعد، ويفسّرها "لقاء" مع غربٍ وشرقٍ اشتراكيين، في مرحلة تالية، فقد كان ثمّة "عالمٌ" يتغير دائماً… تتداخل أمكنته، وتتواصل، وتتفاعل، وقوى تنمو في الداخل، وقوى تذبل، وعلاقات إنتاج تتهشّم، ومعاناة بشرٍ تتقدّم بتقدّم الحياة والواقع… بل إن عالماً قديماً يتآكل بسرعة، ويتشكّل من داخله عالمٌ آخر مختلف قليلاً أو كثيراً، وإذا كانت "سياساتٌ" ما قبل قومية، ضعيفة، ومتأخرّة قد أخفقت في إنتاج مجتمعاتها عبر مشروع "نهضة" أو مشروع "ثورة"، وهُزمت بفعل علاقةٍ خاصة بين "الداخل" و"الخارج"؛ فإن للأفكار أن تعيد النظر في ذاتها، وللأحلام أن تسائل يوتوبياها، وللأشواق أن تتخلّى عن وساوسها، بفعل الحياة والواقع…
ولذلك كان الخطاب العربي المعاصر خطاب "إعادة نظر" دائماً!
هل كان هذا الخطاب من إفراز "الرضّة" الحزيرانية كما كان الخطاب الحديث والنهضويّ من إفراز "الصدمة" النابوليونيّة، وكانت العلاقة بينهما علاقة قطع ونكوص، فورث عنه استعداداتٍ مرضيّة، واتسم بازدواجية مستعصية على الحل بين روح المنافحة وروح النقد، كما يفترض جورج طرابيشي؟(1).
ألم يكن ثمة "رضّة" و"صدمة" دائماً؟ ألم تتكاثر، وتتكاثر، "رضّات" و"صدمات" مفاجئة ومتوقّعة في تاريخ العرب الحديث والمعاصر الذي هو تاريخ من صنع الآخر بمعنى ما، أقحموا فيه، وألحقوا، كما أقحموا، وألحقوا، في تاريخ العالم؟
وكان على الخطاب العربي أن يتأمّل ذاته، وأن يتفاعل، أو يتواصل مع خطاب تنوير وحداثة، دون أن ينفذ إلى شبه قوى وشبه طبقات أو إلى بشر واقعيّين، فهو لم تنتجه نخبةٌ حديثةٌ أو شبه نخبة تمتلك مجتمعات حديثة قادرةً على إنتاجها، تحاصره أصولٌ يفترض انتماءه إليها، ويتناقض معها، كما تحاصره "تطوّرات" حداثةٍ في خطاب غربي يمتلك القدرة على تجاوز ذاته وتخطّيها دائماً، أيّ يمتلك احتمالاتٍ دائمة ومفتوحة على النقد بعامّة، وعلى نقد الذات بخاصّة!
ولكن الخطاب العربي المعاصر يتقدّم بمعنى ما، وتقدّمه نسبيّ طبعاً، والتقدّم نسبيّ أيضاً، وممكن أيضاً، كلّما كانت الثقافة نقدية.
وهو، على أية حال، مشروع خطابٍ يشتمل على ما هو أصوليّ وإصلاحيّ، وعلى ما هو سلفيّ وتوفيقيّ، وعلى ما هو شبه حديثٍ ومُستعار، وعلى ما هو حديث ومستورد، وعلى ما هو متصالح وضدّي… يعلن تناقضه مع ذاته ومع الآخر، ويعيد النظر فيهما… يخفق وينجح في بحثه عن ذاته من داخل أصوله، ومن داخل حداثةٍ تهجم عليه. ويفتتح أكثر من أفق للاختلاف والمغايرة بحثاً عن هويته، عبر علاقة قلقةٍ ومرتبكةٍ بين الذات والآخر!
إنه يتدرّب على النقد حقاً! وما زال أكثر من اتجاه فيه يستكشف عوامل فشله أيديولوجيةً وفلسفةً وسياسةً وإبداعاً، كما أن أكثر من اتجاه ينبّه إلى أنّه بديل، أو إلى أنه هو أوّل الطريق، وفي كلّ مرحلة عاصفة أو شبه عاصفة كان ثمة اتجاه يريد أن يكون هو أوّل، أو الأوّل، ويرغب في أن يؤّسس لمشروع فكر عربيّ معاصر وثقافةٍ معاصرةٍ، وكانت اختياراته تتداخل مع اختياراتٍ أخرى بموادها ومراجعها وشعاراتها، تبعاً لعلاقة كلٍّ منها بذاكرة مرجعيةً بعيدة أو قريبة، وتبعاً لأحوال قوى وشبه قوى واقعيّة.
ولعلّه يحاول أن يبني ذاتيّته، وبخاصة عندما يعيد النظر في مراجعه ومصادره ودلالاته الأبستمولوجية والأيديولوجية التي غلّفت وتغلّف شبه مشروع حداثةٍ عربيّةٍ راهن، ويبرز فيه أثرُ أكثر من اتجاهٍ أوربيّ غربيّ أشاعه تفاعل وتثاقف وتجاور وتناقض، كما عكسته ظواهرُ اجتماعيّة وسياسيّة وفكريّة، ارتبطت بصراعات وتحوّلات، كما ارتبطت بتطوّرات العالم وتغيّراته التي أنجزت دون مشاركة العرب حقاً، بل عبر تهميشهم!.
ولكن! ألا يختبر حداثته، ويتأمّل علاقته بها، ويقوّمها من داخل موقف نقديّ، يتحوّل فيه النقد إلى جزءٍ من بنيته، ويتحوّل ببنيته نحو تحرير الإنتاج المعرفي والنقدي والإبداعي من كلّ سلطة خارجية تؤجّل خلخلة مفهومات وتشكيل مفهومات واستراتيجيات هي مضادة بمعنى ما: مؤقتة أو بديلةً!
النقد أوّلاً! هل هو شعاره مضمراً أو معلناً؟
ولذلك فكلّ ما لا يدخل على نحو مباشر أو غير مباشر تحت "نقد الأمة" أو "نقد الذات" يجب أن يدان، كما يقول الياس مرقص(2)، ولكن! لماذا يدان؟ وكيف يدان؟ الناس –كما يرى بحقّ- تريد المعرفة، والفكر، ولا سيّما الثوري، ينتهي حين لا يخضع مقولاته للنقد، وحين لا يفحص مفاهيمه!
الخطاب العربي المعاصر يعبّر عن مشروع ثقافة عربيةٍ معاصرةٍ فكراً ونقداً وفلسفة وإبداعاً. وقد تحرّك، كمثل الخطاب النهضويّ من قبل، ويتحرّك الآن في داخل أفضيةٍ متعدّدة ومختلفة، تهدف إلى استعادة التراث وإحيائه أو بعثه واستلهامه وتمثّله أو تبنيّه على نحو نقدي. وتحرّك، كمثل الخطاب النهضوي مستعيناً بخطاب تنوير، وبخطاب حداثة، غربيّين، حاول تمثّلهما وتعريبهما أو تقليدهما، وربما تبيئتهما في بعض تجاربه.
وقد استعان كلّ اتجاهٍ من اتجاهاته بجزء من التراث الذي هو تراثات. كما استعان كلّ اتجاه بجزء من حداثة الغرب التي هي حداثات أيضاً. وكان استهواء هذا الاتجاه أو ذاك بجزءٍ من التراث، أو بجزء من الحداثة وما بعد الحداثة، فيما بعد، يعكس وضعاً تاريخياً يشرطه تأخّر، تضاعفه تبعيّة؛ قد يستورد "ألفاظاً" حديثة كما يستورد "الأشياء" الحديثة، وقد "يحدث" أدوات دولةٍ هي سلطة فحسب؛ ولكنه لم "يحدث" الأمّة… لم يحدث الواقع والحياة من الداخل ومن الخارج في آن معاً!
فأين مشكلته إذاً؟
يرى بعضهم أن مشكلة المثقّف لم تعد مع الواقع ولا مع الدول والأنظمة، بل هي مع أفكاره بالدرجة الأولى… وهذا يتطلّب مراجعة العقل لنتاجاته ونقده لأنظمته..(3)
وعندما تكون مشكلة المثّقف مع عقله ألا يعني أنها مشكلة مع واقع، ومع ما ينتجه هذا الواقع؟ وهل تنتمي أفكاره إلى واقعٍ هو واقع الواقع والدول والأنظمة، بل السلطة ولأن عقل المثقف ليس هو عقل المثقف فحسب، بل عقل "الواقع" الذي يرغب في أن يكون مستقلاً، ويحاول أن يكون مستقلاً، وألا يكون تابعاً في عالم هو عالم الآخر حتى الآن، فقد كان إنتاج الخطاب العربي المعاصر فلسفة وفكراً ونقداً تتوزّعه ميولٌ مادية وروحيّة وعقلية وتكاملية وشخصانية ووجودية وروحية تبعاً لتصنيف جميل صليبا للاتجاهات الفلسفية العربية(4) كما برزت فيه ميول ماركسية ووضعية وبراجماتية، وتبرز فيه الآن ميول بنيويّة وما بعد بنيويّة وتفكيكيّة وغيرها. واجتهد أكثر من محاولة في التأصيل الفلسفي والنقدي والإبداعي؛ ربّما كان في مقدمتها تجربة د. عبد الرحمن بدوي في التأصيل الفلسفي التي اتجهت نحو البحث عن وجودية عربية إسلامية تحاور "شطحات الصوفية" و"تاريخ الإلحاد في الإسلام" و"شخصيات قلقة في الإسلام" وتدرس "الزمان الوجوديّ" وتناقش "الإنسانية والوجودية في الفكر العربي" وتتساءل عن إمكانية قيام أخلاق وجودية.
وستلي تجربته محاولاتٌ فلسفية ونقدية وإبداعية استهوتها الوجودية في مرحلة أشاعت أفكار هيدغر وكيركيغارد وهوسرل وميرلوبنتي وكامو وغيرهم وسارتر بشكل خاص. وسيبشّر زكي نجيب محمود بالفلسفة الوضعيّة كاستجابةٍ حارة للعلم والعلوم، كان تأثيرها ضعيفاً على الفكر وعلى الواقع، وأخذت صاحبها في أعوامه الأخيرة صحوة، ردّته إلى التراث في كتابه "تجديد الفكر العربي". وستواصل ميولٌ فلسفية ونقدية بنيوية وتفكيكية عملها هادفة إلى تكوين وعي فلسفي ونقدي ضدّيّ، كما في دراسات "مطاع صفدي" الذي ابتدأ حياته الإبداعية والنقدية قومياً وجودياً وكما في أعمال "علي حرب" و "عبد الكبير الخطيبي" و "كمال أبو ديب" وسواهم.
وبالقدر الذي شاعت فيه "فكريّات" قوميّة انحازت إلى تراثها القومي وتأثرت بأعمال فخته ونيتشه وبرغسون وغيرهم، حاولت "فكرّيات" ماركسية مختلفة أن تؤثّر في تكوين نخبة وشبه نخبة، ونقلت أشكالاً من الماركسية الرسمية وشبه الرسمية والشائعة، ودعا بعض ممثّليها إلى "تعريب" الماركسية وتبيئتها.
وظهرت أعمال جادة لحسين مروة ومهدي عامل وصادق جلال العظم وسمير أمين وأنور عبد الملك ولطفي الخولي وطيّب تيزيني ومحمود أمين العالم، وغيرهم. وقد تطورت فرضياتها تبعاً لاستجابتها للواقع وللوقائع. كما قدّمت أعمال إلياس مرقص وعبد الله العروي وياسين الحافظ أمثلة على نقد الأيديولوجية العربية المعاصرة والأيديولوجية القومية والأيديولوجية الماركسية الشائعة.
ولكن خطاب الأصول كان حاضراً دائماً أيضاً، وتبعاً لعلاقته مع الواقع المختلف اختلف خطاب الأصول من محمد عبده إلى رشيد رضا إلى حسن البنا ومصطفى السباعي وسيّد قطب وغيرهم كثير…
وكان قد شاع فيه من قبل، كما يشيع فيه الآن، شكلٌ من أشكال النقد؛ بعضه يغلب عليه اضطهاد الذات، وعلى بعضه امتداحها، وعلى بعضه الآخر تدرّبٌ على النقد. فمنذ مطالع الستينات تأخذ انطباعاتٌ نقديّة على الفكر العربي أو التفكير العربي عجزه عن التفوّق على ظروفه، وأنه لا يستطيع أن يكون حراً، ولا يتصوّر السعادة أو المثالية في هذه الحياة أو في الإنسان، ولا يدرك كمال الإنسان أو كمال الأشياء، وينزع إلى توحيد القوى في قوّة واحدة، وينكر التعدّد، فيراه ضدّ الطبيعة والفضيلة، وكما وحّد الإله وحدّ السلطان.. يترقّب قيام الساعة وفناء العالم كوسيلةٍ لتقويم الأخلاق… إنه فكر اتكاليّ، هارب من نفسه، يرفض أن يكون مسؤولاً عنها! الخ…(6).
ويشطب أدونيس تجربةً فكرية وفلسفة ونقديّة حديثة ومعاصرة، بعد أن يتساءل بدهشة عمّا قدمه النتاج الفلسفي العربي الراهن والنتاج الفكري النقدي الراهن ضمن إشكاليات الفكر العربي وخصوصيتها.
ويجيب بدهشة أيضاً:
تقريباً لا شيء! فبعضه وصفيّ، وبعضه تعريب وتثاقف، وكلّه يتحاشى البنية الدينية والمعنى المسبّق، حيث تكمن أسس الثقافة في المجتمع العربيّ. وكأنّ معياره هو مواجهة البنية الدينية والمعنى المسبّق، فالفكر العربي –فلسفةً أو نقداً- إذا أراد أن يتأسّس أولاً، وأن يكون من ثمّ جديداً، لا بدّ أن يبدأ بتحرير النّص الأوّل من مسبقات النصّ الثاني…(7)، ولم لا يبدأ بتحرير وعي البشر الواقعيّ وبتحرير حياة البشر الواقعية من شروطهما غير العادلة التي تدفع بشكل من الانتماء إلى البنية الدينية في بعض الأحيان، أو في أحيان كثيرة، كما تدفع إلى تقبّل أشكال من الحداثة الساذجة أو الرثّة في أحيان كثيرة، أو في بعض الأحيان…
إن تحرير النصّ الأول، أو التحرّر من النصّ الثاني يتطلّب تحرير الواقع بما هو تحرير للوعي.. واستيعاب ما ينتجه العقل الحديث من عقلانية، كما يفترض تحرير المجتمع. ولا يكفي أن نرى في الماركسية النظرية النقدية للغرب الحديث، والنظرية المعقولة الواضحة النافعة لنا في الدور التاريخي الذي نحياه، كما يرى العروي، إذ حكم على السلفيّة والليبرالية والتكنوقراطية بالسطحية والفشل…(8). ولا بد من تأمّل علاقة هذه النظرية المعقولة الواضحة النافعة بحياة عربية غير معقولة وغير واضحة وغير نافعة!
ويؤكّد د. محمد عابد الجابري ارتباط الخطاب الفلسفي العربي المعاصر الصريح بالتيارات اللاعقلانية في الفكر الأوروبي المعاصر، بل بأكثر الجوانب لا عقلانية منه، بالإضافة إلى تجاهله القطاع الفلسفي العقلاني في التراث… بل إنه يحكم على هذا الخطاب، كلّه، بالفشل…(9) وكأنّه يتجاهل علاقة هذا الخطاب بخطاب عصر التنوير وعصر العقل والحداثة الغربي، بل علاقته بالخطاب الماركسي الأوربي بشكل خاص، كما يتجاهل علاقة الخطاب الماركسي العربي بجزء من التراث، هو جزء عقلاني وماديّ بمعنى ما!
هذه أمثلة، وغيرها كثير، تدلّ على أن خطابنا النقدي العربي ما زال يتدرّب على وعي ذاته، أي على نقد ذاته… فهل نحكم عليه بالإخفاق أو العطالة؟
إن بعضه يدعو إلى نقد جذري، وبعضه يدعو إلى نقد مزدوج على حد تعبير عبد الكبير الخطيبي وسواه، وبعضه الآخر يدعو إلى نقد حضاري شامل على حد تعبير د. هشام شرابي. وكلّه يشعر بالحاجة إلى عون النقد والوعي النقدي، بالقدر الذي نحتاج فيه إلى العلوم المختلفة وتطبيقاتها. ولكن شعار النقد الذي يطلقه خطابٌ ينتمي إلى حداثة ما، أو يريد أن ينتمي إلى الحداثة لا يعني أن هذا الخطاب يعبّر حقاً عن "اهتمامات" الجماعة، أو الكتلة الاجتماعيّة التي تطمئن إلى "يقين" يقدّمه تصوّرها التقليدي للعالم، وتتصالح مع "فكرّيات" و"تقاليد" سلفيّة يوفّرها "تديّن"، شعبي أو شبه شعبيّ، تغذّية مللٌ ونحل وطوائف وفرق، وتخرج منها دائماً نخبة إسلامية وشبه نخبة، رسميّة وغير رسميّة وشبه رسميّة، بالحلول التي تصلح بها دنيا الناس، مرجعها مطلقات النصّ الدينيّ الأوّل وشروحه وهوامش شروحه، وهو مرجع لا يتعارض مع تفاعل هادف، مباشر وغير مباشر، مع ما ينتجه الغرب، وتقابل النخبة، وشبه النخبة الأصولية نخبةٌ وشبه نخبة حديثة وشبه حديثة مرجعها نصوص حداثةٍ غربيّة لم تنفذ آثارها إلى وجدانات كتلة اجتماعيّة؛ تنظر إلى الحداثة، وبخاصة فيما يتّصل بإنتاجاتها الماديّة، كمحض فرجة!
وبين نخبة وشبه نخبة تنتمي إلى أصول هي جزء من الأصول "ونخبة شبه نخبة تنتمي إلى حداثةٍ هي بعض الحداثة نتكلم على صراع، يتقدّم أو يتراجع، يتسارع أو يؤجّل، ينفجر أو يهمّش، تبعاً لآليات سلطةٍ تستبعد التعدِّد والحوار، والإصغاء للذات وللآخر، وتنمية الذات كجزء من تنمية الآخر، وتنمية النقد الذاتي، بقدر تنمية النقد، بدلاً من أن يبقى النقد مجرّد شعار!
يحدّد د. أنور عبد الملك، وغيره أيضاً، وجود تيارين فكريين رئيسين وكبيرين في الحياة الثقافية العربية: الأصولية الإسلامية والعصريّة الليبرالية. وتتمثّل نقطة انطلاق التيّار الأوّل في الفكر الإسلامي الذي يستوحي الإسلام بالعودة إلى مصادره الخالصة التي تسمح بإقامة حوار مع العصر يستخدم العقل السليم، مهما اختلفت تنويعاته. والتيّار الثاني نقطة انطلاقه في جوهرها الحضارة الغربية، ويهدف إلى خلق مجتمع عصريّ، ينفتح على التقدّم، ويضمّ أيضاً اتجاهات مختلفة…(10).
وقد يضمر العنوان الفرعيّ لكتاب د. برهان غليون (اغتيال العقل) فرضيّة ترى أن محنة الثقافة العربية تحددها علاقةٌ ما، أو يعبر عنها صراع مّا، بين السلفيّة والتبعيّة، وكان قد استخلص أن حركتي البحث عن الهويّة واكتشافها والاندفاع وراء الحضارة وتأهيلها حركتان أصيلتان تكمّلان الواحدة منهما الأخرى واستمرار تعارضهما هو مظهر من مظاهر عجز كلّ منهما عن تحقيق الذاتيّة… وفي صراعهما، ومنه، تنبع إمكانيّات تحوّل الحضارة إلى مدنيّة… ولكن ما معيار "أصالة" كل منهما؟ وهل يتطابق البحث عن الهويّة واكتشافها مع ثقافة موادها أجوبة جاهزة ومغلفة، أم ينفتح على مشروع ثقافةٍ، تدمّر أجوبتها، وتنتج أسئلتها المختلفة، ما دامت الذات هي الوعي، والثقافة هي وعي الذات بالنسبة للجماعة، على حد تعبيره! ومتى تتحول الجماعة إلى متّحدٍ اجتماعي يستمرّ في إنتاج هويّته ووعي ذاته، بالمقارنة مع جماعةٍ تكتفي بتداول ثقافة مُنتجة ترى فيها هويتها، وتعيد إنتاج ذاتها على صورتها؟
يطرح د. برهان غليون شعاراً مفاده: لا، لتدمير الهويّة، لا، لفصل العرب عن العالم، وكأن الشعار ينظر إلى الهويّة كمعطى مطلقٍ ونهائي، مع أنّه يلاحظ، كما يفعل غيره، أنّ الحداثة عمليّة مستمرّة عندنا منذ قرنين، وعلى الرغم منّا، ولا يمكن الاختيار بينها وبين غيرها. ويقرّر أن الجدال بين التراثيين والتحدثيين هو الميدان الذي برزت فيه خصوصية الثقافة العربية. وخلاصة قوله في الحداثة: إن أصل التخلّف لا ينبع من استمرار وجود التراث وعزلـه لنا عن غيرنا، وإنما من بقاء هذه الحداثة غريبة ومغرّبة أي أداة تفكيك وتقسيم ونفي للذات…(11). ولكن هذا التراث، الذي هو تراثات عزّزتها أكثر من سلطة، واستعانت بها، بين مرحلة وأخرى، كان أداة تقسيمٍ وعزلٍ وضياع حتى الآن.
وما شبه الحداثات التي اقترحت علينا من خارج، منذ قرنين، إلا الوجه الآخر والمختلف لشبه التراثات التي تؤجّل عمل الحداثة فينا من داخل!
قد تكون التراثات عامل تعدّد وتنوّع من داخل "هوية" ينجزها الاشتغال على الذات، أو النقد، على أن تتحوّل حداثات وشبه حداثات إلى موضوع للنقد أيضاً، بدلاً من أن يكون كلّ منهما مصدر تقسيم وانقسام أو مصدر صراع زائف، يقنِّع سلطة تأخّرٍ وتأخر سلطة، فتحتمي بالتراث قوى وأشباه قوى كمرجع "مقدّس" وهو الإنتاج الدنيوي، كما تحتمي بالحداثة وشبه الحداثة، التي هي دنيويّة أيضاً، وتحوّلت إلى وثن أو شبه وثن يخدم مصالح هذه الفئة أو تلك!.
في كتابه (الخطاب العربي المعاصر) يرى د. الجابري أن الحاجة تدعو اليوم أكثر من أيّ وقت مضى إلى تدشين عصر "تدوين جديد"، تكون نقطة البداية فيه نقد السلاح، أي نقد العقل العربي… وأنه لا بدّ من حضور "الأنا" العربيّ حضوراً واعياً، حضوره كذات لها تاريخ، ذات لها فردّيتها وتناقضاتها وسيرورتها الخاصة.. بل إن "نقد الآخر، عنده، شرط لوعي الذات الذي هو شرط لاكتساب القدرة على التعامل النقديّ مع الآخر. وكان قد أشار إلى ما يجب البدء به، وهو معرفة الذات أولاً وفكّ إسارها من قبضة النموذج السلف حتى نستطيع التعامل مع كلّ النماذج تعاملاً نقدياً…
وتدشين عصر "تدوين جديد" شعار يبدو جميلاً، ومتفائلاً وغامضاً أيضاً، فمنذ مشروع النهضة الأوّل ثمة تدوين وتدوين بمعنى ما، يضمر محاولة لوعي الذات أو يفصح عنها، وثمة نقد بعامة، وثمة تعامل نقديّ مع الآخر من وجهة نظرٍ إصلاحية، وترغب في أن تكون جديدة.
قد يشبه عصر تدوين جديد تلك الثورة التي آن أوانها –كما يفترض مطاع صفدي- هذه الثورة المولّدة لعصر التنوير الحقيقيّ والمعبّرة عن كون الأمّة تعيش مناخ الانبعاث الحقيقي. والتي تدفعه للتساؤل عن السبب الذي جعل النهضة العربية الجديدة تعجز عن توليد ثورة رشديّة ثانية، أو عن تحقيق عصر تنوير عربي، لم يعرفه جلّ العرب حتى وهم يلجون عصر الثورات السياسية اللاهبة… النهضة الحديثة لم تمرّ إذاً بمرحلة عصر التنوير، كما أن وعي النهضة ينتكس، ويلجأ بعد كل هزيمة إلى نظام أنظمته القمعية على حدّ تعبيره، أي اللاعقلانية الغيبيّة وتجسيدها السياسي في التسلّط الأبويّ القمعيّ…(13).
هل هناك علاقة بين تدشين عصر تدوين جديد عند الجابري وتحقيق عصر تنوير عربي عند مطاع صفدي؟ وإلى أي مدى يمكن أن يشتمل الأنموذج السلفي على اللاعقلانية الغيبية؟
يتساءل صفدي في موضع آخر إن كان ثمة مفرّ حقاً من أن يأتي العقل العربي نفسه عبر ما يأتي به العقل الغربي نفسه كذلك.
ولكنه يعتبر قصّة العقل الغربي مع ذاته ليست أمثولة للآخرين أو نموذجاً للتقليد أو بضاعة للاستيراد والتبادل، وإن اعتبرها قابلة لأن تكتب بغير حروفيّتها الأصليّة، كما أن نقد العقل الغربي هو نقد للعقل العربي، لأننا نقرأ فيه ما كان ينبغي لنا أن نكتبه.. الخ وفقاً لأسلوبه الخاص في التعبير.
ويشير إلى أن السؤال الفلسفي هو المركزي، هو المركز في عصر الحداثوية البعديّة، ويخرج السؤال من كونه سؤالاً فلسفياً، إلى أن يكون سؤال الفلسفة، ولكن السؤال العربيّ عنده ليس بعدُ سؤالاً في السؤال… ليس هو بعد لماذا؟ وغياب السؤال العربي، على هذا النحو، يعني أن يستمرّ في الإصغاء إلى سؤال الفلسفة الذي هو سؤال العقل الغربي!
ويعيد فشل المشروع التنويري في الغرب أو عدم اكتماله في الغرب إلى انفصالٍ في استراتيجيّة المعرفيّة، إذ لم يبق فيه إلا طوبائيته التي قد تحرك بعض القلق من حين إلى آخر لدى نخبة ثقافوية منعزلة…
بالإضافة إلى استيعاب كلّ يوتوبيا ثقافويّة تلمع في بعض خلايا التمرّد الاجتماعي من قبل أيديولوجيا التقنية!
أمّا التنوير العربي المعاصر فقد سقط –كما يرى- في أسطرة التنمية كإجهاض منظّم لمولد النهضة، إذ ارتبطت عضوياً بالثروة النفطية، وطمست حقيقة التحدّي التاريخي الذي كان على المشروع الثقافي العربي أن يتصدّى
لـه…الخ(14).
وكأنّ نقد العقل الغربيّ هو شعار كمثل نقد العقل العربي، يفترض على نحو ميتافيزيقي عقولاً كليّة ومجرّدة ومطلقة ونهائية تتمايز بأنظمة يمكن أن تستكشف، فنفاضل بينها من خارج علاقتها بالواقع وتطوّراتها وبالقوى الواقعيّة وصعودها وهبوطها… وكيف يتوقّع من فرضيّة كفرضيّة العقل الغربي أو العقل العربي أن تخدم نقد الآخر أو نقد الذات، وبخاصة عندما نسلّم بأن كلاً منهما إنتاج عصر مختلف وقيم مختلفة، وعالم مختلف في عالم هو حتى الآن عالم الغرب أولاً!
يتفاءل بعض أنصار الحداثة وما بعد الحداثة أيضاً، فيقرّر أن الحضارة السلفيّة أصبحت شظايا، فتفتّت، وتهشّمت أمام العقل الغربي المتحفّز… بل إن اللغة السلفيّة شاخت، وشمس الشاعريّة القديمة أفلتْ –على حد تعبير د. سامي أدهم- وأصبح الجديد يدقّ أبواب الشرق بأسره منذراً متوعّداً ومشفقاً على أمجاد غابرة وحضارة سالفة… وكأنه يكفي أن تتغيّر الكائنات الذهنية بتغيّر المعاني على المستوى الأنطولوجي –كما يرى- لتعكس منظورات جديدة في الإبداع والتجديد، ولنهجم على الحداثة وما بعد الحداثة، مع أن الوعي الشرقيّ المبهور يحاول لملمة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حضارة انتفخت وانفجرت غداة الثورة الفرنسية، على حد تعبيره أيضاً(15). ومع ذلك فالعقل العربي لم يعثر على ذاته من خلال الحداثة، وما بعد الحداثة!…
في مناقشة فرضية د. الجابري التي تدعو إلى تدشين عصر تدوين جديد يجد جورج طرابيشي أن الحاجة تدعو إلى استئناف جديد لعصر النهضة. ويتعيّن على العقل العربي في طور تكوين جديد له أن يعمل في اتجاه انفتاح نقدي مزدوج على الماضي، كما يتمثّل بالتراث، وعلى المستقبل، كما يتمثّل بالعصر.
وما من شيء هو برسم التدوين، بل كلّ شيء برسم إعادة الإنتاج وإعادة الاختراع… والسبيل إلى إيجاد صلة نسبٍ بين العقل العربي والحداثة يراها في موضعة العقل العربي في سياقه المعرفي، وإخضاعه في بنيته الماضية والحاضرة لعمليّة نقدٍ ذاتي مماثلة لتلك التي أخضعت أوروبا الحديثة نفسها لها… الخ (16).
ألا يستدعي هذا النقد الذاتيّ أن نتأمّل الشروط والعوامل التي أهلّت أوروبا الحديثة وأهبّتها لنقد الذات، وأن نناقش أوضاع النخب وأشباه النخب والقوى وأشباه القوى التي هي قادرة على إعادة النظر في ذاتها وتقويمها ونقدها. وهل تختلف فرضيّة استئناف جديد لعصر النهضة، عن فرضيّة تدشين عصر تدوين جديد أو فرضية عصر أنوار عربي، ما دامت هذه الفرضية أو تلك تدعو إلى نقد مزدوج، قوامه الرئيس نقد الذات ونقد الآخر؟
يقترح د. هشام شرابي مفهوم النقد الحضاريّ، كفكر يناهض أيديولوجية الفكر "الثوري" القديم وغيبيّات الفكر الأصولي النامي. وتتمثّل بداياته في الفكر النقدي الديمقراطي. وتكمن مهمّة هذا النقد الحديث وقدرته على تغيير الفكر، وفقاً لتعبيره، برفع مستوى الوعي الفردي والجماعي إلى مستوى النصّ النقدي الجديد وخطابه العلماني الجديد. ويتطلّب مشروع النقد الجذريّ إجراء تغيير أساسي في الفكر المسيطر والموضوعات والأشكال التي يتناولها، ويركّز عليها، وليس نقده فحسب، ويتوقّف عند ثلاث ظواهر تكمن في صميم ما يرمي هذا النقد الحضاري إلى كشفه: الحداثة وقضيّة المرأة والحركات الاجتماعية.
هكذا تختار نخبةٌ أو شبه نخبة شعار النقد الذاتي، إذ اختارت أن تنتمي إلى الحداثة ونصّها الغربي وأنموذجها الثقافي الغربي، ويبقى انتماؤها من الخارج، وفي مستوى الكلام، لا الفعل، ما دام ثمة واقع تاريخي وتاريخ واقعي يعبّران عن علاقة الكتلة الاجتماعية بالأصول، التي هي أصول "مذاهب" و "فرق" قبل أن تكون أصولاً تنتمي إلى النصّ الأول. ويعيد إنتاج وعي سلفي بالأصول يمثّل "أزمة" عقل اصطلح على تسميته عربياً –إسلامياً أو إسلامياً عربياً. وإسلامياً وعربياً. وكأن قطيعة أبستمولوجية أو أنطولوجية غير ممكنتين بعد بضعة قرون من الفوات والتأخّر. وسرعان ما يتحول كلام "الأصول" إلى مستوى الفعل، تجسّده جيوبٌ وحركاتٌ اجتماعية تهدف إلى الانتقال بالأصول من رموز إلى مؤسسة وقوّة وسلطة، سواء ألجأت إلى الحكمة والموعظة الحسنة أم اندفعت إلى آليات قمعيّة؛ وسواء أكانت سلفية محافظة أو إصلاحية أم كانت قمعية أو جهادية!
ولنتأمل شجرة الأصول بفروعها جيّداً، فإنّها نامية حقاً في بيت ومدرسة ومؤسسة شبه قديمة وشبه حديثة… ولنلاحظ أيضاً أنّ حداثاتٍ وشبه حداثات تشيع، بلبابها وقشورها، في المكان العربيّ، تقتحمه، وتقتحم حياة البشر الواقعيّة.
وكي لا يبقى النقد أو النقد المضاد في مستوى الكلام يفترض الجميع أن الواقع هو الواقع أولاً، وأن النيّة الطيّبة أو الرغبة المشروعة قد تزّينان لنا واقعاً ما وتاريخاً ما ومستقبلاً ما، ولكنهما لا تصنعان واقعاً مختلفاً وتاريخاً مختلفاً ومستقبلاً مختلفاً. وقد كانت الأصول حاضرة دائماً، وستحضر أيضاً، على نحو غير عادل، بالقدر الذي تُفرض فيه أنموذجات حداثةٍ وشبه حداثة، صُنعت من خارجنا، ودون مشاركتنا.
وإذا لم تتحوّل الأصول إلى تراث، أي محض تراث، وإذا لم نمتلك تراثنا كلّه، فكيف ننجز حداثتنا التي هي جزء من حداثة العالم.
قد يتكلّم بعضنا على إخفاق هذا الخطاب أو ذاك، وعلى إخفاق هذه الأيديولوجية أو تلك؛ وكأن الإخفاق موضوع ثقافةٍ أو موضوع وعي فحسب، أو كأن الإخفاق في مستوى الكلام.. وهل يكفي أن نعلن عن إخفاق هذا الفكر "العربي" أو ذاك "الوعي" العربي حتى نؤسّس لهويّة أو ننخرط في حداثة، ما دام الفكر والوعي "موضوع" إنتاج وعلاقات إنتاج وقوى وسلطات، ولم يتحوّل إلى "ذات" تجسّد الأمّة، التي هي موضوع "نقد" و "نقد الذات" أيضاً!
أيكون وعي الذات بالاندماج مع الآخر، الذي هو الغرب والحداثة، أم يكون بالقطيعة على نحو ما معه؟ وكيف يقيم النقد علاقته مع الواقع على نحو يمتلك فيه التراث كلّه بقدر ما يمتلك حداثته؟
يتجاور النقد الذي ينتمي إلى الأصول مع النقد الذي ينتمي إلى الحداثة في فضاء خطابنا العربي، ويقترح كلٌّ منهما ظواهره وأشكاله وتظاهراته وأقنعته، ويعيد إنتاجها بين مرحلة وأخرى.
وقد يكون للأصولية خطابها المعلن الرسميّ وشبه الرسمي والشعبي الذي يتوقّع أن يجابه هجمات حداثة طاغية، ويعدّ لها، ويكيّفها.
كما كان لها أنموذجها النقديّ في هذه المواجهة!
*
في كتاب صغير الحجم، وعنوانه (منهج النقد عند المحدّثين مقارناً بالمنهج النقدي الغربيّ!)(18) يرى الكاتب أن منهج البحث الغربي في العلوم الإنسانية تبلور منذ القرن الثامن عشر في وسط بعيد كلّ البعد عن الوسط الإسلاميّ!، وإن كانت جذوره ترجع إلى اتصال الغرب بالشرق عن طريق الأندلس وصقلية والشام ومصر، وبخاصة في أثناء الحروب الصليبية، إذا أخذ الغربُ المنهج العلميّ التجريبي ومنهج الحديث ومنهج أصول الفقه عن المسلمين. ولكن منهج البحث الغربي الحديث نبت، على حد تعبيره، في أحضان النزعة اللا دينية العلمانية، ولذلك فهو لا يعترف بما وراء الطبيعة لعجز الحضارة الغربية عن تصور الإنسان بشموليّته. ويفسّر هذا العجز نظرياتٌ ذات تفسير أحادي كالاقتصاد عند ماركس والجنس عند فرويد والتفسير القومي الاستعلائي… الخ.
منهج الغرب قائم على الإلحاد، ولا يسمح بالكلام على الإرادة الإلهيّة أما منهج البحث الإسلاميّ فيرتكز على الإيمان بالله وعالم الغيب وعالم الشهادة، ويقرّ بالمشيئة الإلهية، ويعترف بالجوانب الروحيّة، ويراعي الفطرة، ويقرّ بالغرائز، ويتّسم بالموضوعيّة، ويبتعد عن الاستعلاء القومي… وهي ضوابط وسمات تميّزه من المنهج الغربي برأيه. ولكن استيعاب المنهج الإسلاميّ أصعب لأنّ المسلمين قصرّوا في الكشف عن مناهج النقد عند السلف، فلم يستقرئوا مناهج المحدِّثين بصورة تفصيلية، علماً بأن منهج المسلمين النقدي لا يقتصر على منهج المحدثين، وإنما يضاف إليه منهج الأصوليّين… الخ.
المدرسة التاريخية أو الاجتماعية في تفسير النص تقترب في رأيه ممّا كان عليه الأحناف في فقههم، مع مراعاة للعرف وأخذ بالاستحسان، وتقترب من مدارس فقهية تأخذ بالمصالح المرسلة التي توسّع فيها ابن تيمية وابن القيّم، وأخذ بها المالكيّة… وقد سبق المنهج الإسلامي إلى تحليل شخصيّة الرواة ودوافعهم، كما استخدم المحدّثون منهج الشك منذ القرون الأولى للهجرة بالإضافة إلى اشتراط الملاحظة العلميّة والمقصودة والمباشرة مع سلامة الحواس وقوّة الذاكرة… بل إن المنهج الإسلامي في التعامل مع النصّ يحقّق تفوقاً على منهج البحث الغربي في الدراسات التاريخية، حيث لا يمكن الحصول على شهود عيان فيلجأ إلى التخييل… الخ.
وفي مقدّمة ابن الصلاح الشهرزوري (تـ643) اكتسب المنهج النقدي ثباتاً في عناصره، ساعده على القول بإغلاق باب الاجتهاد، وفي الحكم على الأحاديث والاكتفاء بقول المتقدّمين لعجز المتأخرين. وقد حظّيت مقدّمته بشروح ومختصرات وتعقيبات!
وقد استقرّ منهج البحث الإسلامي قبل منهج البحث الغربي متمثّلاً بمؤلفات دقيقة في مصطلح الحديث وعلوم أصول الفقه وفي كتب المنهج التجريبي، كما وضعها علماء الطبيعة المسلمون…
ولذلك، كلّه، يستغرب د. العمري أن يشيع في معظم الجامعات الإسلامية مناهج النقد الغربي بدلاً من المناهج النقدية الإسلامية! وهي المناهج القائمة على الإيمان بالله، والتي استقرت منذ عشرة قرون محققة السبق على حضارة غربية نظرياتها ذات تفسيرٍ أحادي، ولا تعترف بالجوانب الروحيّة؟
ألا يكفي أن تستعاد تلك المناهج، ويدرك تفوّقها على مدارس الغرب الحديثة والمعاصرة، ولا علاقة، عندئذٍ، للفكر أو النقد بالحياة وبالتاريخ وبالواقع ما دام قد أغلق باب الاجتهاد، وتمّ الاكتفاء بقول المتقدّمين لعجز المتأخّرين!
الأصول أوّلاً! هذا هو شعار الخطاب الذي ينتمي إلى الأصول! ولكلّ أصوله في داخل الأصول!
ثمة أصوليّ يستعيد منهج المحدّثين النقديّ. وثمة أصوليّ يدعو لاستعادة العقلانية الرشديّة متقنّعاً بحداثة ما.
وثمة أصوليّ من نوع آخر يستكشف في وثيقة الموادعة هاجساً علمانياً. وثمة أصوليّ يبني حداثته الإبداعية على إنتاج الصوفيّة. وثمة من يكتشف في التراث يميناً ويساراً، ومن يجد فيه بواكير اشتراكية أو نزعات ماديّة، أو يلاحظ تكيّفه مع الرأسماليّة…
وهي طريقة في التفكير يمتلكها جزءٌ من التراث، أو تهدف إلى أن تمتلك جزءاً منه. والتراث هو تلك التراثات كلها تنفتح على التعدد والاختلاف، وتؤسّس لهويّة قوامها التنوّع والتمايز والمشاركة من داخل الوحدة، أو باتجاهها!.
***
عنوان آخر يثير الانتباه والاهتمام أيضاً هو كتاب (العقل العربيّ ومناهج التفكير الإسلامي) يستخلص، كمثل دراسات كثيرة مشابهة، أن نجاة الأمة العربية يتطلّب أن تستمسك بدينها ولسانها ومنهج تفكيرها العلميّ، لتحقيق تقدّمها في مجالين: الأوّل تطبيق الشريعة بحيث تعود الوحدة القانونية حول الدين ولسانه وأخلاقه وأهدافه فتجمع بين أفراد المجتمع، وتؤلّف بين قلوبهم. والثاني إحياء اللغة العربية الفصيحة بالعودة إلى تحفيظ القرآن الكريم من أوّل تباشير الوعي والنطق عند الأطفال حتى آخر مراحل التعلّم في الجامعات والأزهر، وهو الطريق الوحيد لاستعادتها وإحيائها…
ويجد كاتبه أحمد موسى سالم في علم الأصول، الذي أعاد الشافعي صياغته وتقنينه، الموقف الذي يتجاوز عتبة الرفض للباطل الفلسفيّ اليونانيّ إلى الرحبة الواسعة التي تقوم عليها قواعد المنهج القرآني العلميّ في التفكير، وهو المنهج الذي تعلّمت منه أوربا نفسها في فجر خروجها من عصور جاهليّتها الفلسفيّة التجريديّة الميتافيزيقية، على حدّ تعبيره!
ولذلك يجزم بأن "العقل العربي" المؤمن لا يقبل أن يتفلسف بأيّ وجهٍ من وجوه الفلسفة القديمة الحديثة، سواء أكانت هنديّة شخوصيّة عدميّة حلوليّة أم كانت أوربيّة ظنيّة عدوانيّة، مهما ألمت به الغفلات، وألحّت عليه الضلالات. وما نسبة الفلسفة إلى الإسلام إلاّ افتراء على الله وتناقضاً مع الإسلام. وقد تمّت في غيبة التدبّر لكتاب الله وتدهور النطق باللسان الذي نزل به كلام الله!
ويمكن التوقف، برأيه، عند أدّلة علميّة ومقارنات لغويّة ولمحات تاريخيّة، تؤكّد أن "العقل العربي" علميّ في برهانه، وكونيّ في رؤيته، وفطريّ في بصيرته، ويقيني في دعوته، واجتماعي في حكمته، وسلميّ في غاياته… الخ!..
العقل العربيّ إذاً –كما يرى سالم- هو العقل الإسلامي المؤمن لسانه عربي نزل به كلام الله، ومنهجه قواعد المنهج القرآني العلمي الذي تعلّمت منه أوروبا في فجر نهضتها. ويكفي تطبيق الشريعة وإحياء اللغة العربية الفصيحة لتحقيق الذات العربية المؤمنة التي لا بدّ أن ترفض الغرب حضارة وعقلاً، فلا يجوز نقل سلوك الإباحيّين بحجّة ما عندهم من العلم والتكنولوجيا إلى أرض الأخلاقيّين المسلمين المتطهّرين… وبخاصة بعد أن تسارع الانهيار إلى الحضارة الأوروبيّة المعاصرة بمجتمعها الإلحادي الشيوعيّ أو بمجتمعها العلماني الغربيّ!(19).
هكذا يكرّر الأنموذج الأصوليّ فرضيّاته، وإن اختلفت ميوله ونزعاته واتجاهاته التي تلتقي على مفهومي العودة إلى الإسلام القويم ورفض الحضارة الغربية. وسيشكّل هذان المفهومان محور تفكير الأصولية الحديثة والمعاصرة ومحور عملها أيضاً. وستكون مرجعيّتها الحقيقية أصولاً تالية للنصّ الأوّل وهوامش على الأصول، وهي جزء من التراث، لا التراث كلّه، تمثّل إسلاماً هو جزء من الإسلام الذي يشتمل على إسلامات أنتجها، وينتجها، تاريخ واقعي مشخّص، هو تاريخ بشرٍ وصراع قوى. وما الأصول وهوامشها، ذاكرةً ومرجعاً، بعامل تقبّل للتطورّات الكبرى التي تعصف بالعرب وبالمسلمين وبغيرهم في العالم، وليست بعامل تكيّفٍ وتكييف، وإن كانت مصدر قلقٍ وجاذبية لجيوب اجتماعية مختلفة، شعبيّة وغير شعبيّة، تمنحها بعض اليقين وبعض الأمل في برهة تفتقر إلى يقين وأمل!
*
إذا كان فكر "الأصول" يعنى بخطاب الأجوبة منذ مشروع النهضة الأوّل وحتى الآن فإنّ خطاباً نقدياً أو مشروع خطابٍ نقديّ، يحاول منذ بضعة عقود، أن يتناول أيديولوجية النهضة بالدراسة والنقد، ويحاول أيضاً أن يفكّك "فكّر" الثورة أو "التقدّم" بالإضافة إلى تحليل الأيديولوجيا القوميّة والأيديولوجيا الدينيّة، وسينتهي هذا النقد الإيجابي والفعّال إلى نقد العقل الإسلاميّ أو العقل العربيّ أو العقل العربيّ الإسلامي.
ويمثّل عمل الياس مرقص في كتابه (نقد الفكر القومي) مدخلاً إلى وعي الذات ونقدها، أو إلى (نقد الأمّة)(20) بالقدر الذي يشكّل نقده الماركسيّة في نسختها الستالينية والسوفياتية والعربية مدخلاً إلى تبيئة الماركسيّة وتعريبها.
وفي كتابه يعني بالفكر القومي الفكر العربي المعاصر الذي هو امتداد لأفكار روّاد النهضة العربية، من حيث قوله بالعرب أمة واحدة، والدعوة إلى إقامة وحدة عربية شاملة، واعتبار القومية العربية وجوداً جوهرياً… وينطلق من مفكّر هو فيلسوف الفكرة القومية العربية، وأكثر المؤلّفين القوميّين رواجاً، فيتناول النظريّة العامّة للحصري، كنظرية قوميّة في الإنسان والمجتمع، تؤكّد بعكس الماركسية، أن القوميّة العامل الأقوى في علاقات البشر وتسيير المجتمع، وتحدّد الأمة وعوامل تكوينّها باعتمادها عاملي اللغة والتاريخ، لأن الوطنيّة والقوميّة لا تنشأ من منفعةٍ، فالمصالح الاقتصادية نسبيّة برأيه. وفي كتابيه (ما هي القومية 1959)، و(حول القومية العربية 1961)، تحلّق القومية فوق التاريخ، فالعقل ينتج عن اللغة والمجتمع أيضاً… اللغة عامل أوّل، والتاريخ عامل ثانٍ.
ويرى مرقص أن نظرية تعادل القومية واللغة عاجزة عن طرح مسألة اللغة القومية؛ كلغةٍ لها تاريخ، وليست خارج الاقتصاد والدين والدولة… وعبر مناقشة أمثلةٍ تاريخية خاصة بدور اللغة يستخلص أن هناك عوامل أخرى لها دورها الخطير في تكوين الأمم وقيام الدولة العصرية، أوّلها الأرض التي هي العامل الأوّل في الإنتاج الاقتصادي والإطار الطبيعيّ للإنتاج وعلاقات الإنتاج. واعتراض الحصري على فكرة المصالح الاقتصادية لا تمنعه من ذكر المصلحة القومية أو العامة، وإن كانت المنفعة أو المصلحة، برأيه، نسبيّة توحّد وتفرّق. بل قد يعطي مفهوم الحياة الاقتصادية المشتركة ما لا يقصده خصومه، كمفهوم السوق التي لا تنفصل عن نمّو الصناعة وتقسيم العمل بين المناطق والمراكز الاقتصادية المشتركة والتكامل في الاقتصاد، ولا تنفصل عن الإنتاج وعلاقات الإنتاج…
وقد عني مرقص بمناقشة وقائع اتحاد ألمانيا ووقائع اتحاد إيطاليا وتناول أمثلة الانفصال وعلاقة كلّ منها بنظريّة لينين… وتوقّف عند تعريف ستالين للأمّة في أثناء مناقشة النظرية الماركسيّة في القومية التي وجدها لا تقول: إن الأمة حقيقة عارضة كما ينسب إليها خصومها الذين لا يقبلون بغير قومية أزليّة، والأزليّ عكس التاريخيّ. وما نظرية ستالين وأفكار الماركسية اللينينية إلا خلاصة تجربة أوروبا، فالحركة القومية وليدة البورجوازية، وتهدف إلى إقامة الدولة القومية، أفضل الأشكال لنموّ الرأسمالية. أمّا خطأ الحصري فيكمن في اعترافه بمضمون هذه المعادلة الواقعيّ بالنسبة لأوروبا الغربية والوسطى، تحت اسم تزامن الرأسمالية، واشتداد النزعة القومية، ونفيه بالنسبة لأوروبا الشرقية. أمّا خطأ الماركسيين العرب الذين اكتفوا بالخلاصة الستالينية، فهو أنّهم قطعوا هذا القانون عن أصوله الواقعيّة، واستخلصوا منه محاربة القومية البورجوازية… وما تاريخ أوروبا، بالدرجة الأولى، إلا تاريخ تقدّم الإنتاج وصراع علاقات الإنتاج والطبقات، فيما يتعلّق بالظاهرة القومية وهو تاريخ ظهور ونشوء ونمو وتبلور وتمايز وتكوّن القوميّات والدول القومية.
وقد تعاظم دور العامل اللغوي تدريجياً مع نمو الاقتصاد البضاعي والبورجوازية الرأسمالية. واللغة عند مرقص، ظاهرة إنسانية تاريخية. والإنسان ليس اللغة فهو عملٌ وتاريخٌ حقيقيان. ومن لا يجد في القوميّة سوى اللغة فلن يستطيع رؤية اللغة القومية!
وفي تحليله مفهوم القومية وعلاقة القومية العربية بالقوميات الأوروبية يلاحظ مرقص ارتباط الظاهرة القومية والظاهرة الاستعمارية بالظاهرة الرأسمالية؛ ففي القرن التاسع عشر استفحل الاستعمار الأوروبي، الذي هو من نتائج مبدأ القوميات وقيام الثورة الصناعيّة. والحصري يتفّق مع باحثين ومؤرّخين على تسميته بعصر القوميات، ويقيّده مرقص بأوروبا، فهو عصر الثورة البورجوازية الديمقراطية وتقدّمها السريع ونهوض الحركات القومية والدول القومية واقتحامها المتزايد للمجتمعات الآسيوية العتيقة!
يتوقّف مرقص أيضاً عند تطوّر الفكر البورجوازي وعلاقته بمفهوم الحريّة (تجارة، عمل، مدن، ضمير، فكر، شعب، أمّة)، وما قدّمته أيديولوجيّات الهرطقات الدينية والفلسفات الصاعدة والاكتشافات العلمية، بالإضافة إلى تدمير علاقات عصر الإقطاع وأيديولوجيا الإقطاع على أساس علاقات الإنتاج الجديدة. ويجد الاختلاف واضحاً بين التاريخ العربيّ والتاريخ الأوروبي، بينما ينفي الحصري أيّ اختلاف بين تاريخ الشرق وتاريخ الغرب، لأنّ الأمم عنده، فوق التاريخ وخارج الاعتبارات الاقتصادية، فالأمّة لا تتكوّن، وإنّما هي "الإطار الطبيعي" لأحداث التاريخ، والعرب أمّة واحدة، والتجزؤ غير طبيعي. وهو جوابٌ صاغه الفكر القومي، برأي مرقص، وأعلنه الإحساس الشعبي، ولا يزال له قيمة معنوية كبيرة.
ولكن قضيّة الوحدة القومية لا يلخصها أن الاستعمار المتعدّد خلّف دولاً متعددة، وأوجد نزعاتٍ وطنيّة وإقليميّة مرتبطة بها، كما يرى الحصري، بل هي قضيّة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لعصر الإمبريالية، بالإضافة إلى علاقة الحركة القومية والفكرة القومية بالاقتصاد، والاقتصاد العالميّ بخاصة. وهذا لا يعني أن القومية العربية وليدة السوق القومية أو السوق العالمية…
وليس الشعب عند الحصري سوى مقدّمة فكريّة محضة مهدّت لظهور الوعي المطلق؛ وعي الفكرة القومية في حوارٍ مع المعرفة الحقّة والموضوع الحقّ. ولا مكان عنده، للتاريخ… وليس للأمم الأوروبية، أو سواها، تاريخ موضوعيّ مادي ومستقلّ عن الفكرة، يصنع الوعي قبل أن يصنعه الوعي!
ويلاحظ مرقص أن الحصري قد اقتصر بشكل خاص، على نشوء الفكرة القومية في سوريا ولبنان، ولم يلتفت إلى أن نقطة القوّة في أيديولوجيا المناضلين المصريّين تكمن في إدراكهم خطر الاستعمار الغربيّ، وإن تجلّت نقطة الضعف عندهم في تمّسكهم بفكرة الخلافة؛ بينما أتاحت ظروف سوريا تلمّس المفهوم القوميّ المستقلّ عن الدين.
وعلى أيّة حال، فالوحدة، والوحدة فوراً، هي غاية الحصري.
والسبيل إلى تحقيقها يتلخّص في بثّ الإيمان القومي ونشر الوعي القومي والفكر القومي. ورابطة العروبة هي رابطة اللغة والتاريخ والثقافة ولا أهمية تذكر للرابطة الأفريقية والمتوسّطية والإسلاميّة، وإن كانت الإسلاميّة أهمّ وأقوى…
وقد طرأ تحوّل هام في تاريخ الحصري تقدّم فيه –بلغة مرقص-نحو الموضوع بعد أن سار في إطار (الذات) أو الوعي، وبخاصة بعد أن اصطدم بمواقف الأمميّين والإقليميّين والقوميّين الوحدويّين تجاه الوحدة السورية المصرية، وانفصل عنده الواقع عن الفكر، وعبر الوقائع اكتشف موضوع الاقتصاد!…
وينتهي مرقص إلى أن نظرية القومية العربية لا يمكن أن تنسخ النظرية الألمانية والحصري لا يمكن أن يأخذ (فخته) حتى النهاية بعد أن نفى وحدة الأصل، وأخرج عامل الدين لاستيعاب المسيحيّين والأقليّات المذهبية في الشرق العربي، ونفى عامل المشيئة ليمدّ الفكرة القومية إلى لبنان ومصر وبلدان المغرب، وتشدّد ضدّ الأرض والبيئة الجغرافية لصدّ هجوم الأقليّات القوميّة، وأخرج عامل الاقتصاد لتصادم مصالح الجماعات والأقطار العربية!
وإذا كان (فخته) الفيلسوف الألماني المثاليّ الذاتيّ الجدليّ –وبخاصة في خطبه إلى الأمة- هو الأب الروحي للحصري وللمفكرين القوميّين العرب، فإن فكره فقد آخر عناصره التقدميّة مع تحقيق الوحدتين الألمانية والإيطالية، إذ انتقلت البورجوازية من أيديولوجيا الحرية والمساواة والإخاء، ومن فلسفة العقل والتقدّم والجدل إلى أيديولوجيا الفاشيّة وفلسفة الحدس والغريزة والأسطورة.
والحصري لا يأخذ من فخته إلا اللغة، فتتحوّل الأمّة إلى جماعة اللغة. فالتاريخ يصنع اللغة نظرياً فحسب، وتصنعه اللغة نظرياً وعلمياً. أما القومية فهي الحقيقة الثابتة وما عداها متغيّر ومصطنع، وليس من مصالح اقتصادية أو طبقات أو إنتاج وعلاقات إنتاج…
تتحوّل اللغة إلى مرتبة خالق للتاريخ. أما الفكر فهو خالق الواقع، والشعب مقدّمة فكريّة محضة مهدّت لظهور الوعي المطلق. وما الفكر الخالص، كما يرى مرقص، إلا أحد مخلّفات البورجوازية الأوروبية، وليس أفضلها، إذ أصرّ على إنقاذ مبدأ استقلال الفكرة القومية عن الرأسمالية والاستعمار!
نظرية الحصري في استنتاجات مرقص، مثاليّة وانتقائيّة، فوعي البشر عنده هو الذي يقرّر وجودهم؛ تطوّره مستقلّ عن الممارسة، وليس انعكاساً للواقع، ومفهومه للتاريخ ضدّ المفهوم الجدليّ، يتحوّل عبره صراع القوى والطبقات وعلاقات الإنتاج إلى صراع نزعات وأفكار. أمّا منهجه فهو منهج ميتافيزيقي في حدود المنطق الصوريّ والسوسيولوجيا الشكليّة.
ولكن الوجه الإيجابي الكبير –برأي مرقص- للفكر القوميّ العربي هو إدراكه خطر التجزئة القومية، وإن تهرّب من مفهوم الصراع، صراع الطبقات والنّظم والدول… والقومية عند مرقص جزء طبيعي وأساسي من الثورة البورجوازية وأيديولوجيا عصرها التاريخي، غير أن الضلال يبدأ مع الانتقال من الواقع والتمايز إلى التفوّق والعرقية… أمّا الوحدة العربية فهي المسألة المركزيّة في الثورة العربية المعاصرة التي تهدف إلى إنشاء دولة العرب القومية… بل إن الوحدة هي شرط التقدّم!
ويستخلص من تجربة الوحدة السورية المصرية دور العامل الذاتي، فالوحدة التي تفتقر إلى قسط من شروطها الموضوعية (الاقتصاد، التكامل الاقتصادي، وجود مراكز صناعيّة وافية… وربّما الاتصال الجغرافيّ) تحتاج إلى أقصى ما يمكن من الوعي… الوعي والتنظيم!
وترتقي المسألة النقديّة عند مرقص إلى مسألة نقد الذات، أي نقد الأمة، الذي يؤسّس على مفهوم الديمقراطية، فدون الديمقراطية لا مكان لأمّة حديثة أو لوحدة قوميّة، ولا بد أن يؤسِّس مفهوم الديمقراطية على مفهومي العقلانية والتقدّم!
ولذلك استطاع أن يقترح خطاباً قوميّاً مختلفاً من داخل نقد مختلف!(21).
*
بعد بضعة عشر عاماً من كتاب (نقد الفكر القوميّ) ينشر ياسين الحافظ مؤلّفه (الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة) الذي كتبت موضوعاته في فترة زمنيّة غير قصيرة، ويحدّد موضوعه الأول، وهو الهزيمة الكبرى التي عانتها، وتعانيها الأمّة العربيّة منذ وعد بلفور حتى اليوم. أما موضوعه الثاني فهو نقد الهزيمة نقداً معمّقاً ينطلق من نقد السياسة إلى نقد المجتمع(22).
ويؤكّد في أكثر من موضع على إطلاق عمليّة نقد ذاتي تخترق المجتمع العربيّ، لا السطح السياسيّ فقط، طولاً وعرضاً وعمقاً، بلا خوفٍ، وبلا مراعاة، وبلا تشفٍّ أيضاً.
وفي أثناء تحليله هزيمة حزيران، جذورها وأسبابها ونتائجها، يلاحظ أنّها كانت عاملاً في ولادة أدب سياسي نقديّ يتحدّث عن النتائج كأسباب فقد كان للواقع العربيّ فكره الذي أثبت "جدارة" في طمس الهزيمة وإظهارها كحدث استثنائي لا عقلانيّ، وإعادة الاعتبار للواقع العربي المفوّت، ولا بدّ أن ينظر إليها كنتيجة متوقعة وكحصيلة عقلانيّة بين جماعات مفوّتة ومجتمع حديث!
ويوجّه نقده إلى اتجاهات فكريّة ثلاثة: القوماوي العربيّ التقليدي وشبه التقليدي والماركسيّ العربيّ المسفيت والمستحدث الفدائيّ، والتعابير من نحت "الحافظ"!
وكان قد علّل تنامي "سلطة الأيديولوجيا التقليدويّة بتهافت وإخفاق الأيديولوجيا والحركة القوميّتين العربيّتين، بالإضافة إلى تهافت وإخفاق الأيديولوجيا الماركسيّة والمؤسّسية العربية والمُسفيتة. ولا بدّ للنخبة السياسية العربية بخاصة، وللأنتلجنتسيا العربية بعامّة، أن تفهم، وأن تعترف، بأن ليس وعيها التقليدي هو المهزوم فحسب… بل المجتمع العربيّ؛ برمّته، في بناه القائمة هو المهزوم….
وكان قد أشار في كتابه (اللاعقلانية في السياسة) إلى أن التأخر العربي جعل العقل العربي وكأنّه برميل بلا قعر، لا يجمع، ولا يراكم، ومع كلّ صباح نبدأ تجربةً جديدة، وننسى تجربة البارحة، ولا نفكّر باحتمالات الغد.
وهو يرى أن طريق شعبنا العربي ليس تكراراً لطريق التطوّر البورجوازي الغربي، بل إن البورجوازية الوطنية بقيت إلى حدٍّ كبير جزءاً من المجتمع التقليدي، فلم نحطّم بناه أو هياكله، كما أن البورجوازية الصغيرة القوماوية المتأخرة لم تكن أوفر حظاً منها، مما يستدعي الحداثة الأيديولوجية، لا الحداثة التكنولوجيّة التي تقبل بها، وتعجز عنها، البدواة البتروليّة والشرائح البورجوازية الصغيرة التقليدويّة! نقطة البداية، إذاً، هي تحديث وعقلنة وكوننة وعي الأنتلجنتسيا كمقدّمة لا بدّ منها في تعميق وتجذير نقدنا، انطلاقاً من نقد الأنظمة إلى نقد المجتمع بعمارته كاملةً. والوعي النقدي هو وحده القادر على التغلغل إلى جذور الأيديولوجية العربية، بفرعيها التقليدويّ والتقليدويّ الجديد، ودحضها، وتفنيدها، على حدّ تعبيره.
وكان قد تساءل في سيرته الذاتية عمّا يبقى من الأنتجلنتسيا في بلد متأخّر إذا تخلّت عن وظيفتها النقديّة، وعمّا يمكن لشعب، كالشعب العربيّ أن يفعله في هذه الحالة. وكان قد أشار، بكلّ تواضع أيضاً، إلى أن عبد الله العروي ساعده في وعي البعد التاريخي للواقع، وشدّ نظره إلى دور الأيديولوجية السلفيّة في عرقلة التقدّم، وطرح التاريخانيّة كمنظور وحيدٍ للتقدّم، وبخاصة في مواجهة فكر عربي سائد، معتقديّ، إيمانيّ، ينطلق من عقليّة إيمانويّة، بينما العقلانية تتطلّب المطابقة. والوعي المطابق عنده هو وعيّ كوني في مستواه الأوّل وحديث في مستواه الثاني وتاريخيّ في مستواه الثالث. وهو البديل للوعي الماضويّ الامتثالي المعتقديّ في مواجهة التأخر والفوات، الذي يمكن أن يطلق عملية الانصهار القوميّ من داخل قوى جذرية حقّة…
إن مفهومات مثل الوعي المطابق والتاريخانية والعلمية والديمقراطية والحداثة والأيديولوجية الحديثة مفاتيح رئيسة في تجربة الحافظ النقدية، يفكّك بوساطتها الأيديولوجيا السلفيّة السائدة: سلفيّةً قوميةً أو سلفيّةً دينية… ويستكشف مهمّة أنتلجنتسيا قابلة للتكوين! ويمارس نقداً علمياً علمانياً للوعي القوميّ في مواجهة خطاب حداثوي مُترثن لم ينتج سوى وظيفة واحدة هي شرعنة الفوات الحضاري، وتحديث التأخّر، إذا استعرنا عبارة د. عبدا لرزاق عيد في خاتمة كتابه (نقد حداثة التأخّر)(23).
قد يستدعي عنوان (الهزيمة، والأيديولوجيا المهزومة) عنوان كتاب آخر هو كتاب (النقد الذاتيّ بعد الهزيمة) أصدره د. صادق جلال العظم بعد عامين منها. وفي مقدّمته يرجو أن يكون التفكير العربي قد وصل إلى مرحلةٍ تجاوز فيها اعتبار النقد عملية تجريح أو تعداد لعيوب ومثالب لا تنتهي، أي أن يكون قد حقّق مستوى يعتبر على أساسه النقد هو التحليل الدقيق بغية تحديد مواطن الضعف وأسباب العجز والمؤثرّات المؤدّية إلى وجوه العيوب والنقائص. وكلّ نقدٍ يلتزم بهذا المفهوم الذي أشار إليه هو نقد هادف في تدرّجه، إيجابيّ في حصيلته، على حدّ تعبيره، مهما بدا سلبياً وقاسياً…(24).
إنه لا ينتظر إذاً من النقد أن يكون مختلفاً ومضاداً، يفتح أفضيّة محرّمة، أو يدمّر أجوبة جاهزة، أو ينتج أسئلة تؤسِّس لتفكير وعملٍ مختلفين، ولذلك كانت مناقشته الشيّقة للهزيمة جزءاً من مناقشة شائعة في تلك الفترة، والتي تضمنت تفسيرات متعددة كالأنموذج الذي يستعين بوهم السيطرة الصهيونية على الاقتصاد الأمريكي أو يتصوّر أن الحركة الصهيونية تابعة لأمريكا، أو مسيطرة عليها، أو الأنموذج الذي يتصوّر أن دعم الدول الاستعمارية الجديدة لإسرائيل يتناسب طرداً مع حجم المصالح الاستعمارية في الوطن العربي، وهي تفصح عن تفسير يزيح المسؤولية عن النفس ويسقطها على الغير، كما يرتبط بعوامل تدخل في بنيان المجتمع العربي، وتمثّلها خصائص الشخصية الاجتماعية التي تربيّها البيئة العربية المتوارثة. ولذلك يربط ظاهرة المنطق التبريري بما يطلق عليه د. حامد عمار الشخصيّة الفهلوية التي تبرز على صورة أنماط من السلوك يغلب عليها الاستخفاف بالغير وتأكيد الذات والشعور الحقيقي بالنقص ونزعة التقليد…
ولا ينسى د. العظم سلبيّات الإتباع والتقليد ودور التخلّف العربي وأهميّة إنتاج العنصر البشريّ الذي يتفاعل مع مقوّمات الحضارة الصناعية الحديثة، بعد أن يعلّق على ما قيل حول أهميّة العلم الحديث والبحث العلمي والتطبيق التكنولوجيّ بالنسبة للدول العربية الأكثر تقدّماً وتقدميّة!
وينبّه إلى عامل، قد يكون مهمّاً برأيه في تلك المرحلة، هو أن الثورة العربيّة لم تعلن بعد بصورةٍ صريحة ورسمية وواضحة عن علميّة اشتراكيّتها وعلمانيّتها، فالتردّد يسود أوساطها حول هذا الموضوع بخلاف الثورات الاشتراكية!
وما الذي قد يفعله إعلانٌ عن علميّة اشتراكيّة وعلمانيّتها، أو الإعلان عن علميّة أيّ شعار وعلمانيته من قبل، أو من بعد، أو الآن!
إن نقد الأيديولوجيا العربية بتظاهراتها المختلفة دينيّةً وقوميّةً، وماركسيةً سيكون موضوع خطاب عربيّ معاصر بعد هزيمة قومية لم تتأخّر كثيراً، وبعد ثورةٍ عربية لم تتأخّر كثيراً فحسب، وإنما صاحب تأخرّها تآكل الثورة وقواها، وانفجار الحداثة، في عالم يشرط التفاؤل التاريخيّ بمراجعةٍ نقدية ونقدية ذاتية أكثر!
وقد سبق نقدُ الفكر القومي الهزيمة، وتزامن معها، وتلاها، أمّا نقد الفكر الديني على نحو أكثر وضوحاً فسيحفزه نقد الفكر القومي، وسيتجاوز نقد السياسة مع نقد الدين ويتفاعلان ويترابطان إلى هذا الحدّ أو ذاك…
في كتابه (نقد الفكر الدينيّ) يقدّم د. صادق جلال العظم مجموعة أبحاثٍ تتصدّى على ما يرجو، بالنقد العلميّ والمناقشة العلمانية والمراجعة العصرية لبعض نواحي الفكر الديني(25) ويصدّرها بعبارة لياسين الحافظ حول وجوب نقد جميع جوانب المجتمع العربي الراهن وتقاليده نقداً علمياً علمانياً كواجبٍ أساسيّ من واجبات الطليعة الاشتراكية الثورية في الوطن العربي، ومنهجه هو التوجّه المباشر إلى الإنتاج الفكريّ الذي يشرح الأيديولوجية الغيبيّة، وينظّر لها، ويدافع عنها، بعد أن انحصر معظم النقد في هذا المجال، إثر هزيمة حزيران بتعميمات تندّد بالذهنيّة الغيبيّة الاتكاليّة التي أحيط تفكيرها بالقداسة، ووضع خارج النقد العلمي للظواهر، كما يقول.
لا يقصد د.العظم بالدّين ظاهرةً روحيّة ونقيّة وخالصة، ولا ظاهرة التسليم البسيط الساذج، وإنّما مجموعة معتقداتٍ وتشريعاتٍ وشعائر وطقوس تحيط بالإنسان. ولكنّه يعتبر الأيديولوجية الدينية بمستوييها الواعي والمعنويّ سلاحاً من أسلحة الرجعيّة وتعبيراً عن بنياتٍ طبقيّة خاضعة للتحوّل الاجتماعي.
وفي سياق إشارته إلى بحث وليم جيمس (حريّة الاعتقاد) يناقش مشكلّة عامّة فكريّة وثقافيّة هي النزاع بين العلم والدين، فيجد أن فترة تتجاوز القرنين ونصف القرن قد مرّت على أوروبا قبل أن يتمكن العلم من الانتصار على العقلية الدينية السائدة، ومعركة العلم في البلدان النامية، ومنها الوطن العربي، تماثل معركة العلم مع الدين في أوروبا....
ويرى أن النظرة الدينية تعتبر الحقائق، كلّها، كُشفت في نقطة معيّنة وحاسمةٍ من التاريخ، فتوجّه أنظار المؤمنين إلى الماضي، بينما الروح العلميّة تجعل من الاكتشاف نشاطاً حركيّاً يتخطّى دائماً منجزاته.... وقد تراجع الدين، كبديلٍ خياليٍ عن العلم في تفسير الأحداث، أمام الضعف المتزايد للثقافة العلميّة وضرورة التكيّف مع موجات العلمنة والتقدّم! وإذا كان الإله قد مات في أوروبا تحت تأثير المعرفة العلميّة، فإن احتضاره في المجتمعات المتخلّفة تمثيلٌ رمزيّ لحالة الثورة وفقدان الجذور التي تعانيها، فتصطنع نوعاً من التعايش بين الفكر العلمي وتطبيقاته مع التراث الدينيّ السحيق.
ويؤكد إخفاق الموقف التوفيقيّ بين العقل والإيمان، لأن المعتقدات الدينية نظام متماسك، إمّا أن يُقبَل كلّه، أو يتم التنازل عنه لمصلحة العلم. ولابدّ أن يتميّز موقف المثقف ثقافةً علمية من الدين من موقف المثقف ثقافة دينية من العلم.
ويتناول مواقف توفيقية يقيمها رجال الدين الإسلامي بين العلم بمناهجه والدين، بعضها تبريريّ وبعضها الآخر تعسّفيّ، وبعضها مجامل وبعضها الآخر منغلق، وبعضها تقليدي وبعضها الآخر منفتح...
وكان قد وجد في اقتراح وليم جيمس في بحثه (حرية الاعتقاد) حداً ملائماً، المبدأ العام فيه مفاده أنه لا يجوز أن نتقبّل أو أن نرفض رأياً من الآراء مالم تتوافر الأدلّة والشواهد الكافية على صدقه أو كذبه، أمّا في الحالات الشاذة فيحق للإنسان أن يعتقد بصدق قضيّة على الرغم من نقص الأدلّة، ومنها الاعتقاد الديني أو الإيمان بوجود الله...
ويصرّح د.العظم برغبته في تحرير الشعور الدينيّ، لا نَسْخَه، ليزدهر، ويعبّر عن نفسه، بطريقةٍ تناسب أوضاع حضارة القرن العشرين، فقد يتمثّل الشعور الديني بموقف الفنّان من الجمال، والعالم من البحث عن الحقيقة، والمناضل من الغايات التي يعمل لتحقيقها. ولكنّه يلاحظ موقف رجال الدين الإسلامي الذي يضفي الشرعيّة على النظام السياسي والاجتماعي الذي يرتبط به سواء أأعلنت الدولة سياسة ثوريّة تحريرية أم سياسةً رجعيةً متخلفة. والإسلام، برأيه، هو الأيديولوجية الرسميّة للقوى الرجعية المتخلفة في الوطن العربي، والمرتبطة بالاستعمار، كما هو حليف التنظيم الإقطاعي للعلاقات الاجتماعية....(26).
يغلب على هذا البحث الذي توقّفنا معه: (الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني) حماسٌ علميّ وعلمانيّ، يتجاهل أن الإسلام التاريخي هو أكثر من إسلامٍ، تجاور فيه إيمانٌ وإلحادٌ وكلامٌ وتصوّف وفلسفة وفقة وظاهر وباطن وفرق وملل وتعصّب وتسامح... ويعكس الآن مستويات شعبية ورسميّة وشبه رسميّة وجمعيّة وفرديّة. ولم يكن من حيث بنيته الفكرية رجعياً أو تقدمياً، عقلانياً أو غير عقلاني، اشتراكياً أو رأسمالياً... كما أن العقل العلمي الحديث والثقافة العلمية الحديثة لا يدعوان إلى إيمان أو إلحاد وقد يفترض شرطهما الاجتماعي مصالحةً بين العلم وإيمان مّا، على المستوى الشخصيّ... وقد تتطلّب روحُ كفاحٍ ما تحالفاً مشتركاً بينهما......
*
بعد أكثر من عقدين من صدور (نقد الفكر الديني) يدعو كتاب (يثرب الجديدة، الحركات الإسلامية الراهنة) إلى حوار علمانيّ ـ إسلامي يتخطّى الفهمين "العلمانوي" و"التكفيري" للعلمانيّة، باتجاه علمنةٍ جديدةٍ، يعتبرها المخرج من التناقض الراهن بين الدولة المستبدة’ والتيّارات الفقهية الجديدة، ويفترض أن علمانية جديدة لا يمكن أن تتمّ إلا من ذاتيّة الأمة ونفي الوصاية "العلمانويّة"، أو "الإسلامانويّة"، النخبويّة، ما دامت الحداثة قضيّة من قضايا الهويّة......الخ. ويتساءل محمد جمال باروت عن إمكانية فهم علماني للإسلام يخدم إنتاج ما تصحّ تسميته بنظريّة علمانية إسلامية وعن نوعيّة العلاقة في هذه الحالة بين الإسلام والمجتمع المدنيّ، وينظر إلى الصراع في إطار المجتمع المدني الديمقراطيّ كمهمّة ملحّة وراهنة يُنْتَظر تحقيقها.
ويميّز في الإسلام السياسي ثلاثة مستوياتً: الشعبيّ والرسميّ والسياسيّ: كما يميز خطابين أحدهما (إخواني) معتدل والآخر (جهاديّ) مفترض. ويرى من منظور سوسيولوجي أن ظاهرة الإخوان المسلمين من أبرز الظواهر الأيديولوجيّة السياسيّة المعقّدة للفئات المدينيّة الوسطى بشرائحها المختلفة؛ فهي ظاهرة "مدينيّة" في جوهرها، أنتجتها مدنٌ تقليديّة، اهتزّت توازناتها الاجتماعية، بل هي نتاج "كارثي" لمجتمع أخفقت أيديولوجيّته التقدميّة في علمنةٍ وعقلنة وعيه. ويرصد تحوّل جماعة الإخوان المسلمين من نظرية (تطبيق الشريعة) إلى (نظرية الحاكميّة لله)، كخطابين علاقتهما مقطوعة، بعد أن كان الخطاب الإخواني في تجربة كتجربة (مصطفى السباعي) لايفصل بين الدين والدنيا، فلسفته القوميّة هي الإسلام بمفهومه الواسع وفلسفته الشاملة للحياة، وطبيعة التشريع فيه لا تختلف عن الطبيعة العلمانية للتشريع المدنيّ، تضع مبادئه القوانين على أساس مصلحة الناس وكرامتهم، لتحقيق المصلحة والعدالة الاجتماعية.
وينتبه باروت إلى تداخل طبقيّ اجتماعي بين الإخوانية والناصرية، إذ انقلبت الناصرية ساداتيةً والإخوانية جهاديةً. وانتهت مدرسةً كمدرسة السباعي الإخوانيّة الشعبويّة التعدّدية، والمنتمية للفئات الوسطى، والتي قالت باشتراكية إسلامية تعادل الاشتراكية العربية، انتهت إلى إنتاج أكثر الإسلاميين تعصّباً وإلى فهم موحد عند الجهاديّة...
وكان قد لاحظ الانتقال من تكفير الدولة إلى تكفير الأمّة عند (سيّد قطب) وتحوّل دار الإسلام إلى دار حرب بعكس (الهضيبي) الذي يرى أن (الحاكمية) لا ترد في أيّة آيّةٍ من الذكر الحكيم. كما لاحظ أن الحركة الدينيّة الإخوانيّة في تونس ستتحوّل إلى حركةٍ نهضويّة مندمجة في المجتمع التونسي، وتستعير خطابها الإخواني من المشرق في مواجهة نموذج شعبوي تحديثي كاريزمي مضادّ للهويّة الثقافية العربية الإسلامية، وعلى نحو يدفع (الغنوشي) إلى تبنّي حوارٍ علماني إسلامي.
سيتم التراجع إذاً من نظام إصلاحيّ إلى نظام إخوانيّ إلى نظام جهاديّ ويرى الخطاب الأصوليّ علاقة الإسلام بالمجتمع عبر الدولة في حين يراها الخطاب الإسلامي عبر الفرد. (28).
ولكن! إلى أي مدى يؤهل الواقع القوى المختلفة ويؤهبّها لحوارٍ علمانيٍ إسلامي؟ وأيّة علمنةٍ "جديدة" يمكن أن يقترحها هذا الحوار؟
أهو النظر إلى المشكلات المتعلّقة بالدين ـ كما يرى د.فؤادزكريا ـ كما لو كانت خارج نطاق الزمن... ومخاطبة إنسان القرن الحادي والعشرين الذي يتقرّب منّا بأسرع مما نتصوّر، بأسلوب القرن السابع أو الثامن، ولن تكون هي أفضل السبل إلى عقل ذلك الإنسان....
إن فكرة الحاكميّة، بصيغها المتعدّدة، هي النقيض المباشر للنزعة الإنسانيّة في التراث الفلسفي.... ولذلك يصل موقف الحركات الدينيّة المعاصرة من كلّ نزعة إنسانيّة إلى حدّ العداء الصريح....(29).
أمّا د.نصر حامد أبو زيد فيفكّك الخطاب الديني على نحو يرى فيه أن النّصوص الثانوية في تاريخ الثقافة العربية تحوّلت إلى نصوصٍ أصليّة؛ أي تحوّلت، بفعل عوامل ومحدّدات اجتماعيّة تاريخيّة إلى نصوص تمثّل إطاراً مرجعياً في ذاتها....
وينبّه إلى أن الخطاب الديني يحتمي بالتراث، ويحوّله إلى "ساتر" للدفاع عن أفكاره هو ذات الطابع التقليدي، الذي يميل إلى إبقاء الوضع على ماهو عليه، وذلك في تعارض تام مع ادعاءاته السياسية. وسيلاحظ أن سيطرة اتجاه فكري بعينه على باقي التيّارات الفكريّة الأخرى لا يعني أن هذا التيار قد امتلك "الحقيقة" وسيطر بها....
وكان قد أشار إلى أنّه في مجال علم "تحليل الخطاب" الذي هو مجال انشغال بحثه ثمّة تفرقة بين "النصّ الأصليّ" و"النص الثانويّ"، فالنص الأصلي في حالة التراث الإسلامي هو القرآن الكريم، باعتباره النصّ الذي يمثل الواقعة الأولى في منظومةٍ نمت، وتراكمت حوله. والنصوص الثانوية تبدأ بالنصّ الثاني، وهو نصّ السنة النبويّة الشريفة، وإن كانت السنّة نصاً ثانياً ثانوياً، فإن اتجاهات الأجيال المتعاقبة من العلماء والفقهاء، والمفسّرين، تُعدَّ نصوصاً
ثانوية أخرى، من حيث هي شروح وتعليقات على النصّ الأوّل أو النصّ الثاني.....(30).
وكيف يتقبّل فكرٌ "أصوليٌّ" علماً ذا مرجعيّة غربيّةٍ، أداة التحليل فيه أداة دنيويّة مستعارة تواجه بالتحليل نصّاً مقدسّاً هو كتاب الله، ونصوصاً تاليةً اكتسبت صفة القداسة في المستوى الإسلامي الرسميّ وغير الرسميّ؟
يميّز د.محمد أركون أيضاً الخطاب النبويّ من الخطاب التنويريّ كخطابين تدشينيّين ولدّا تاريخاً جديداً، ولكنّهما متقطّعان من حيث الزمن، ومتنافسان ومتداخلان. ويربط بين فتح العمليات العقليّة المغلقة منذ زمن طويل وفَتْحٍ ورشةٍ كبيرةٍ عن الدراسات القرآنيّة. ولكنّه يعلن دهشته من وضع نصر حامد أبو زيد الذي نشر دراسةً متواضعةً عن القراءة الألسنيّة للقرآن، فراحوا يلاحقونه في المحاكم. ويخلص إلى أنّ هذا الأمر لا يشجّع إطلاقاً على الانخراط في هذه البحوث المرغوبة من قبل المفكرّين الأحرار!
وسيفترض أن ظاهرة العولمة أخذت تقلب جميع التراثات الثقافية والدينيّة والفلسفيّة والقانونيّة التي عرفتها البشرية حتى الآن، بما فيها تراث الحداثة المتولّدة، من قبل التنوير، فهذه الحداثة، على الرغم من تفوّقها وأهمّيتها، لن تنجو من عملية القلب والتغيير... الخ.
وهل الأصولية إذاً، مدعوة لمراجعة نفسها، ونقدها، لتتأقلم، مع العولمة؟ وهل تحرّضنا العولمة على حوار مختلف، فيستبعد آليّات قمعية، ويُعْتَرف بحق الحرية والبحث عن الحقيقة؟ وهل ننتظر "رضّة" أخرى أو "صدمة" ثانية؟
من جهة أخرى يفترض د.طيّب تيزيني أنه يصحّ النظر إلى كلّ نصّ على أنّه نصّ أصيل كائناً ماكانت صيغه ومستوياته وآفاقه. فالأصالة، برأيه،هي ضبط منطقيّ اصطلاحي في حدود انتماءاته الضروريّة لعصره داخلاً وخارجاً، ولتاريخه ولتراثه... أي أنه لا سبيل للتشكيك في أنّه ـ أي النصّ ـ ينتمي لوضعيّة اجتماعيّة مشخّصة. وإذا كان كلّ نصٌّ "أصيلٌ" فما مدى "أصالة" تلك الشروح والشروح الفرعيّة وشروح الشروح التي اقترحتها مذاهبٌ وفرقٌ وملل عبر تطوّرات تاريخية مختلفة، وتمثّل وضعيّات اجتماعية مشخّصة؟..
وإذا كان الفكر الإسلامي قد توضّع بأشكال وصيغٍ متعدّدة ومطردّة في التنوّع والتباين، فهل يكفي تواصله مع النصّ الأصليّ وتأصّله لتعترف فرقٌ ومذاهب كثيرة بحقّ كل منها في اختياراته وبحثها، وإن اكتفى د.تيزيني بالإشارة إلى خمسة مستويات ذات علاقة بهذه الأشكال والصيغ هي المستوى الشعبيّ والمستوى الرسميّ (السلطوي) والمستوى النظري والمستوى الفردي والمستوى الإثنيّ.....
النصّ القرآني الحديثي، عنده، أصل، والفكر الإسلاميّ فرع، والقرآن والحديث نصٌ مفتوحٌ، في وحدته يكمن الاختلاف. ويعتبر أن الفكرة المحوريّة والناظمة التي يقف الفكر السلفويّ الأصوليّ دهشاً وقلقاً وحائراً أمامها تبرز في الفكر الإسلاميّ يقوم على علاقةٍ مع الوضعيّات الاجتماعية المشخّصة له، والمخترقة لعلميّة تكوّنه ولاتجاهاته ولآفاقه ولمصائره قبل أن يكون على علاقة مع النصّ الإسلاميّ الأصليّ: القرآن والحديث والسّنة عموماً!(32).
إنّ أيّ فكرٍ، إسلامي أو غير إسلامي، تنتجه وضعيّة اجتماعية مشخّصة، بتعبير د.تيزيني، ولكن الفكر الأصوليّ ينظر إلى القرآن الكريم ككتابٍ منزل، أحكمت آياته، ولكلّ زمان، ولكل مكان، فهو خارج أية وضعيّة اجتماعيّة مشخصة في تحوّلاتها وتطوّراتها التي أنتجت نصوصاً ثانوية كثيرة، وتنتجها وقُدّست، وتُقدّس من قبل هذه الجماعة أو تلك التي تشرطها وضعيّة اجتماعيّة مشخّصة...
إن للأصوليّة مطلقاتها ومقدّساتها التي تتعالى على الواقع والتاريخ والاجتماع والشعوب والأمم!
يقرّر د.عزيز العظمة أن صعود الخطاب الديني في الحياة أمر لم يحدث إلا مؤخّراً، وبصورة انقلابٍ على مسار التاريخ الذي كانت سمته الفكرية والثقافية الأساسية هي التحديث خارج الهاجس الديني.
ويعلّق على قضية نصر حامد أبو زيد فيرى أن المدافعين عنه بدعوى أنّه مسلم، وليس بكافرٍ، إنّما يسندون عضد مخالفيه وخصومه. فالدفاع ينبغي أن يكون موجّهاً نحو الحريّات العامة والتعبير الديمقراطي عن الرأي والتأكيد على حريّة الإيمان، بما يمنع الإنسان من تحديد ماهو مسموح وماهو غير مشروع من الكلام....
المشروع الاجتماعي للإسلاميّين ـ على حدّ تعبيره ـ يقوم على محاولة إنتاج علاقة اجتماعيّة وأسريّة يكمن فيها سرّ هزائمنا، ومشروعهم الثقافيّ يقوم على التجهيل باسم ماض أصيل يمهّد إلى إخلاء المجتمع من الفكر الجديّ، وجعله مفتوحاً للاستباحة السياسيّة من قبل الإسلام السياسي...
أمّا أسلّمة المعرفة فتقوم على نَبْذْ فكرة الحداثة واستثناء الخطاب العلمانيّ بأشكالهِ من معرفة دنيا المسلمين.
وسيختار د. العظمة ـ كغيره ـ ومع غيره من دعاة الحداثة ـ العلمانيّة عنواناً واحداً للوعي الذاتيّ الذي ينتمي إلى النهضة. ولا خيار عداها إلا الدولة الدينية. وصنوها المخلص ـ وفقاً لتعبيره ـ أي الطائفيّة والسياسات الأخرى القائمة على العصبيّة التي تزيل آخر عناصر المناعة السياسية. وإن كان بعض دعاة الحداثة ينظر إلى قضية العلمانية في الحياة العربية كقضيّة زائفة!
وهو يتساءل عن معنى المصالحة التاريخيّة مع الإسلاميّيين كرافعةٍ سياسية واجتماعية في إطار مشروع حضاري شامل!
هل يحقّق المصالحة حوار علماني إسلامي أو أسلامي علماني؟
وكيف يكون الانتقال من موقف تكفير الآخر إلى الاعتراف بحقِّه في التفكير والتعبير أيضاً؟
قبل ثلاثة عقود كان قد أشار د.نديم البيطار في كتابه (من النكسة إلى الثورة) إلى أن الفكر الاجتماعي والسيكولوجي الحديث يقدّم التفاسير الاجتماعية والسيكولوجية والاقتصادية والعلمية منذ ثلاثة قرون في تفسير ظهور الدين. ولكنّ عندما يقوم كاتبٌ عربيّ فيقدّم تفسيراً معيّناً من هذه التفاسير تقوم عليه القيامة....
ولذلك فإن إزالة التصوّر الأيديولوجي التقليدي أصعب ما يواجهه الفكر الثوري، بلغة تلك الأيّام!(34).
ويلفت د.محمد أركون الانتباه إلى مسألة التأخّر الذي يعاني منه الفكر الإسلامي بسبب ضغط الرقابة الأيديولوجية الصارمة والمعمّمة على كافّة الفئات الاجتماعيّة وعلى مستويات الثقافة في البلدان العربية الإسلامية... وينبغي، برأيه، تجاوز المفهوم التقليدي للاجتهاد والممارسة العقليّة المرتبطة به، عن طريق النقد والنقد الحديث للعقل...(35).
وينتبه جورج طرابيشي إلى معالجة مختلفة لموضوع الدين في الحياة العربية، فيعتبر أن مهمّة ثورةٍ لاهوتية لا تزال مطروحة على جدول أعمال العقل العربي، ويزيد ضرورتها إلحاحاً ما يشهده العالم العربيّ من صحوةٍ أو رّدّةٍ أصوليّة لما يسمّى بالأصوليّة التي يراها محض مرادفٍ لتسييس العقيدة القويمة. ويستنتج أنه إذا امتنع العقل الدينيّ، وطال امتناعه عن الاشتغال، فلا مناص أن يقوم العقل الفلسفي مقامه، فيمارس فعاليّته، أوّل ما يمارس كعقلٍ لاهوتي. بل يذهب إلى أكثر من ذلك، فيرى أنه في ظل غياب لاهوتٍ إسلاميّ لن ترى النور فلسفة عربية، وبخاصة في سياقٍ ثقافيٍّ لا يزال الدين يمثّل عقل كلّ المجتمع فيه.....(36).
الخطاب النقدي، بميوله المختلفة والمتعدّدة، يتوقّف عند موضوع الفكر الديني أو العقل الديني أو العقلية الدينية، ويتأمّل ظاهرة "الأصول" كجزء من ذاكرةٍ جماعة يغلب على حاضرها حضور الماضي الذي يرتبط بالدين، ويعبّر عن مستويات من التدّين معلنةً ومضمرةً، تشرطها أوضاعٌ تاريخيّة واجتماعية لمذاهب وفرق وملل توفّق بين ماضيها وحاضرها، إذ اصطدمت بحداثةٍ لا تنتجها، ولا تشارك في إنتاجها، ولا تستطيع أن تحيا خارجها، كما لا تستطيع أن تنجز مشروع "ذاتها" من داخلها حتى الآن!
ويستمرّ صراعُ نخبةٍ وشبه نخبة، ينتجها شبه مجتمع، في مستوى الكلام، ويعلن "الأصوليّ" وغيرُ الأصولي انتماء تفكيره وطريقة تفكيره إلى العقل، أو إلى "عقل" ما، وما يراه الخطاب النقديّ ضغوطاً ميتافيزيقية ينظر إليه خطابُ الأصول كمطلقات مقدّسة أو شبه مقدّسة بمعنى ما...
والواقع والتاريخ لا يُعْنى بصراع في مستوى الكلام، ولا يتحول إلى فعل، بل يبقى في حدود اللّغو، والتغيّر الكبير الذي تتفجر به حداثة تاريخ هي حداثة الواقع ستدفع إلى الانتحار أو الموت تلك القوى التي لم تستطع أن تكيِّف الواقع، ولم تتكيّف معه، ولم تستطع أن تنجز تاريخها الخاص بالقدر الذي ينجزها تاريخها.
*
كيف يتدرّب الخطاب على النقد، وينتج ذاته، ويؤسس لمشروع مجتمع ومشروع أمّة؟ يرفع شعار النقد، ويتصالح مع "اللانقد" أم يتحوّل بالنقد إلى فعل؟ يلاحظ د.هشام شرابي أن أنماط الفكر الأبويّ المستحدث، إصلاحيّة وعلمانية وقومية ويسارية، وصلت في أواخر الستينات إلى طريق مسدود. ولم يعد هذا الفكر قادراً أيضاً على حلّ التناقض الناتج عن التصادم بين الحداثة والأصالة أو على مواجهة الصراع الداخلي، أو الضغوط الدولية السياسية الخارجية. وقد ارتدّ إلى الدين للدفاع عن نفسه، فالعقائد العلمانية إصلاحية وليبرالية واشتراكية لم تتمكّن من مدّ جذورها عميقاً في تربة الأبويّة المُسْتَحدثة!
ويتساءل عن إمكانيّة قيام نقدٍ أصيل، وعن جدوى نقدٍ، على غرار النقد التفكيكي، لغته النقديّة غريبةً بالمعنى الحرفي وبالمدلول المجازيّ، ونمط خطابها يستمدّ روحه من إحدى اللغتين الإنجليزية أو الفرنسية. ولكنه يتفاءل به كخطاب يهدّد بنسف تصوّرات الخطاب السلفيّ، وبتغيير الخطاب الأبويّ المستحدث....(37).
يفترض خطابنا النقدي، الذي يهدف إلى أن يكون حديثاً، امتلاكه القدرة على أن يكون نقداً جذرياً ومزدوجاً، يستهدف الذات والآخر ويتوقّع أن يكون حديثاً في مواجهة تلك "الأصوليّة" أو "السلفية" التي تفصح عنها الأيديولوجية الإسلامية الإيمانية والوثوقية والغيبيّة، أو تكمن في أيديولوجيات عربيّة ثورية، قومية وماركسية، أو شبه قومية، وشبه ماركسيةٍ، مهما اختلفت مراجعها القريبة والبعيدة. وربما يفصح الاختلاف في مستوى الكلام عن تشابه في مستوى الفعل بين نخبة وشبه نخبة حديثة وشبه حديثة ونخبة وشبه نخبة قديمة وشبه قديمة، مادامت الجماعة، التي هي الكتلة الاجتماعية الكبرى، لم تتحوّل إلى مجتمع، أو إلى أمّة، تتصالح مع مزاجها الديني والبسيط كما تستهويها دنيويّة حداثةٍ لم تنخرط فيها، بل أقحمتْ فيها على نحو بائس... وأيّ نقد يدعوها إلى التفكير؟ ومتى تدوّن عصرها الذي تنتمي فيه إلى التاريخ، وإلى الواقع في آن معاً؟ وهل يتكلّم النقد على عصر أنوار هو غير عصر أنوارها بالفعل حتى الآن؟..

نقد الذات، أو نقد الأمّة ـ وفقاً لتعبير مرقص ـ قد يكون من مدخلاته نقد الأيديولوجيات القومية العربية والأيديولجيات الماركسية الشائعة، بالإضافة إلى نقد الأيديولوجيات الدينية، أو بالارتباط معها. وهو نقد ينتمي إلى نقد المجتمع ونقد الواقع على هذا النحو أو ذاك. وقد يكون نقد العقل العربيّ أو الإسلاميّ أو العربي الإسلاميّ مدخلاً إلى نقد الذات أو نقد الأمّة أيضاً. وهو نقد يصاحبه نموّ واقعيّ لآليّات تأخّر وتسلّطٍ تمارسها "أصوليّات" و"سلفيّات" متجدّدة دائماً. كما تمارس أنظمة وسلطاتٌ تشيع رؤيتها الأحاديّة وقراءتها الأحاديّة مواقفها ضدّ العقل وضدّ حقّه في التفكير والتعبير على نحو مباشر أو غير مباشر، ينحاز عبرها "الأصوليُّ" إلى تطبيق الشريعة، وفق علاقته الخاصة التي يقيمها معها، ويندفع من خلالها "غير الأصولي" مع شكل من أشكال الحداثة المؤقّتة أو الطارئة التي تعزز سلطته الطارئة أو المؤقتة أيضاً.
*
تبرز محاولة (نقد العقل العربي) بأجزائه الثلاثة وجزئه الرابع المتوقّع، عند د.الجابري، كمشروع نقديّ يلبيّ حاجة راهنة هي إعادة النظر في "الذات" بعامة، وفي التراث بخاصة، وإن تعدّدت ردود الفعل والاستجابات تجاهها، أو تنوّعت المواقف منها، وقد سبقها، وصاحبها، وتلاها أكثر من محاولة معاصرة قد تتشابه في أهدافها، وقد تختلف في طرائق تفكيرها وإنتاجها، وتعبّر عنها، على نحوٍ ما أعمالُ حسين مروّة والياس مرقص وعبد الله العروي وسمير أمين وطيب تيزيني ومحمد أركون وياسين الحافظ وصادق جلال العظم وحسن حنفي ومهدي عامل، وغيرهم ممّن يشغلهم موضوع الهويّة كجزء من موضوع الحداثة، على الرغم من تباين الفرضيّات والاستراتيجيات!
وقد أراد الجابري لكتابه (الخطاب العربي المعاصر) أن يكون بمثابة تمهيد لمشروعه: مشروع نقد العقل العربي، فانصرف إلى تحليل الخطاب النهضويّ العربيّ الحديث والمعاصر، من أجل إبراز ضعفه وتشخيص عيوبه استجلاء لصورته، وليس من أجل إعادة بنائه. وفيه يشخّص إشكاليّة مشروع النهضة من قبل ومشروع الثورة فيما بعد بغياب نقد العقل فيهما. وكأنه لا يرى فيما أنتجه مشروع "تنوير" عربيّ أوّل ومشروعُ "تثوير" عربيّ تالٍ إلا غياب "النقد"، وما حضور النقد، بمستوياته المختلفة، إن لم يكن حضوراً مضمراً أو معلناً لنقد العقل؟
وهل المواد التي يشتغل عليها كتاب الخطاب العربي إلا تلك المواد النقديّة التي اشتغل عليها مشروع خطاب "النهضة" من قبل، ومشروع خطاب "الثورة" فيما بعد؟
يتوقّف د.الجابري عند أشكال من الخطاب، هي الخطاب النهضوي والخطاب السياسيّ والخطاب القوميّ والخطاب الفلسفيّ، ويجد في قضيّة الأصالة والمعاصرة صلب إشكالية الخطاب العربي الحديث والمعاصر.
وما يهمّه من النماذج التي يعرضها هو العقل الذي يتحدّث فيها لا بوصفه عقل شخصٍ أو فئة أو جيل، بل بوصفه "العقل العربي" الذي أنتج الخطاب موضوع دراسته. ويجد أن منطق الليبرالي الذي تستهويه المبادئ الأوروبية لا يختلف عن منطلق السلفي، أمّا المنطق التوفيقي فيحاول أن يجمع بين أحسن مافي النموذج العربي الإسلامي وأحسن مافي النموذج الأوروبي... و الخطاب النهضوي، برأيه، خطاب توفيقيّ، متناقض، محكوم بسلفٍ، خطاب وعي مستلب... أما الخطاب القوميّ فهو خطابٌ في الممكنات الذهنيّة، ما ورائي... والفكر العربي قبل حرب حزيران لم يكن يعبّر عن متطلبّات الواقع بل عن واقع آخر يعيشه العرب في الحلم، فهو خطاب وجدان، لا خطاب عقّل، وإن نجح في بثّ ونشر الشعور القوميّ، وقد أخفق الخطاب السياسيّ العربي، على مدى قرن من الزمن، في تحقيق أيّ تقدّم في قضيّة العلاقة بين الدين والدولة... الخ. ولا ينجو الخطاب الفلسفيّ، عنده من تهمة الإخفاق أيضاً، فهو خطاب يتجاهل ـ كما أشرنا من قبل ـ القطاع العقلاني في التراث، ويستنجد بما فيه من قطاع لا عقلانيّ، كما يرتبط بأكثر الجوانب لا عقلانية في الفكر الأوروبي المعاصر...
وكان قد استنتج أن السلفيّ والليبرالي وجميع الأسماء الأيديولوجيّة العربية الأخرى لا تستطيع، ولا نستطيع، نحن العرب، أن نفهم أو نعي مفهومي الأصالة والمعاصرة مادمنا محكومين بسلطة النموذج السلف سواء أكان من التراث أو من الفكر الغربي المعاصر أو شيئاً منهما..الخ.
وسيستنتج أخيراً: أن العقل العربي عقل فقهيّ سواء أتحدّث من موقع يميني أم من موقع يساري، ويتّسم بغياب العلاقة أو ما يكفي من العلاقة بين الفكر والواقع، وهو عاجزٌ عن تقديم الإمكانيّات النظرية المطابقة لتغيير الواقع... الخ!....
ومع ذلك فهو يعترف في مقدّمته بأنه لم يوفّق في تبنّي منهج معيّن وسط المناهج الجاهزة، ويسوّغ عمله بطبيعة الموضوع ونوع الهدف وما يفرضانه من الأخذ بمنهجٍ أو عدٍة مناهج أو اختراع منهج جديد.
وهو يقرّ بتوظيفه مفاهيم تنتمي إلى فلسفات أو منهجيات أو قراءات مختلفة ومتباينة!(38) وسينحاز في نقده العقل العربيّ إلى العقلانية النقديّة لدى ابن حزم وابن رشد والشاطبي وابن خلدون، ويرى فيها منطلقاً يربطنا بقضايا تراثنا، من أجل نقلها إلى حاضرنا، والتعامل معها على أساس متطلّباته وحاجة المستقبل وفكر العصر ومنطقه. وقد حضرت في تفكيره، وتحضر سلطةُ أنموذج اختاره من السلف أو من التراث، كما حضرت، وتحضر سلطة أنموذج استعان بمنهجه من الفكر الأوروبي المعاصر، على هذا النحو أو ذاك..
يحتمي "الأصولي" و"غير الأصولي" و"السلفي" و"غير السلفي" بجزء من الماضي أو من التراث ـ كما يبدو ـ فيستعيد الأصوليّ أو السلفيُ شريعةً وفقهاً يواجه بهما حداثةً هجمت عليه.
وينتمي "الحداثيّ" أو "شبه الحداثيّ"، أو يصرّح بانتمائه إلى "بذور" حداثةٍ عربية انبثقت قبل ما يقارب من عشرة قرون من انبثاق حداثة الغرب، إن لم يصرّح بأنه اهتدى إليها من خلال أنموذج غربيّ، ويتّفق هنا مع الأصولي وشبه الأصوليّ في تأمّله أنموذجاتٍ من التفكير والعمل يرى فيها سبْق الإسلام أو العرب للغرب!
وكأن كلاً من "الأصولي" و "غير الأصولي" يهرب من الواقع والتاريخ، أحدهما يستعين برفض الغرب، الذي هو الواقع والعالم والتاريخ الآن، والآخر يهرب إلى نقد العقل الذي لا ينتمي إلى نقد الواقع والعالم والتاريخ بقدر ما ينتمي إلى كلامٍ "حديث" لم يمتلك القدرة بعد على أن يتحول إلى "فعلٍ" حديث حقاً!..
الفرضيّة التي يدافع عنها د.الجابري في الخطاب العربي المعاصر هي فرضيّة إخفاق مشروع النهضة من قبل، وإخفاق مشروع الثورة فيما بعد، وسيدافع كتابه (نقد العقل العربي)، بأجزائه الثلاثة، عن فرضيّة استقالة العقل العربي!...
ينظر في مقدمّته كتابه (تكوين العقل العربي)، إلى نقد العقل كجزء أساسي وأوليّ من كلّ مشروع للنهضة، ويتساءل عن إمكانيّة بناء نهضةٍ بعقلٍ غير ناهض، عقلٍ لم يقحم بمراجعةٍ شاملةٍ لآلياته ومفاهيمه وتصوّراته ورؤاه، ويصرّح بأن مشروعه هادفٌ لا يمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرّر من كلّ ما هو ميت أو متخشّب في كياننا العقليّ وإرثنا الثقافي... ويقرّ في موضع آخر من نهاية كتابه أن أيّ تحليل للفكر العربيّ الإسلاميّ، سواء أكان من منظور بنيويّ أم من منظور تاريخانيّ، سيظلّ ناقصاً، وستكون نتائجه مضلّلة إذا لم يأخذ في حسابه دور السياسة في توجيه هذا الفكر وتحديد مساره ومنعرجاته...
وسيرى أن الثقافة العربية الإسلامية يتقاسمها نظامان معرّفيان متباينان، يرتبطان بتيّارين أيديولوجيّين متصارعين تاريخياً: النظام البياني والأيديولوجية السينّة من جهة والنظام العرفاني والأيديولوجية الشيعيّة من جهة ثانية. ومن هنا سيكون النظام البرهانيّ محكوماً في طبيعته وتطوّره بالصراع بين البيان والعرفان... وتضمّ علوم البيان علوم النحو والفقه والكلام والبلاغة، وتعتمد على نظام معرفيّ أساسه قياس الغائب على الشاهد، وعلوم العرفان التي تضمّ علوم الكيمياء والطبّ والفلاحة والتنجيم والتصوّف والفكر الشيعيّ والفلسفة الإسماعيلية والتفسير الباطن للقرآن والفلسفة الإشراقيّة، والسحر والطلّسمات، ويعتمد نظامها على الكشف والوصال والتجاذب، أمّا علوم البرهان من علوم طبيعيةٍ ومنطق ورياضة وميتافيزيقا فمنهجها الملاحظة التجريبية والاستنتاج العقلي...الخ(39).
وكأنّه ينظر إلى العقل العربي بوصفه نتاج الثقافة العربية الإسلامية التي تأسّست على نظم معرفيّة ثلاثة: نظام معرفي لغويّ عربيّ الأصل، ونظم معرفيّ غنوصي فارسي هرمسيّ الأصل، ونظام معرفي عقلانيّ يوناني الأصل، كما ورد في كتابه التراث والحداثة. أو كأن لكلّ نظامٍ معرفيّ مرادفه عنده من أنواع المعقول ومراتبه، كما يلاحظ جورج طرابيشي، فالبرهان يطابقه المعقول العقليّ، والبيان يلازمه المعقول الدينيّ، أمّا العرفان فيحتلّ موقعه في أسفل الهرم، بوصفه مملكة اللامعقول المظلمة(40).
إنّ د.الجابري، متأثراً بحفريّات فوكو أو بالإبستميّة عنده يلغي تنوعاً أو كثرة، بل تعددّاً فضاؤه الثقافي العربي الإسلامي يعبّر عن تفاعل وتداخل وتجاور ووحدة، فقد تآوى فيه إنتاج مؤمنين ودهريّين وزنادقة، وفلاسفة وشعراء وكتّاب ومتكلّمين وفقهاء مارسوا التعبير عن أنفسهم، ومارسوا حريّتهم في الانتماء والنقد على هذا النحو أو ذاك، ولا يُحْصَر إنتاجه في هذا النظام المعرفي أو ذاك بشكل حاسم، فالأنظمة المعرفية الثلاثة متداخلة، وبينها عناصر مشتركة بقدر ما بينها من عناصر مختلفة. كما أن العقل يشمل البيان والبرهان، العلم والعرفان، الواقع والرمز، ليمارس العقل البشريُّ وحدته على نحو عميق وخلاّق، كما يرى د.علي حرب(41).
وأيّة مظاهر رئيسة لظاهرة استقالة العقل تبدو في انتصار "العرفان"، وتحوّل "البيان" إلى (عقل ـ عادة) و(البرهان) إلى (عادة ـ عقليّة) كما يرى الجابري؟ وهل هي مصدر "استقالة حتى اليوم في كثير من الأوساط الثقافية إن لم يكن في كلّها تقريباً، إذا لم نذكر الأغلبية الساحقة من الجماهير الأمية؛ على حدّ تعبير الجابري أيضاً!...
يرى د.برهان غليون في خطاب الهويّة دليلاً على القطيعة المستمرّة في التاريخ الذاتي وفي خطاب الحداثة دليلاً على القطيعة في التاريخ الموضوعيّ. وهما يشكلان مظهراً واحداً لفصام الوعي. ومشكلة الهويّة لا تتعلّق، عنده بالتراث، وإنما بعلاقتنا مع العصر والمعاصرة، أمّا إجهاض الحداثة فلا يعود إلى مقاومة البنى التقليديّة، ويصل إلى نتيجة مفادها أنّه ينبغي الخروج من نقد التراث وتكييفه أو تحويره إلى نقد العقل... عقل الحداثة وفكرها. وما العقل عنده؟ العقل هو نحن... نظام تفكير الراهن! ولكن! أيّة حداثة هذه؟ وأيّ عقل ينتمي إليها؟.. ألا ينتجهما واقع ما، ويشرطهما تاريخٌ ما، ويعبّران عن وضع بشرٍ في مجتمع ما؟
ويفترض، بالمقابل، مطاع صفدي أن فكر القطيعة في المشروع الثقافي العربي لم يقطع مع شيء حقّاً ليصل مع شيء آخر حقّاً، لأن فكر القطيعة ـ وفقاً لتعبيره الخاص ـ لم يفكّر في ذاته حتى الآن! وكان قد لاحظ أن صيغة العقل الغربي الأولى، والتي منحته الريادة والقيادة، أنه هو العقل الذي ينقد دائماً، وأوّل ما ينقد هو ذاته... بل إن العقل هو النقد الخالص باعتباره يرادف إنتاجه، ويصاحبه دائماً، لا يعلو فوقه، ولا يتخلى عنه!
هل يختار الخطاب العربيّ الآن نقد عقله متأثّراً بخطاب غربيّ ينقد ذاته دائماً، أي نقد عقله؟
أليس الفكر الذي ورثناه عن السلف، أو ما يسمّيه بعضهم التراث، يدور كلّه حول العقل، كما يستخلص عبد الله العروي في خاتمة كتابه (مفهوم العقل) على الرغم من أنّ تطبيق ذلك العقل المفترض يؤدي غالباً ـ كما يرى ـ إلى نتائج محبطة.. ولذلك لا يكون العقل عقلانيّة إلاّ إذا انطلقنا من الفعل وخضعنا لمنطقه، وأبدلنا بالمنطق الموروث منطق العقل....(44) .
الخطاب النقدي العربي يتدرّب على النقد بعامّة. ويعكس واقعاً أنتجه، وينتجه، كما يعكس تطوّره علاقةً ما مع العالم الآخر، يحاول عبرها أن يكون منتمياً وحضارياً، كونيّاً وشاملاً، يتكامل فيه نقد الذات بنقد الآخر، ويتدرّب على نقد الأنموذجات كلّها، فينزع عنها قداستها: أصولية ، وسلفية، وتنويرية، وثورية، تراثية، وحداثية، دينية، وعلمية، قومية وماركسية، عربية وغربية. ويؤصّل لبعض مفهوماته ومبادئه واستراتيجيّاته، ويعرّب بعضها، وبعضها الآخر يستعيره، فلعلّه ينتج لغته هو غير الغريبة وغير المغرَّبة!
إنّه خطابنا بمعنى ما، ينتمي إلينا، نحن، أوّلاً! ولذلك لم يمتلك شجاعة تسمية الأشياء والأسماء والعلاقات في الواقع.. تسمية كلّ شيء بما هو عليه من قبل، والآن، وبما سيكون عليه فيما بعد،... وهو لا يمتلك هذه الشجاعة لأننا جماعة لم تمتلكها بعد، ولم يمتلكها واقعنا الذي تهجم عليه حداثة إنسانية ومتوحّشة، بهيّة وقبيحة، تستهوي تأخرّه، وتعزّيه وتغويه بما هو متوحّش
وقبيح فحسب!.
إنّه يتدرّب على النقد، وتلك هي مهمّته الواجبة والممكنة حتى الآن، مادامت كائناته الآدميّة التي هي بشر واقعيّون تتدرّب على الحياة بدلاً من أن تحيّاها حقاً، وتتساءل عن جنس الملائكة بدلاً من أن تتساءل عن واقعها الآدمي الذي هو مصدر شقائها الدنيوي!..
متى يتخطّى مرحلة تدرّبه على النقد، ويتجاوزها؟ ومتى يتحوّل إلى نقدٍ، وإلى وعيٍ في مستوى الفعل، ويكون فيه العقل عقلانياً؛ يؤسّس لخطابه المضاد والمختلف بعامة؟
ألا يتطلب التدرّب على النقد تدرّباً على الديمقراطيّة يحرّر الواقع، فيؤسّس النقد لفرضياته التي لا تعمل فقط على تفسير الواقع، وإنّما تعمل على تغييره، بدلاً من أن تبقى في مستوى الكلام الذي لا يتحرر إلا بوساطة الفعل، بل لا يتحرر إلا إذا تحوّل إلى فعلٍ حقاً!







 هوامش ومراجع:
1 ـ جورج طرابيشي، المثّقفون العرب والتراث، ص 20، ص21، رياض الريس للكتب والنشر، 1991.
2 ـ الياس مرقص، نقد العقلانيّة العربيّة، ص 570، ص 631، دار الحصاد، 1997.
3 ـ علي حرب، أوهام النخبة، أو نقد المثّقف، ص 58، ص 59. الدار البيضاء، 1996.
4 ـ فؤاد صروف ونبيه أمين فارس، محرِّر، مؤتمر هيئة الدراسات الفلسفية العربية المنعقد في تشرين الثاني 1966، في الجامعة الأمريكية، منشورات العيد المئوي ـ بيروت 1967.
5 ـ من مؤلّفات د.عبد الرحمن بدوي.
6 ـ عبد الله القصيمي، العالم ليس عقلاً، ص 483-486-488-495-528-531-532-.... الخ، بيروت 1963.
7 ـ ملّف تدريس الفلسفة والبحث الفلسفي، اجتماع الخبراء، بمعونة اليونسكو، شهادة أدونيس، ص 299، دار الغرب الإسلامي 1990.
8 ـ عبد الله العروي، الأيديولوجيا العربية المعاصرة، ص 125، الدار البيضاء 1980.
9 ـ د.محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ص 175، بيروت، ط2 –1985.
10ـ د.أنور عبد الملك، الفكر العربي في معركة النهضة، ص 26، ص 28، دار الآداب، بيروت 1963.
11ـ د.برهان غليون اغتيال العقل، ص 343، ص 33، ص 340-302، دار التنوير، بيروت، 1985.
12ـ الخطاب العربي المعاصر، مرجع سابق، ص 191-190-57.
13ـ مطاع صفدي، استراتيجيّة التسمية في نظام الأنظمة المعرفية، ص 26، ص 27، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، 1986.
14 ـ مطاع صفدي، نقد العقل الغربي، ص14، ص344، ص64، ص66، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990.
15 ـ د.سامي أدهم، مابعد الحداثة، انفجار أواخر القرن العشرين، النصّ، الفسحة المضيئة، ص 15، ص 9، ص 8، 58.
16ـ جورج طرابيشي، نظرية العقل؛ نقد نقد العقل العربي، ص 97، دار الساقي 1966.
17ـ د.هشام شرابي، النقد الحضاريّ في المجتمع العربي في نهاية القرن العشرين،
ص 17، ص 8، ص 10، مركز دراسات الوحدة العربية، 1990.

18ـ د.أكرم ضياء العمري، منهج النقد عند المحدّثين مقارناً بالمنهج النقدي الغربيّ، ص 5-8-9-11-12-19-22-38-40-51، الرياض 1417هـ، 1997م.
19ـ أحمد موسى سالم، العقل ومناهج التفكير الإسلاميّ، ص 15-ص16، ص 241، 260، ص261، ص 285، دار الجيل، بيروت1980.
20ـ الياس مرقص، نقد الفكر القومي، ص 45-46-275-296-270 –322 –323 - 388- 454- 474- 491-495 -496-511 -533- 396- 411- 415- 218- 29-330- 394- 389- 572- 574- 576- 477- 487- دار الطليعة، 1966.
يتألف الكتاب من مقدّمة وخمسة أقسام وخاتمة، ويهدف إلى حصر أفكار ساطع الحصري، كلّها، قدر الإمكان ونقدها، وصياغة النظريّة المضادّة على ضوء التجربة التاريخية العربية والعالمية، وقد أشار إلى حياة الحصري وموضوعات مؤلفاته ومحتويات كتبه القومية التسعة، وأعلن أهداف دراسته ومخطّطاتها.
والتوقّف، عند هذا الكتاب، لا يعني إغفال مؤلّفات أخرى مثل (الماركسية في عصرنا 1965)، وما يتضمّنه من إشارات نقديّة حول الفكر القومي بالإضافة إلى (الماركسية والمسألة القومية 1967)، والكتاب المشترك مع رودنسون وإميل توما (في الأمّة والمسألة القومية والوحدة)، و(عفويّة النظرية في العمل الفدائي 1971).....الخ.
ويلاحظ أيضاً أن الفكر القومي الأصيل في ردّه وهجومه على الفكر اللاقومي مزيج من أفكار برغسون ونيتشه وشبنغلر وغيرهم... ص 5-ص6.
21ـ عقد المجلس القومي للثقافة العربية، ندوة تحت عنوان(الياس مرقص والفكر القومي، اللاذقية، 1992)، وتضمّنت أربع جلسات دارت أهمُّ أعمالها حول فكره النقدي والمسألة القومية وتجديد الفكر القومي وغيرها، ويمكن الإشارة، بشكل خاص إلى بحث جاد الكريم الجباعي (المسألة القومية في فكر الياس مرقص)، وبحث محيي الدين صبحي (الياس مرقص، وتجديد الفكر القومي).
ـ الياس مرقص والفكر القومي ـ منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط 1993.
22ـ ياسين الحافظ، الهزيمة والأيديولوجية المهزومة ، ص 75- 76 –177، 185-186- 247-290-258- 294-320.... دار الطليعة 1979.
23ـ د.عبد الرزاق عيد، ياسين الحافظ، نقد حداثة التأخّر، ص 227، دار الصداقة، حلب 1996.
24ـ د.صادق جلال العظم، النقد الذاتي بعد الهزيمة، ص 5، ص 67-70-80-82 ـ ص 97 ـ ص 105-132...... دار الطليعة، ط4، 1972.
25ـ د.صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، ص 5-ص17-18-28-36- 46- 75- 78 – دار الطليعة 1970. والأبحاث التي يشتمل عليها هي: الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني ـ – مأساة إبليس ـ معجزة ظهور العذراء وتصفية آثار العدوان ـ التزييف في الفكر المسيحيّ الغربيّ المعاصر ـ مدخل إلى التصور العلميّ للكون وتطوّره.

26ـ بالإضافة إلى البحث الذي توقفنا عنده من كتاب (نقد الفكر الديني) نشير إلى (مأساة إبليس) الذي يستشهد في نهايته د.العظم بقصّة طريفة لتوفيق الحكيم، يجري فيها حوارٌ بين إبليس وشيخ الأزهر، بعد أن ذهب ليتوب على يديه، ويدخل في الدين الحنيف ويشعر باليأس من موافقة شيخ الأزهر، فيتوسّط الملاك جبريل عند ربّه دون جدوى، وينتهي الحوار بصرخة إبليس: إني شهيد! وطرافة البحث تشبه طرافة قصّة الحكيم!..
أمّا بحثه (معجزة ظهور العذراء وتصفية آثار العدوان) فيختمه بعبارة ذات دلالة عميقة، يقول فيها: هنيئاً مريئاً بهذه المأساة المفجعة لأنصار العذراء والمعجزات والسياحة، والتعزية الروحيّة بضياع القدس. ومرحى لمخرجي أمثال هذه المسرحيات ومروّجيها من أجهزة الإعلام، وشكراً للكنيسة القبطية ـ على نفيها الأخير لظهور العذراء... الخ.
وفي بحثه (التزييف والفكر المسيحي الغربي المعاصر)، يعالج بسرعة مجموعة من المحاضرات أصدرتها الجامعة الأمريكية حول موضوع (الله والإنسان في الفكر المسيحي المعاصر، بعد أن ألقيت في الجامعة نفسها، عام 1967، ويستنتج فيه أن السلاح نزع من الكنيسة من قبل قوى تنتمي في جوهرها للحركة العلمانية التي صنعت ما يسمّى بالعالم الحديث، وكوّنت ثقافته العلميّة وحضارته الصناعية!..
ومطالعته: (مدخل إلى التصور العلميّ الماديّ للكون)، هي مديحٌ للمادية الديالكتيكية كأنجح محاولةٍ لصياغة صورة كونية متكاملة تناسب هذا العصر وعلومه، على حدّ تعبيره. ويعتقد أن هذا جزء مهم ممّا عناه سارتر حين قال: (الماركسية هي الفلسفة المعاصرة)!..
وكان قرار محكمة استئناف بيروت الناظرة بقضايا المطبوعات إبطال التعقيبات على الفاعل الأصليّ والمدَّعى عليه، بعد أن أنكرا صحّة ما نُسب إليهما، إذْ صرّح د. العظم أنه في نشره الكتاب موضوع الادعاء إنّما يتوخّى من ورائه النقد العلمي والحقيقة، ولا يعتبر أنّ الأبحاث الواردة فيه تتضمّن تحريضاً على إثارة النعرات الطائفية أو ازدراءً للديانات السماوية. وقد سبقه إلى ذلك باحثون عرب وأجانب، وخاصة أن هذه المحكمة لا تحاكم المدعى عليهما، على حرّية المعتقد الديني أو الفكري أو تشكيكهما في الدين، لأن من المعلوم أن الدستور اللبناني يكفل حرية الرأي والفكر والنقد... الخ.
27ـ محمد جمال باروت، يثرب الجديدة، الحركات الإسلامية الراهنة، ص 10-11، ص 245-127-13-14-177-178، 28-33-95-124-193-209-212-18 الريس للكتب والنشر، 1993.
28ـ يرى باروت أن الخطاب الجهاديّ للحاكمية لله يضمر مرجعيّة شيعيّة خاصة بولاية الفقيه، ويناقش التشيّع السياسيّ بين نظرّيتيّ "ولايّة الفقيه" و"ولاية الأمّة على نفسها"، ص 81-93.
29ـ الفلسفة في الوطن العربي، بحوث المؤتمر الفلسفي الأول، ص 69-ص 60-61 مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1985.
30ـ د.نصر حامد أبو زيد، التفكير في زمن التكفير، ص 134-135، ص 131- سينا للنشر، القاهرة 1995.
31ـ د.محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، تر: هشام صالح، ص 58-59، ص 154- دار الساقي 1998.
32ـ د.طيب تيزيني، النصّ القرآني، إشكاليّة البنية والقراءة، ص 439، 107-
ص157-158، دار الينابيع، دمشق 1996.
33ـ د.عزيز العظمة، دنيا الدين في حاضر الغرب، ص 16-ص13-14، ص 92، ص 60، ص 32، دار الطليعة، بيروت 1996.
34ـ د.نديم البيطار، من النكسة إلى الثورة، ص 161- ص 144، دار الطليعة،
بيروت 1968.
35ـ د.محمد أركون، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، تر: هشام صالح، ص 27 – ص93 – ط2، دار الساقي، 1993.
36ـ جورج طرابيشي، الفلسفة وجدليّة التقدّم والتأخّر، مقال، مجلة "أبواب" ص 114-115، ربيع 1998، مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام، دار الساقي 1998،
ص 125-126.
37ـ د.هشام شرابي، النظام الأبوي وإشكالية وتخلف المجتمع العربي، ص 126-127، 128، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1992.
38ـ الخطاب العربي المعاصر، مرجع سابق، ص 14-30-31، 55-56-131-135-217، ص 12.
39ـ د.محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص5، ص 7-8، ص 246- ص 249 – ط6، مركز دراسات الوحدة العربية، 1994.
40ـ جورج طرابيشي، إشكاليّات العقل العربي، ص 285، دار الساقي 1998.
41ـ علي حرب، خطاب الهويّة، ص 131- دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1996.
42 ـ اغتيال العقل، مرجع سابق، ص 145-153-289-314- 315.
43ـ نقد الفكر الغربيّ، مرجع سابق، ص 7-10.
44ـ عبد الله العروي، مفهوم العقل، ص 357-364، الدار البيضاء 1996.
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية saif.m
saif.m
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 15-06-2015
  • المشاركات : 3,006
  • معدل تقييم المستوى :

    12

  • saif.m is on a distinguished road
الصورة الرمزية saif.m
saif.m
شروقي
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 


الساعة الآن 06:17 AM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى