بدراهِمَ مَعدودَة
23-12-2015, 09:08 AM
بدراهِمَ مَعدودَة

الكاتبة زهراء المقداد

الرجلُ الستّينيّ خلفَ عربتِه الخشبية، التي أثقلَها بالصناديق، كانَ قد حاولَ الاحتيال على ذبولِ الثمارِ فيها وتغضّنِ ملمسِها برشّها بقليلٍ من الماء، نفضَ يدَه مُسرّحًا ما علقَ بها من قطرات، وجالَ بعينيه فاحصًا سِلالَ الطماطم، فرشَ ثلاثَ رُزَمٍ من الحشائشِ الطريّةِ مُخفِيا ذبولَ البقيّةِ تحتَها.

السماءُ داكنةُ اللون، توزّعتْ داخلَها قطعٌ أشبهُ بالقطن، لكنّها شحّت على هذه العربة الصامدة في مكانها طيلة النهار، فلم تبلّلْ عطشَها بشآبيبها، أضاءتْ وجهَه ابتسامةٌ ذاويَة، وسرعانَ ما أطفأها اجتيازُ مركبةٍ كادت أن تقفَ أمامه، لكنّ صاحبَها اجتازه بسرعة مُغيّرا وُجهتَه، الأملُ داخلَه يضيءُ ثم

يخبو، ويبقى هكذا حتى تغيبَ الشمسُ، ويبتلعَ حمرتَها الأفق.

أمسكَ مذياعَهُ وأدارَ القرصَ على محطّةِ أخبار، هو لا يفقهُ أكثرَها لكنّه يُبقيها بالرغم من انصرافِ إصغائِه عنها معظم الوقت، شابّان يتقدّمان، يقطعان حديثهما ويلوّحان للعم، يقفُ مستقبلا لهما، مُقلّبا حشائشَه ينتظرُ رزقا وإن كان بخْسًا، فحَصا بضاعتَه على عجَل، تناثرتْ بعضُ أعوادِ الحشائشِ على الأرض، ( بضاعتك ذابلة حجّي! ) قالها أحدُهما مستهزئا، والآخرُ يرصدُ فقط حوارَ الأعين، عينان تحدّقان، والأخريان منكسرتان، يصعبُ تلاوةُ محتواهما سريعًا، استدارَ عنهما مُخفيًا وجعَه الذي غرَساهُ في قلبه، كوجعِ تلك الضحكةِ المكتومة التي لا تنفجرُ ولا تتسلّل إلى آذانِنا إلا حينَ تُقابلهم ظهورُنا ونغادرُ المكان، لكنّها تصلُنا، تنهشُ دواخلنا وهي تخترقُ آذانَنا، لتستقرَ داخلَ القلب كلُغمٍ نائم، ربّما ينفجرُ ذاتَ يوم، وربما يبقى
التعديل الأخير تم بواسطة علي قسورة الإبراهيمي ; 23-12-2015 الساعة 09:20 AM