.هكذا عُيّن الشاذلي قبيل وفاة بومدين
16-01-2016, 09:03 PM

حوار: محمد مسلم / هشام موفق

بومدين كان دائما يقول إن أحمد بن بلة انحرف عن مسار الثورة وارتكب أخطاء كبيرة، ما تعليقك؟
لمعرفة الخلاف الذي نشب بين الرجلين، ينبغي العودة إلى اجتماع المجلس الوطني للثورة، الذي انعقد في عام 1962، وبالضبط ما عرف بأزمة صائفة 1962. فذلك الاجتماع لم يغلق إلى غاية اليوم، بحيث انصرف الجميع ولم يسدل الستار عليه.
وفي خضم تلك الأحداث برزت عصبتان، هما مجموعة تيزي وزو ومجموعة تلمسان، وبومدين كان ينتمي إلى مجموعة تلمسان.
تقصد مجموعة وجدة؟
لا لا.. أنتم (الصحافيون) من سماها مجموعة وجدة. لا يمكنهم تسميتها مجموعة وجدة. لا.. أفضل تسميتها مجموعة تلمسان. ومن قبل، أنا كنت من الذين كانوا في استقبال الرئيس الأسبق أحمد بن بلة، في مطار العوينات في تونس، على ما أعتقد. ذهبنا وكنا من قادة الوحدات، كنت أنا وكان شبيلة من قيادة الأركان، وأعتقد أنه كان معنا بوحارة عبد الرزاق.. وكان عددنا نحو 10 أو 12. التقينا بن بلة، ولم نكن نعلم بما وقع من قبل، مثلا، لما أرسل بومدين عبد العزيز بوتفليقة إلى فرنسا لمقابلة قيادات الثورة في السجن.. لم نكن نعلم بذلك، لأننا كنا في الوحدات، لكن لما استقبلنا بن بلة كان معه بقية القيادات التي كانت مسجونة. وفعلا كان قد عرض عليه أن يكون رئيسا، ولذلك قدم نفسه كرئيس.. منذ ذلك الوقت، وقعت مشكلة الولايات.
نعود إلى أسباب الانقلاب على بن بلة؟
الأزمة بدأت من قبل.
هل حقيقة كان هناك اتفاق على أن يتكفل بن بلة بالشؤون السياسية وبومدين بالشؤون العسكرية؟
لا، لم يكن هذا الاتفاق.
متى بدأت المشاكل إذن بين الرجلين؟
في البداية انطلقت المشاكل بين قيادة الأركان والحكومة المؤقتة، ولذلك بدأ الاتصال بالأشخاص التاريخيين الذين كانوا في السجن. لم يتفقوا مع المجموعة.. كان في البداية الاتصال ببوضياف لكنه رفض، ثم..
تقريبا نفس المشكل الذي حدث في بداية الاستقلال تكرر في بداية التسعينات؟
بالفعل، كانت سنوات دموية ومؤسفة. إذن بومدين في 19 جوان 1965، يقول إن بن بلة انحرف عن مسار الثورة. وصحيح أن فترة حكم بن بلة لم تكن كما يجب، الأمور لم تكن على ما يرام، لم تكن واضحة تماما.. هل كان بومدين مخططا له من قبل، ممكن، لست أدري.
ما مدى تأثير الجانب المصري على بن بلة، في إقدام الرئيس بومدين على الإطاحة ببن بلة؟
من دون شك.. لقد انقطع الاتصال بين الرجلين، وبات واضحا أن الرجلين كان يتفادى كل منهما لقاء الآخر، فإذا كان الأول في وهران وحل الثاني بهذه المدينة، ينتقل الأول إلى مدينة أخرى. لقد كانت الأزمة بادية، ولست أدري كم دامت.
لما اتخذ بومدين القرار بإزاحة بن بلة، هل كان للمصريين نفوذ في الجزائر، على اعتبار أن بلة كان محسوبا عليهم؟ وهل تحرجتم من الحضور المصري في الشأن الداخلي للجزائر؟
نحن كعسكريين لم نكن نشعر بأشياء من هذا القبيل. أنا صدمت لما قبضنا على مسؤول الاستعلامات المصرية في فندق السفير، والغواصات بالقرب من المياه الإقليمية للجزائر.
هذه الأحداث كانت في عشرين جوان؟
كانت في حدود 20 أو 21 جوان تقريبا.
ما هي الأخطاء التي كان يعتقد الجيش أن بن بلة ارتكبها؟
الجيش.. على مستوى بومدين ومن كان قريبا منه. أنا كنت أطبق الأوامر، ليس أكثر. وبالنسبة إلى بومدين هو قائدنا. عرفنا بومدين لما كنا في فوضى كبيرة لا نظير لها على مستوى الحدود. جاء بومدين، فنظم الأمور. لماذا الجيش التفت إلى بومدين، لأن الفضل في تنظيم الجيش يرجع إليه.
كان بومدين قد كوّن أول مجموعة تقنية، متكونة من ضباط فرنسا والهدف واحد هو مساعدته على تكوين الجيش وتنظيمه. كان من بينهم العقيد شابو طبعا. الرجل عمل مع شابو وأدرك كفاءته ولذلك اختار الرجل دون سواه.
ما موقع بن بلة من قضية الضباط الفارين من الجيش الفرنسي؟
بن بلة هو ذاته من الضباط الذين عملوا في الجيش الفرنسي. لم نسمع عنه أنه عارض إدماج ضباط فرنسا في الجيش. هو سياسي وكان من الطبيعي أن يلعب على الحبلين.
وماذا عن الغواصات المصرية التي كانت قريبة من المياه الإقليمية للجزائر غداة الإطاحة ببن بلة. ألم تتساءلوا عن سبب وجودها بالقرب من الجزائر، وكذلك مسؤول الاستعلامات في الشرطة المصرية؟
من غير شك، كان ذلك تهديدا. الغواصات عندما تقترب من المياه الإقليمية، يعتبر ذلك تهديدا، وإن كان وجود مسؤول جهاز الاستعلامات بالجزائر، قد يفهم على أنه في زيارة عمل.
كيف تعاملتم مع الغواصات؟
رفضنا دخولهم المياه الإقليمية، وعادت من حيث جاءت. لماذا جاءت، لا علم لدي. هناك حادثة أخرى وقعت عندما كنت مسؤولا عن مدرسة العتاد. جاءني سفير الصين بالجزائر، وقال لي، إن الباخرة المحملة بالسلاح التي طلبتها الجزائر، ستصل في اليوم الفلاني، وكان ذلك قبل 19 جوان. هذه شهادة جديدة. ربما لذلك علاقة بالمشاكل التي كانت بين بومدين وبن بلة. لأن بن بلة كان قد استحدث ميليشيات، وكان بومدين يعتبرها تهديدا أو ندا للجيش.
قلت جاءني سفير الصين وأخبرني بقدوم الباخرة، كما قلت، ولما أعلمت المسؤولين وجدتهم أنهم لم يكونوا على علم بقدوم هذه الباخرة. إذن أعتقد أن السفير الصيني يكون قد أخبرني لغرض ما، على اعتبار أن بن بلة هو من طلب هذه الباخرة. والسفير كان يعلم أن تبليغي بالمعلومة يعني أنها ستصل إلى المسؤولين في وزارة الدفاع. وهذا يعني أيضا أن المشاكل كانت موجودة، فمن غير الطبيعي ألا يعلم وزير الدفاع بحادث من هذا القبيل.
ما مصير السلاح الذي كان على متن هذه الباخرة؟
تم إفراغها ووضع السلاح تحت تصرف وزارة الدفاع.
نصل الآن إلى المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها العقيد الطاهر الزبيري ضد بومدين في 1967؟
أنا كنت يومها في عين الصفراء. لم يكن لي تدخل مباشر في هذه القضية.
طيب، وماذا عن مشاركتك في الحرب العربية الإسرائيلية؟
أنا شاركت في حرب الاستنزاف.
في تلك المرحلة، الجيش عرف إعادة هيكلة وتنظيم. ما هي المهمة التي أسندت إليك؟
كنت يومها قائد لواء. وهو اللواء الثاني في الجزائر، الأول كان في سيدي بلعباس تحت إدارة عبد القادر عبد الوي، والثاني كان في عين الصفراء، ثم تكوّن اللواء الثالث وقاده محمد علاق في تندوف.
في تلك الفترة. كيف كنت تنظر من الداخل إلى تطور الجيش الجزائري. هل كانت لديك تحفظات على تصرفات بومدين؟
أبدا. دعني أوضح.. الجيش كان متكونا من ضباط جبهة التحرير. لم يكن لدينا الكثير من المتخرجين من مدارس التكوين. كما أن بومدين كان قد انطلق في خطط تنموية كبيرة، من خلال إنشاء مصانع كبيرة ومركبات إنتاج. كل الطاقات تتجه نحو هذا المشروع.
لم يولى الجيش الاهتمام الذي يستحقه إلا بعد اندلاع أزمة الصحراء الغربية في منتصف السبعينات. وكذلك الشأن بالنسبة إلى الحزب، لم يكن يحظى بالأولوية أيضا للأسباب السالف ذكرها.
إذن الجيش كان ضعيفا، لا يتوفر على أركان. بالفعل، كان سي الطاهر الزبيري قائد أركان، وهو لم يكن يتوفر على تكوين عسكري.
كيف كنت تنظر يومها إلى الطاهر الزبيري؟
كنا يومها شبانا متخرجين من مدارس تكوين متخصصة شرقية كانت أو غربية. وبالنسبة إلينا كان أمثال الزبيري مسؤولين عنا في الثورة وبعدها في الاستقلال. نحن كنا نعمل. كنا في مدارس التكوين أو في الإدارة. الوحدات كلها متكونة من عناصر جيش التحرير. وقوة الجيش تكمن هناك.
كيف تقيمون فترة حكم بومدين؟ هناك من قال إن بومدين إن لم يعجله الموت لربما قام بانفتاح سياسي قبل ذلك الذي وقع في نهاية الثمانينيات، هناك من يقول العكس. هناك من يقول بومدين كان ديكتاتورا، هناك من يقول إن بومدين خدم البلاد بصدق.. من موقعك كعسكري، ماذا تقول هناك؟
فقط، دعني أتكلم عن الخدمة الوطنية قبل أن أجيب عن هذا السؤال.
تفضل..
الخدمة الوطنية كانت جديدا بالنسبة للجيش. لم يكن تجديد في الجيش يومها. لكن قضية الصحراء الغربية غيرت النظرة. حينها كنت أتكون في المدرسة الحربية بباريس، وطلب مني العودة. لما دخلت أرسلوني إلى تندوف. وجدت الوضع صعبا جدا. ووقفت على الظروف التي واجه فيها الجيش ظروف نشأة قضية الصحراء العربية، أمغالا واحد وأمغالا 2.
الجيش لم يكن يتوفر على أركان. حتى من ناحية الاستعلامات، لم يكن يتوفر على كيفية تشكيل الجيش المغربي، وكانت للجيش إمكانية كي يربح المعركة. ولكن لأننا لم نكن نتوفر على قيادة أركان، ولا استعلامات..
وماذا كان يفعل يومها الراحل قاصدي مرباح؟
هو لم يكن من الاستعلامات العسكرية التقنية، هو من الأمن العسكري، وبين هذا وذاك فرق كبير. دعني أنهي النقطة المتعلقة بالخدمة الوطنية. لقد كان الجيش ضعيفا ومهلهلا، لذلك بدأ التسليح.
بعد قضية 1967، كان بومدين يترأس الجيش كل سنة، وكنا نحضر له جدول الأعمال وهو من يدرسه. في إحدى المرات وضعنا في الجدول، جانبا يتعلق بالعمليات ونقطة أخرى بالاستعلامات. ولما وصل إلى النقطة المتعلقة بالاستعلامات، أغلق الملف، وقال، حصلت مرة، نتمنى ألا تتكرر. لديكم الوقت الكافي.. لم يكن لديها لا استعلامات ولا سلاح. كان هناك سلاح طائرات، دبابات، ولكن يفتقد للنوعية المطلوبة.
وفي تلك المرحلة انفجرت أزمة الصحراء الغربية، وجدنا أنفسنا أمام وضع صعب. وحينها كان بومدين يجتمع فقط مع من كانت لهم مسؤولية مباشرة في الجهة الغربية، سي الشاذلي كان قائد الناحية العسكرية الثانية، وعبد المالك قنايزية كان نائبا له، سليم سعدي كان قائد الناحية العسكرية الثالثة، أنا في تندوف، وقاصدي مرباح (مسؤول الأمن العسكري) محمد الصالح يحياوي، كان يومها في شرشال، مثلما شارك في معركة أمغالا واحد. كان هؤلاء فقط من يحضر الاجتماعات المتعلقة بقضية الصحراء الغربية.
أردت أن أقول إن الجيش كان في وقت صعب، وبدأ السلاح يصل، وأذكر هنا أننا استلمنا في ذلك الوقت صواريخ صام 6. يومها الحاجة قادتنا حتى إلى إرسال أبناء الخدمة الوطنية من خريجي الجامعات للتكوين في الاتحاد السوفياتي آنذاك، والتدرب على صواريخ صام 6، وهو الأمر الذي ساعد الجيش كثيرا في مواجهة التحديات التي كانت في طريقه، وإن لا زال ضعيفا آنذاك.
ولما جاء سي الشاذلي سارت الأمور على نحو أفضل، وأذكر هنا أنني كنت في تندوف. كنا في كل سنة نغير لواء، وكلما يأتيني لواء إلى الصحراء لم تكن لدي إمكانات لإقامة معسكر.
لماذا تتحدث عن صعوبات وقلة إمكانات، بالرغم من أن البترول يومها كانت أسعاره مرتفعة؟
بومدين لم يكن يوجه الكثير من المال خارج المشاريع التنموية الكبرى التي أطلقت خلال السبعينيات. كنا يومها شبانا نثق في قيادة بومدين للدولة. نحن نعرفه منذ مرحلة ما قبل الاستقلال. لكن أزمة الصحراء كشفت المستور.
ما كنت على علم به، أن الرئيس بومدين كان قد اتفق مع المسؤولين المغاربة على منع قيام حرب على الحدود، وهو ما مكننا من قيادة التكوين في راحة من أمرنا. وكان ذلك اختيار وتوجه اشتراكي.
أنتم في الجيش كان لديكم تحفظ من هذا التوجه؟
لا، لكن من بعد ربما.
متى بدأت علاقتك بالرئيس بومدين تتوتر؟
لم تكن لدي خلافات مع بومدين.
ما حقيقة اعتزام الرئيس بومدين عزلك، وقد جاءتك رسالة في هذا الصدد من العقيد شابو (كان يومها أمين عام وزارة الدفاع)، تدعوك إلى الاختباء عن العقيد زرقيني؟
هذه رواية العقيد عمار بن عودة، وأنا رددت عليه.
أنا شخصيا بعثني بومدين للشرق الأوسط من أجل جلب سلاح جيش التحرير الذي كان في مصر، وكان عندنا واحد هناك في ليبيا. كما كانت مخازن أسلحة في مصر. لما كلفني بومدين، بعثت ضابط اسمه عبد الرحمن وهو من سطيف (توفي رحمه الله)، قبل أن أسافر بنحو شهر، من أجل تجهيز العتاد، قبل أن نرسل باخرة لنقل ذلك السلاح للجزائر.
وقبل ذلك كانت هناك باخرة محملة بسلاح الثورة انفجرت في عنابة بسبب قدم هذا السلاح وعدم توفر مختصين للصيانة، وخلف هذا الحادث، خسائر في الأرواح.. بومدين كان على علم بمخازن سلاح الثورة في مصر. بعد شهر انتقلت إلى مصر، وحينها كان بن عودة ملحقا عسكريا في سفارة الجزائر بمصر، لما وصلت لم ألتق به، وقدم لي الشخص الذي أوفدته، عرض حال عن السلاح المراد جلبه.
كان السلاح الجزائري موجود في مخازن بجبل المقطم، وهو قريب من القاهرة، وبحسب ما سمعه موفدي من المصريين، فإن سلاح الثورة تم إلحاقه بمخازن سلاح الجيش المصري في الإسكندرية، ولما توصلت إلى هذه المعلومات اتصلت بالقائم بأعمال السفارة الجزائرية في القاهرة، لأننا لم يكن لدينا سفير في القاهرة حينها، ووجدته على علم بالقضية، وطلبت منه الاتصال مع المصريين، وحدد موعدا للانتقال إلى قيادة الأركان المصرية، ولقاء المكلف بالعتاد.
لما دخلنا المكتب وجدنا حوالي ستة ضباط، أما المسؤول الأول فلم يعرنا الكثير من الاهتمام، لمدة خمس دقائق، ثم التفت إلينا، فأخبرناه بالمطلب، فرد قائلا: لقد تنازلتم عنه. فطلبت منه إن كان يملك وثيقة تبرر كلامه، فطلب منا العودة في اليوم الموالي. وبالفعل تسلمنا الوثيقة، وكانت ممضاة من بن عودة بأمر من الرئيس السابق أحمد بن بلة. عندها عدنا بالسلاح الذي كان في ليبيا فقط.
لما وصلنا الجزائر اتصلت بالرئيس بومدين، وكانت أول مرة ألتقي فيه مباشرة. سلمته الوثيقة، ولما بدأ في قراءتها، قطب جبينه وعرفت حينها أن الرجل قد استشاط غضبا.. فلم أكمل كاس الشاي الذي كان بيدي، وطلبت باحترام الانصراف.
أنا لما كتبت مذكراتي، في 2001 كتبت كتابي الأول، بما أنني سميته مذكرات، وقد تطرقت إلى هذه القضية، لكن تساءلت كيف أن ملحقا عسكريا لم يخبر وزير دفاع بحدث من هذا القبيل.
ولما صدر الكتاب جاءتني رسالة من عند بن عودة، يطالبني فيها بتصحيح الخطأ والمغالطة. فحررت رسالة من صفحتين، ووجهتها له، ولم أتسلم منه ردا لمدة شهر. وفي مناسبة ما التقيته في قصر الشعب، وكنت يومها مع مجموعة من الشخصيات، بينهم رضا مالك وبلعيد عبد السلام وتيجاني هدام. ثم جاء بن عودة وسلم على الجميع، ثم بادرته، هل قرأت الرسالة التي بعثتها لك، فقال لي قرأتها بالأمس فقط.. ثم انفردت به وقلت له يا سي عمار، أنت تدرك أن ما قلته هو الحقيقة ولا أضيف عليه شيئا، فغضب كثيرا.
في ذلك الوقت المشكل كان قائما بين بن بلة وبومدين، مرة مع هذا ومرة مع ذاك. أنا أعرف ألاعيبهم، وقد أسمعته الكثير.. ولما هممت بالمغادرة التقيت تيجاني هدام الذي استهجن تصرف بن عودة، أما بلعيد عبد السلام، فقال لي هؤلاء يجب أن تذكرهم بما يليق بهم فقط.
نصل الآن إلى قضية مارسيل بيجار.. أنا لما أرسلت للمدرسة الحربية ما بين 1975 و 1976، حينذاك كان بيجار كاتب الدولة الفرنسي للدفاع.
بيجار قاتل الشهيد العربي بن مهيدي؟
ليس هو من قتله. يقال هو من قتله.
صحح لنا المعلومة هذه بالمناسبة؟
بيجار يقول لست أنا من قتل بن مهيدي، والجنرال أوساريس هو من قتل بن مهيدي، كما جاء على لسانه. من قبل تواترت الأخبار بأن بيجار هو القاتل، ولكن بعد أن تكلم أوساريس وقال إنه هو الفاعل، غلقت القضية. سمعت أن بيجار كان يحترم بن مهيدي كثيرا، ولما رآه ميتا قدم له التحية، هذا كلام سمعته، وربما المؤرخ إيف كوريار هو من كتب هذا، وبيجار في كتابه، قال إنه لما طلب مني تسليم بن مهيدي، أيقنت أنهم سيقتلونه. قال هذا في كتابه.. ولكن في النهاية هم (الفرنسيون) من قتل بن مهيدي.
عد إلى لقائك ببيجار من فضلك؟
أنا آت.. كنت في المدرسة الحربية الفرنسية، وفي يوم من الأيام طلب منها نحن الطلبة الضباط الأجانب وكان عددنا نحو 18 ممثلين لنحو 15 أو 16 دولة، لأن بعض الدول كانت ممثلة بأكثر من طالب، مثل المغرب.
وأنت كنت الجزائري الوحيد في تلك الدفعة؟
نعم، كنت لوحدي. والرتبة مقدم. أعلمونا بأن بيجار يريد مقابلة الطلبة الضباط الأجانب. كنا نحن الـ 18 على صف واحد، ثم جاء بيجار، فسلم على الجميع. كان كل ضابط يقول له كلمة، وكان بيننا ضابط طالب من إسرائيل، وسمعت انه قال له "لدينا الكثير لنتعلمه منكم". وأنا كنت ما قبل الأخير وبجانبي في نهاية الصف الطالب الضابط الأمريكي الملازم أوبراين، ولدي الصورة.
لما وصل إلي قدمت نفسي، المقدم خالد نزار من الجزائر. صافح الأمريكي ثم عاد ليتكلم عن الجزائر، مبررا ما قام به في الثورة التحريرية، ومفاد القضية أنه أدى مهمة كلف بإنجازها. ثم توجه إلي وقال لي، لم تكن لديكم الكثير من الامكانيات، ولكن لما تهاجمون، تهاجمون بشراسة. هذه القضية أبلغتها لمسؤولي في الجزائر، لكنهم أعطوها الكثير من التأويلات.
كانت تلك الحادثة الأولى والأخيرة لك مع بيجار؟
نعم، وأين ألتقي به. بن عودة لما يبرز مثل هذه القضية، فهو يريد أن يبرز لقائي مع المجرم بيجار حتى تأخذ القضية منحى آخر. لما خرجت من مدرسة العتاد في 1965، طلب مني العقيد شابو البقاء في منصبي، لكنني رفضت وقررت الانتقال إلى قيادة الأركان، وبقيت هناك ثلاثة أشهر. وفي تلك المرحلة عاد عمار ملاح من تكوينه في الاتحاد السوفياتي سابقا وأصبح بعدها مكونا ومنظرا.
الطريقة التي تحدثت بها عن عمار ملاح، توحي بأنه لا يتوفر على مستوى يسمح له بتكوين أبناء الجيش؟
لما يأتي شخص في مستوى الابتدائي ثم يوجه للمستوى الجامعي، هل يمكنه المواصلة؟ بالتأكيد لا. كيف نرسل شخصا من الجبل ونرسله إلى مدرسة فروزي، التي مستواها يفوق يعادل الطور الثاني من المستوى الجامعي، فماذا تنتظرون منه؟
هذا رأيك إذن في المجاهد عمار ملاح؟
هذا رأيي العام في الكثير من الضباط الذين تكونوا على هذه الشاكلة. وإذا سألت مرة أخرى أقول لك نفس الإجابة. وإذا كان أمثال هؤلاء هم من يعينون ويوجهون ويكونون.. ماذا بقي؟
دعني أكمل قضية بيجار. إذن يقول (يقصد بن عودة) إن بومدين أراد عزل نزار. أنا أدرك من أين جاء بمثل هذه الأقاويل. لأنه هو جهوي، لقد كنت ارمقه وهو يتوجه "كالسلهوب" نحو مصطفى بلوصيف، ثم يذهب إلى عند الشاذلي.. "السلاهب" هؤلاء أعرفهم جيدا، وهذه القضية أخذها من عند البعض، وأعطاها صبغة وأخرجها بالشكل الذي أراد، بغرض اهانتي فقط.
ولماذا تحدث عن العقيد شابو وزرقيني؟
كذب في كذب. أنا ذهبت إلى عند زرقيني ، لأنني غادرت مدرسة العتاد، ولما لم يجد أين يوجهني، أمرني التوجه نحو قيادة الأركان وبقيت هناك ثلاثة أشهر، وهناك وجدت عمار ملاح ينظر.
معنى ذلك أن عمار ملاح كان مسؤولا عنك في تلك الفترة؟
لا، لم يكن مسؤولا عني. هو مع سي الطاهر، وأنا لم تكن لدي مسؤولية في قيادة الأركان بدون مسؤولية، ثم نادوني من أجل قيادة اللواء الثاني بعين الصفراء.. ولو كان كلامه صحيح، كيف يعينني بومدين على رأس هذا اللواء، الذي كان بمثابة القوة الضاربة للجيش. كيف يطلب مني العودة من المدرسة الحربية بفرنسا لأعود وأقود 25 ألف جندي في تندوف.
يمكن عمار ملاح هو من أوصل اختفاءك عند زرقيني، لبن عودة؟
لا أعتقد. لقد كان ذلك من نسيج خيال بن عودة، وأعتقد أنه أراد الرد علي لأنني قلت سابقا إنه اتخذ قرار دون أن يبلغ وزير دفاعه..
وصلنا إلى وفاة الرئيس الراحل، هواري بومدين. لا شك أن وفاة بومدين كان وقعه شديد ليس فقط على عموم الجزائريين، ولكن أيضا على المؤسسة العسكرية. فكيف تلقيتم الخبر؟
عندما سقط بومدين مريضا، ثم ذهب للعلاج في روسيا، ثم عاد للجزائر، عرفنا كلنا بأن سي بومدين في خطر، لأن مرضه كان مستعصيا. أردت فقط الإشارة إلى أمر، وهو، قبل وفاته كنت في تندوف، وحينها أرسل لي سليم سعدي طائرة، وطلب مني..
ما هي المسؤولية التي كان يتقلدها سليم سعدي يومها؟
كان قائد الناحية العسكرية الثالثة..
إذن أرسل لي طائرة كي أنتقل من تندوف إلى بشار، وكلمني يومها قائد أركان الناحية عبد الله بومدريس، وقال لي إن "سي سليم" سيكلفك بمهمة. لما وصلت، أبلغني أننا اجتمعنا نحن الضباط، وخاصة ضباط الثورة، وكان من بينهم أحمد جنوحات، قائد لواء، وقرروا تكليفك الانتقال إلى العاصمة للاتصال بقاصدي مرباح (كان يومها مسؤولا عن الأمن العسكري)، واتصل سعدي بالهاتف مع مرباح وأبلغه بأن نزار سينتقل للقائك.
الرسالة كانت تتمثل في المطالبة (الناحية العسكرية الثالثة) بجمع الجيش قبل أن تقرروا في من سيخلف بومدين الذي بات موته مسالة وقت.
قيل إن مرض الرئيس بقي سرا على الجميع. فكيف كانت تصلكم أنتم في الجيش المعلومات عن صحة الرئيس بومدين؟
كنا نتابع مرض الرئيس، وكنا على علم بأن مرضه خطير، وبدأنا نفكر في التداعيات، انطلاقا من اعتقادنا بأن وفاة بومدين ستخلق أزمة. نفس الشيء كما حدث في 1992. سي بومدين يموت في ذلك الظرف، ونحن ندرك أن من كان حوله من أعضاء المكتب السياسي الذي كان يضم سبع أو ثماني أعضاء، بينهم الكثير من التناقضات، وهذا من الطبيعي أن يخلق مشكلا. فكان من المستحسن أن نلتقي لدراسة الوضع قبل فوات الأوان، هذا ما كلفت به.
صعدت إلى بيتي، وكنت قد تركت زوجتي رحمها الله، في بشار أو في قسنطينة، وأعتقد أنني تركتها في قسنطينة.. ولما وصلت اتصلت ببيت قاصدي مرباح. وبالنسبة لي كنت أعتقد أنه في انتظاري لأنه كان يدرك وقت وصولي.
لما كلمته في الهاتف ردت علي زوجته، فأبلغتها بالأمر، فردت علي بأنه غير موجود في البيت حاليا، وأكدت بالمقابل أنه سيلتحق في غضون ساعة من الزمن. انتظرت حوالي ساعة ونصف ثم اتصلت فرد علي "سي مرباح"، فأبلغني بأنه غير ممكن لقائي به في ذلك الوقت، مبررا موقفه هذا بوجوده ضمن فريق اللجنة الطبية للرئيس بومدين المريض. وأبلغني بأنه عاد للبيت لقضاء بعض الأمور قبل العودة إلى مقر اللجنة بمستشفى مصطفى باشا الجامعي، حيث يرقد "سي بومدين" مريضا. فقلت له إذن نلتقي بعد عودتك، ومع ذلك لم يقدم لي قاصدي مرباح موعدا محددا، فضربت له موعدا في اليوم الموالي، فوافق.
كيف قرأت هذا الموقف من قاصدي مرباح؟
فهمت أن مرباح لا يريد مقابلتي، لكن السبب كنت أجهله. في تلك الليلة بقيت وحيدا في بيتي، فبدأت أفكر، ثم سارعت للاتصال بعبد الحميد لطرش، وكان يومها أمينا عاما لوزارة الدفاع.
عبد الحميد لطرش كان أيضا من الضباط الفارين من الجيش الفرنسي..
نعم كان من "ضباط فرنسا" ولكن كانوا مسؤولين (قالها وهو يضحك).
نعود لقصتي مع مرباح.. أخبرت لطرش بوجودي في العاصمة، وطلبت لقاءه فوافق، ولما وصلت إلى مكتبه، قصصت عليه تهرب قاصدي مرباح من لقائي، بالرغم من أنني جئت في مهمة للقائه.
عندها بادرني بقوله، ألم يتناهى إلى علمك جديد. قلت له ما هو؟ فرد، لقد تم تعيين "سي الشاذلي" منسقا للجيش.
كان هذا قبل وفاة الراحل بومدين؟
نعم، قبل وفاة بومدين. هنا فهمت. لم يرد استقبالي لأن القرار اتخذ.
من اتخذ القرار وعلى أي مستوى؟
مرباح هو من اتخذ القرار. ذات مرة جئت من تندوف للعاصمة، وقصدت مقر وزارة الدفاع، وسهرت هناك مع بعض الرفقاء إلى الساعة الـ 11 ليلا، ولما عدت للبيت، أخبرتني زوجتي بأن هاتفا من الناحية الثالثة، طلب طائرة مجهزة بعتاد صحي، عندها سارعت بالعودة إلى مقر وزارة الدفاع، فوجدت مصطفى بلوصيف، عباس غزيل ورشيد بن يلس..
ما هي المسؤوليات التي كانوا يتقلدانها؟
عباس غزيل كان في الرئاسة، ومصطفى بلوصيف كان مسؤولا على الأفراد، ورشيد بن يلس كان يومها مسؤولا على البحرية.. وجدت الثلاثة وطلب منهم انتظاري لأنني كنت بصدد استعمال الهاتف في غرفة مجاورة. عندها رجعوا إلى القاعة. وبعد عودتي إليهم، خاطبني بلوصيف قائلا: ياسي خالد أنت الذي عملت مع سي الشاذلي في الثورة، نطلب منك التوجه إلى الشاذلي وتحثه على القبول.. إنه خطوة للأمام وخطوتان للخلف.