"وكلاء فرنسا" أقنعوا الشاذلي بن جديد بمحو آثار بومدين!
12-03-2016, 11:12 AM

حاوره عبد الحميد عثماني

رئيس تحرير التحقيقات والحوارات الكبرى بجريدة الشروق


يعود رئيس الحكومة الأسبق سيد أحمد غزالي بالتفاصيل والأرقام، إلى وقائع اللقاء الذي جمعه، بصفته مدير عام شركة سوناطراك، بالرئيس هواري في أكتوبر 1973، رفقة وزير الطاقة والصناعة وقتها بلعيد عبد السلام، حيث يكشف في الجزء الثاني من حواره مع "الشروق"، أنّ الرئيس قرّر التبرع بكل مداخيل المحروقات الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط، بغرض شراء السلاح من الاتحاد السوفياتي لفائدة الأشقاء المصريين، بل أمر بشراء باخرة من أجل نقل 14 مليون برميل نفط إلى ميناء الإسكندرية.
ويتحدث بحسرة، وزير المالية في حكومة قاصدي مرباح بعد أحداث أكتوبر 1988، عن ما يعتبره مسلسل تدمير شركة سوناطراك، وكل آثار الرئيس الراحل هواري بومدين، على يد "خُدّام فرنسا"، حيث استغلوا قلة خبرة الرئيس الشاذلي بن جديد لتوريطه في كسر المنجزات البومدينية، على حدّ قوله.



في الحلقة السابقة أثرت محاولات التأثير على مسؤولي الشركة، وفي حدود علمي أنها كانت تعاني أيضا ضغوطات رهيبة من قطاعات وزارية أخرى على غرار المالية والتخطيط والأمن؟

نعم، إلى درجة أن وزير الطاقة بلعيد عبد السلام، ودفاعا عن استقرار الشركة أعطى ذات يوم أوامر مكتوبة، بمنع أي رجل أمن، سواء بزيّ مدني أو رسمي من دخول مقرات الشركة.



ماذا كانت مهمة هؤلاء الأمنيين في الشركة؟

رجال الأمن لهم أدوار مكتوبة، لكن بعضهم له تصرّفات شخصية متعلقة بالسلوكات الفردية، وهي انحراف عن المهام الأصلية.



هل هذا هو سبب تدخّل بلعيد بالمنع؟

فعلا، لأنهم انحرفوا عن حماية الشركة، وراحوا يبحثون عن مكاسب للنفوذ الشخصي، بهدف المصالح الخاصة داخل سوناطراك، وهذا ما رفضناه تماما.



كيف كان صدى هذه التعليمة داخل السلطة العليا؟

أحدثت ضجة كبيرة داخل الأوساط الحكومية، وبومدين انتصر لموقف بلعيد عبد السلام، حيث أوقف هؤلاء الأمنيين عند حدّهم القانوني، وألزمهم بالانضباط في العمل دون المساس أو التدخل في شؤون الشركة، وأضيف لك مثالا، الرئيس الشاذلي بن جديد رحمه الله، كان قائد الناحية العسكرية الثانية في وهران، وعلاقاتي به كانت جيدة، لكنه لم يتدخل يوما في عمل الشركة، وقد كانت لها نشاطات كبرى في مركب أرزيو، في وقت بحكم منصبه كان يتدخل في كل مصالح الدولة الجهوية إلا سوناطراك، لأنه يدرك أنها في حماية الرئيس وإطاراتها المسيّرين.



ماذا حصل بعد وفاة بومدين؟

مؤتمر الأفلان الرابع إذا تذكر، حمل شعار "الاستمرارية والوفاء للرئيس هواري بومدين"، والذي علته صورة الفقيد الراحل، ما يعني مواصلة السياسات والخيارات التي رسمها الرجل للجزائر من طرف خليفته الجديد، لكن بمجرد أن جلس على الكرسي، تصدّى "كمشة" من المحيطين به، المسّيرين من باريس، وأقنعوه بكسر كلّ آثار ومنجزات بومدين، حتى يبرز الشاذلي كقائد جديد في البلاد، وينسى الجزائريون رئيسهم الراحل، هذه هي الخطة التي تورّط فيها الشاذلي من البداية، ولم يكن مخيّرا فيها، بل فرضها عليه الفريق المقرّب منه.



حتى نوضح الأمور أكثر، منْ تقصد بهؤلاء، "ضباط فرنسا" أم الجهاز الأمني ؟

لا أريد تسمية الأشخاص، ليسوا المخابرات ولا ضباط فرنسا، هم موظفون سامون في الدولة، ما يهمّ أنهم مرتبطون بالمصالح الفرنسية، وفرنسا منذ إعلان التأميمات سعت للتدخل بكل الطرق، لما أمضينا عقد بيع الغاز مع الأمريكيين في نوفمبر 1969، الرئيس جورج بومبيدو تدخّل في جوان 1970 لدى نظيره الأمريكي ريتشاردنيكسون لإجهاض الاتفاق، حيث روّجوا إلى أنّ الجزائريين لا يملكون القدرات الفنية لاستغلال الغاز، مُعتبرين أن تلك الثروة هي احتياطي استراتيجي لهم حصريّا، يستغلونه وقتما وكيفما يشاؤون.



نعود إلى وضع شركة سوناطراك في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد الذي عزم على تدمير آثار العهد البومديني من وجهة نظرك؟

نعم، فقد بدأت الحملة على إطارات الشركة، وكنت أنا أول الضحايا، إذ أنه حينما شكّل حكومته الأولى، استدعاني إلى مكتبه قائلا لي بالفرنسية "اسمع يا غزالي، رجال بومدين هم رجالي، لكن أنا أطلب منك مغادرة وزارة الطاقة إلى قطاع آخر"، فقلت له "أولا، لستُ رجل بومدين، لقد حصل لي شرف العمل مع رئيس الدولة الجزائرية، لكن لا أعتبر نفسي رجلا له، ثانيا، أنّ الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفرض عليّ البقاء في مكاني، هو لو أنك قلت لي إنك تريد التغيير، وطلبت منّي ذلك إلى غاية تقييمي"، وأضفت له "لكن حينما تأمرني بالخروج من الطاقة، فهذا يعني أنك لا تحتاجني"، فأصرّ عليّ بالاستمرار في الحكومة، وأنا بدوري أبلغته بعدم رغبتي في المواصلة، فطلب منّي في الأخير أن أمكث معه 6 أشهر، غير أني قدمت استقالتي لاحقا بعدما شنّ حملة الاستهداف ضد قطاع الطاقة بظهور قضية " El paso" الشهيرة، حيث بعثت برسالة مفصّلة في عشر صفحات، مدعمة بملحق في 100 صفحة، حول ملابسات العقد مع الشركة الأمريكية إلى كل أعضاء اللجنة المركزية للحزب الواحد، بما فيهم الأمين العام للشاذلي بن جديد، دحضًا لأكذوبة بيع الجزائر للأمريكان، وهي نفس التهمة التي روّجها الفرنسيون عن الرئيس بومدين بعد تأميم المحروقات.



لا أعتقد أن الرئيس الشاذلي هو منْ فبرك هذه التهمة، بل هي من صنع محيطه؟

لا، ليس الشاذلي من صنع ذلك، وقف وراءها وزير الطاقة الجديد ومدير الأمن الأمني، إضافة إلى وزير آخر مستشار لدى بومدين منذ تعديل 1977.



وزير القطاع ومدير الأمن مفهومة، لكن ما علاقة الوزير المستشار بالملف؟

هذا الوزير عاش مع بومدين، وكان شاهدا على هذا العقد، لكنه لم يصرّح بالحقيقة، بل قال في اللجنة المركزية إنه كان مستشارا، ولم يسمع في حياته بهذا المشروع، ولا العقد إلا بعد وفاة بومدين.



والحقيقة غير ذلك؟

لقد حضر بصفته كوزير مستشار لدى الرئيس، حيث عرض الفنيّون تفاصيل المشروع على بومدين، طيلة سبعة أيام، لكنه زعم في النهاية الجهل بالمشروع جملة وتفصيلا.

خلاصة كلامي بهذا الخصوص، أن الرئيس قد وقع توريطه، وشخصيا قلت له "سي الشاذلي من حقك أن تؤسس لنفسك حضورا وكاريزما، وإذا لم تفعل فلست رئيسا"، لكنّي أوضحت له، أنه في الإمكان أن يقدم نفسه للجزائريين من خلال استكمال نقائص بومدين وسد الثغرات التي تركها، وهي بلا شك كثيرة، لكن ليس بتدمير الإنجازات الوطنية، بل اقترحت عليه إنجاز مشروع ضخم للمياه، وقد كانت الجزائر وقتها تعاني من نقصها، مع ذلك لا زلت أشدّد على أن الشاذلي فعل ما فعل بحسن نية، غير أنّ منْ حوله استغلّ قلّة خبرته، وما ساعد على تمرير أفكارهم هي صعوبة الوضع المالي مع بداية الثمانينيات، لأن نهاية العهد البومديني شحّتْ فيه كثيرا الموارد النفطية، حتى أن الرئيس كان يتابع الصادرات باخرة بباخرة، وبأدق التفاصيل، ولهذا لما تقلد الشاذلي مقاليد الحكم، قال مقولته المعروفة "شحالْ كان بومدين رافد من هموم فوق ظهره"، هذه العوامل مجتمعة أوقعت الرئيس الجديد في الفخّ، وخسرت الجزائر أموالا طائلة، وإنهاء عقد "البازو" لوحده كلّفها خسارة قدرها خمسين مليار دولار آنذاك، ما يعادل 100 مليار دولار اليوم، هذه هي خلاصة الإجابة في هذا السياق، أي حصل تغيير جذري لوضعية الشركة.



قبل أن نواصل الحديث في شؤون الطاقة في المرحلة الحالية، يحضرني حديث جرى بينك وبين الرئيس بومدين في غضون حرب 1973 بشأن دعم الأشقاء المصريين، أريد أن أسمع منك مباشرة تفاصيل الموضوع؟

فعلا، هي ذكريات جميلة عن زمن التضامن العربي، يعكس الفرق بين جزائر الثورة وشعارات العزة والكرامة اليوم، كمْ منحنا تونس في محنتها الاقتصادية بعد 14 يناير 2011، المساعدة لم تتعدّ 100 مليون دولار، وحتى الفلسطينيين أيضا، على خلاف ما هو شائع، لا نقدم لهم إلا مبلغا يسيرا، في ذلك الوقت، حدث اندلاع حرب تشرين 73 ارتفعت الأسعار من دولارين إلى 5 دولارات، استدعاني بومدين رفقة بلعيد عبد السلام، وخاطبنا قائلا "كم نربح من هذه الطفرة، فأجبناه حوالي 400 مليون دولار"، من يوم الغد ذهب إلى موسكو بشيك قدره 400 مليون دولار، وهو ما يعادل حاليا ملياريّ دولار، ذهب بشيك ولم يسافر بالكلام، حيث وضعه فوق طاولة الرئيس ليونيد بريجنيف، ولم يكتف بذلك، بل أعطى لشركة سوناطراك أمرا بتزويد مصر بـمليونيّ طنّ من النفط، ولم نُكن وقتها نملك باخرة لنقل المحروقات، لذا طلبتُ من الشركاء الفرنسيين مثل "توتال" أن يستأجروا باخرة للجزائر، بهدف إيصال المساعدات للمصريين، لكنهم رفضوا بحجة أنّ شركات الـتأمينات لا تضمن لهم حقوقهم في حال التعرض لأي اعتداء عسكري في منطقة الحرب، مقابل ذلك، اقترحوا علينا بيع باخرة للجزائر وتغيير علمها، فاشتريناها في تلك الليلة ذاتها بأكثر من 6 ملايين دولار، وبعد يوميْن من أوامر الرئيس بومدين، كانت تلك الباخرة في ذهاب وإياب بين ميناءي بجاية والإسكندرية.



عذرا على المقاطعة، مليونا(2) طنّ، كم تقدّر بعدد البراميل؟

أكثر من 14 مليون برميل من النفط قدمناها مجانا للأشقاء في مصر، وماليا كانت في حدود 100 مليون دولار، أي نصف مليار دولار بالقيمة الحالية، ضف إلى ذلك، أعطى أمرا آخر بإرسال كافة معدات سوناطراك والتي يحتاجها الإخوة في مصر، مثل العربات وحاملة العربات العملاقة والشاحنات ذات الصهاريج، والكل يعلم بالمشاركة العسكرية الجزائرية في خطوط المواجهة مع العدو.

نغلق القوس.. إذا تجاوزنا عشريّة الشاذلي ثم العشرية الحمراء، كيف تقيّم حالة القطاع، هل استدركنا الأخطاء السابقة أم هناك تكريس لها عبر الفضائح الأخيرة؟

أنت مطلع على الأٍرقام، ويمكنك إجراء مقارنة بسيطة، كل ورادات الجزائر منذ عهد أحمد بلة إلى وفاة بومدين لم تتجاوز 25 مليار دولار، أما اليوم فقد استهلكنا 800 مليار دولار خلال 15 عاما.



أنا أقصد وضع شركة سوناطراك، وليس موضوعنا تقييم الحالة الاقتصادية والتنموية للبلاد بصفة شاملة؟

الواردات مصدرها شبه الوحيد هو الشركة، وبالتالي لا يمكن الفصل بينهما.



بصورة أوضح، كيف تؤثر برأيك فضائح السنوات الأخيرة، على سمعة الشركة وأدائها ومعنويات مسيريها وإطاراتها؟

هذه الفضائح في الحقيقة ما هي سوى نتيجة طبيعية لمسلسل التدمير الذي تعرضت له الشركة منذ وفاة الرئيس بومدين، وما يحصل في السنوات الأخيرة هو تتمّة فقط لتحطيم ما تبقى من مكتسبات، لأن السوسة بدأت تنخر "البهيمة" منذ 1979، وفي الوقت الحالي فُتحت كلّ الأبواب للقضاء عليها نهائيا، لأن الشركة فقدت الحماية السياسية، وأوضح لك أكثر، حينما كنت سفيرا في أوروبا في الثمانينيات، كان اليابانيون والبريطانيون، بحكم علاقاتي السابقة بهم، يثيرون لي قضية دفع الرشوة للمسؤولين الجزائريين في الشركة وخارجها، الذين أصبحوا يشترطون عليهم الأمر مقابل الحصول على الصفقات، لقد وجدوا أنفسهم في وضع محرج، فأرادوا استشارتي بحكم الاحترام والثقة القائمة معي، فكنت أجيبهم "عليكم أن تقيّموا الموقف بأنفسكم، وعينكم هي ميزانكم"، وأوضحت لهم أنّ التعامل مع القضية، لا يتوقف على اقتناص الفرص الآنية، بل يتعلق برؤيتكم لمستقبل العلاقات مع الجزائر، على المدى القريب والبعيد، وبالتالي يجب أن تتصرفوا وفق هذه النسق، لأن الحقائق ستظهر يوما ما.

إذن السوسة نخرت الثمرة منذ بداية عهد الشاذلي، والفرق الوحيد، هو أنه منذ 1999 عرفت فتح كل الأبواب والحدود، حتى وصلنا إلى فضيحة الشركة الإيطالية، والتي لم نسمع بها إلا بعد تحريكها من طرف العدالة الإيطالية، أنا لا أتهم أحدا، لكن أتساءل هل كلّ الحيثيات والأرقام والأشخاص الذين ورد ذكرهم في عرائض الاتهامات، كل ذلك مزيّف، التحقيق والفصل متروك للعدالة من حيث المبدأ، لكن ما يقلقني هو أن الفضيحة قائمة على دفع رشاوى، وهذه الأخيرة لا تكون إلا على حساب المال العام والمصالح الوطنية، وفي هذه الحالة كان من المفروض أن تتحرك الدولة الجزائرية لتتأسس كطرف مدني، لماذا لم تفعل ذلك، هذا الوضع يدفعني إلى تصديق ما يروّج في روما.



الجزائر طلبت التأسيس كطرف مدني، لكن الإيطاليين رفضوا ذلك؟

لستُ أدري، لكن المتهم الرئيسي، هو مسؤول لمدة 12 سنة، واستمرّ التحقيق طيلة سنوات، وهو يزعم أنه لا يعلم أي شيء في القضية، كان على الحكومة الجزائرية على الأقل أن تستدعي هذا الشخص بصفته مسؤولاً على القطاع، وتطلب رأيه مباشرة، وتسمع إلى شهاداته في الملفّ، هل من العدالة أن نتابع إطارات الشركة في قضايا ثانوية لا تمثل سوى فتات في الفساد، ونسكت على فضيحة بـ 280 مليون أورو، ما يعادل أكثر من 5000 مليار سنتيم في قضية واحدة فقط، حيث يسمح لذات المسؤول بالمغادرة نحو الخارج عبر القاعة الشرفية.



ألا يراودك الشك في أن يكون هناك توظيف سياسي في القضية ؟



توظيف سياسي من طرف منْ؟

أنت تعرف أن القضية تفجرت ضمن سياق الصراع داخل عصب السلطة بين فريقي الرئاسة والجهاز الأمني، هناك من يربطها بأوراق المناورة بين الطرفين؟

قضية استهداف الفريق الرئاسي أثارها مسؤول القطاع بالذات، حيث أنكر علاقته بالقضية تماما، والسؤال لا يُطرح في هذا الاتجاه، إنما الأصل أن نبحث عن الحقيقة، يعني هل هناك قضية فساد أم لا، بغض النظر عن التوظيف السياسي من عدمه، هل المؤسسات الإيطالية تحاسب وتحاكم موظفيها السامين على أسس قانونية وحجج منصفة أم لا، هذا يعني أنه يوجد احتمالان: إما أنها على صواب، وبالتالي واجبنا نحن أن نستخبر منها تفاصيل القضية، وإما أنها على باطل، وفي هذه الحالة نغلق الملفّ، لكن الواقع أننا نعيش محاكمة طالت كثيرا، وأدّت إلى معاقبة موظفين سامين وقدمت أرقاما وأسماء جزائرية، في حين نرى أن الجزائر تنظر إلى الملف وكأنها غير معنية، ما يعني أنّ هناك فساد وفضيحة مؤكدة يراد التستر عليها.

.. يتبع