عبد الملك بن محمد العامري .. الحاجب المظفر
15-01-2020, 10:24 AM




وفاة المنصور ابن أبي عامر

توفي المنصور بن أبي عامر وهو في أوج قوته، و الأندلس قد بلغت من القوة والعظمة ما لم تَصِلْ إليه من قبلُ في أي عصر من العصور، إلى جوار ما كان فيه أعداؤها من الضعف الشديد، وكذلك كان الحال داخل الأندلس نفسها؛ فالخليفة الأموي هشام المؤيد كان رجلاً ضعيفًا، في حين كانت قوة العامريين قد بلغت شأوًا بعيدًا، ومع ذلك فبمجرد أن مات المنصور بن أبي عامر سارع ابنه عبد الملك إلى قُرْطُبَة، قبل أن يطرأ أي أمر لم يكن قد استعدَّ له من قبل، ليستصدرَ مرسومًا من الخليفة بتوليته الحجابة بعد أبيه، وكان أبوه قد عَهِدَ له بالحجابة من بعده -كما ذكرنا- وتمت توليته الحجابة كما أراد يوم الاثنين لثلاث بقين من رمضان (392هـ)، وبقي في الحكم سبع سنين إلى أن مات سنة (399هـ) [1].

عبد الملك المظفر

سار عبد الملك المظفر على نهج أبيه في سياساته الداخلية والخارجية، وفي غزوه الدائم للأراضي النصرانية في الشمال، حتى قال عنه المقري التلمساني في نفح الطيب: «جرى على سنن أبيه في السياسة والغزو، وكانت أيامه أعيادًا دامت مدَّة سبع سنين، وكانت تسمى بالسابع تشبيهًا بسابع العروس، ولم يزل مِثْلَ اسمه مظفَّرًا إلى أن مات سنة تسع وثلاثمائة في المحرم، وقيل: سنة ثمان وتسعين»[2].

المظفر وسيرة العظماء

وقد أُعجب به المسلمون وأحبوه حبًّا عظيمًا، فأثنوا عليه أجمل الثناء، فكان من ذلك ما نقله ابن الخطيب: «قالوا: كان عبد الملك أسعد مولود وُلِدَ بالأندلس على نفسه وأبيه وغيرهما؛ فجدَّد الألقاب، واقتفى الرسوم، فقد ذُكر أن المنصور توفِّي عن ألقاب عديدة من ألقاب الطبقات من بابه من الفقهاء والعلماء والكتاب والشعراء والأطباء والمنجمين؛ فلم يكونوا أوفر عددًا ولا أسنى أرزاقًا منهم في أيامه، مع عدم التلبُّس بشيء من أمرهم؛ إذ كان مُقْتَصِرًا على شأنه في التجنُّد والعمل بالسلاح؛ حفظًا للرسوم، والتماسًا لجميل الذِّكْر، وحرصًا على التزيُّد والشفوف على غيره، وكان مثلاً في الحياء والشجاعة؛ إذ كان عند الحياء والحشمة بكرًا عزيزة، وفي مواقِفِ الكريهة أسدًا وَرْدًا، لا يقوم له شيء إلاَّ حطمه»[3].

وقد زاد من حُبِّ المسلمين له وإعجابهم به أنه ابتدأ عهده بأن أسقط عن المسلمين سدس الجباية التي كانت عليهم[4]، فتعلَّقت به قلوب الرعية وآمالها، ووجدت فيه العزاء عن فقدان أبيه، وبخاصة أنَّ أباه كان يعتمد عليه دائمًا في حياته، ويُكَلِّفه بالمهام الجسام؛ كقيادة الجيوش وما إلى ذلك.

جهاد الحاجب المظفر ضد النصارى

كان من عادة نصارى الشمال -كما رأينا- أنه متى مات حاكم الأندلس -وبخاصة إذا كان قويًّا- ضربوا بالمعاهدات والمواثيق عُرض الحائط، وأخذوا يُهاجمون الثغور والأراضي الإسلامية بهدف الثأر من المسلمين وإضعافهم، وسلب ما يمكن سلبه، وهم بهذا -أيضًا- يُضعفون موقف الحاكم الجديد، الذي يسعى لتوطيد ملكه، رأينا هذا عند تولِّي عبد الرحمن الناصر، كما رأيناه عند تولِّي الحكم المستنصر وابنه هشام المؤيد، ولكنهم هذه المرَّة لم يفعلوا ذلك، وربما كان ذلك بسبب الضربات القوية المؤثِّرة التي وجهها لهم المنصور بن أبي عامر في حياته.

ولم يكتفِ الحاجب المظفر بهذه الموادعة؛ إذ إنهم لو وادعوا اليوم، فلن يوادعوا غدًا إذا اجتمعت لهم قوتهم، ثم ربما يظنون به الضعف والجبن عن لقائهم، ومن هنا بدأ الحاجب المظفر يُجَهِّز لغزو نصارى الشمال، واجتهد في الإعداد؛ حتى إن أهل العدوة قد سمعوا بهذه الغزوة، فتوافدوا إلى الأندلس للمشاركة فيها، وفيهم جماعة كبيرة من أمرائهم وزعمائهم وفقهائهم، وقد أحسن الحاجب المظفر استقبالهم، وأغدق لهم العطاء، فقبل بعضهم وتحرَّج البعض الآخر.

غزو إمارة برشلونة

وخرج الحاجب المظفر من الزاهرة بجنده ليلة 11 شعبان سنة 393هـ في مشهد مهيب، وسار حتى وصل مدينة سالم، فانضمت له قوة من قشتالة، نزولاً على ما كان بين قشتالة والمنصور بن أبي عامر من معاهدات، ثم سار إلى إمارة بَرْشُلُونَة، ودارت بينه وبين نصارى بَرْشُلُونَة حرب شديدة، هُزموا فيها هزيمة نكراء، واستولى المسلمون على عدد من حصون بَرْشُلُونَة، وهدموا حصونًا أخرى، وغنموا وسبوا، وعمل الحاجب المظفر على إسكان المناطق المفتوحة بالمسلمين، فنهى الجنود عن تدمير البيوت وهدمها، وأمر بنقل المسلمين لعمارة هذه الأرض، وجعل لمن يسكنها منهم راتبًا شهريًّا يتقاضاه من بيت المال، وقضى الحاجب المظفر عيد الفطر بأرض بَرْشُلُونَة، واحتفل به مع جنوده ورجاله في بسائطها، ثم أمر بإرسال رسالتين للتبشير بالفتح؛ إحداهما إلى الخليفة هشام المؤيد، والثانية لتُقْرَأ على المسلمين كافة في قُرْطُبَة، ثم في باقي الولايات.

وجاء في الرسالتين أن عدد السبي بلغ 5570، وأن عدد الحصون التي اقتحمت عَنْوة ستة حصون، وعدد الحصون التي أخلاها العدوُّ فخُرِّبت ودُمِّرت 85 حصنًا، وذكر أسماء هذه الحصون كلها في الرسالتين، ثم أَذِنَ للمتطوعين معه للجهاد بالعودة إلى ديارهم وبلدانهم؛ إذ إن الهدف الذي خرجوا من أجله قد انتهى؛ فعاد المتطوعون إلى بلادهم مسرورين فرحين بنصر الله[5].

وفي السنة التالية لهذه الغزوة (394هـ) -وفي دلالة واضحة على ما وصلت إليه قوة الدولة وهيبتها في عهده- احتكم إليه قادة الممالك النصرانية[6]، وفي ذلك ينقل ابن عذاري المراكشي عن المؤرخ الفقيه أبي مطرف محمد بن عون الله (وهو من معاصري هذه الحوادث) قوله: «وانتهى المظفر عند ملوك الأعاجم في دولته إلى منزلة عظيمة، مثل منزلة والده المنصور، وأحلُّوه محلَّه في الإصغاء له والتعظيم؛ لجلاله والهيبة من سخطه والطلب لمرضاته، حتى صار أعاظمهم يحتكمون إليه فيما شجر بينهم؛ فيفصل الحُكم فيهم، ويرضون بما قضاه ويقفون عنده»[7].

غزو مملكة قشتالة

وتوالت غزوات الحاجب المظفر -رحمه الله- على أراضي النصرانية في الشمال، وكانت غزوته الخامسة سنة (397هـ)، وفيها اتجه بجيشه إلى مملكة قشتالة، فاتحدت جميع الممالك والقوى النصرانية ضده، ودارت بين الفريقين معركة شديدة، نصر الله فيها المسلمون نصرًا عظيمًا، وكان قد بلغ الناسَ في الأندلس خبرُ اتحاد الممالك النصرانية ضد جيش المسلمين، فأشفقوا على الجيش الإسلامي، وخافوا عاقبة ذلك، وكان أهل العساكر المشاركين في الغزوة هم أكثر الناس خوفًا، فلما وردهم خبرُ انتصار المسلمين، كان فرحهم بذلك فرحًا عظيمًا، وعلى أثر هذه الغزوة تلقّب عبد الملك بالحاجب المظفر بالله[8].

ثم خرج بعد ذلك في شاتية سنة (398هـ) -وكانت هذه هي شاتيته الوحيدة- وقد خرج فيها إلى قشتالة، ودارت بينه وبين نصارى قشتالة معارك عنيفة استمرَّت عدَّة أيام، انتهت بنصر عظيم للمسلمين[9]، وكانت هذه هي غزوته قبل الأخيرة؛ لأنه خرج إلى غزو قشتالة في صائفة العام نفسه (398هـ)، ولكنه مرض مرضًا شديدًا في مدينة سالم في شمال الأندلس، فتفرَّق عنه كثير من الجنود المتطوعين معه، ففشل مشروع الغزو، وعاد إلى قُرْطُبَة[10]، ثم عاد وشعر ببعض التحسن فتحامل على نفسه وبدأ يتأهَّب إلى غزو قشتالة من جديد، وخرج بالفعل متحاملاً على نفسه في شاتية عام (399هـ) يقصد قشتالة، إلاَّ أن الحركة قد آذته وزادت مرضه، فلم يَعُدْ يستطيع الغزو، فعادوا به محمولاً على محفَّة، وتوفي –رحمه الله- في الطريق إلى قُرْطُبَة في صفر عام (399هـ) [11].

[1] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/3.
[2] المقري: نفح الطيب،1/423.
[3] ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص84.
[4] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 3/3، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص84.
[5] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/4.
[6] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 3/10، وتاريخ ابن خلدون، 4/181.
[7] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/10.
[8] المصدر السابق، 3/14.
[9] المصدر السابق، 3/21.
[10] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 3/23.
[11] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/27، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص89.
د. راغب السرجاني