نهاية الحرب العثمانية البندقية (1463- 1479م)
28-06-2021, 12:26 PM


غزو الإفلاق والتخلُّص من دراكولا: (1476م)

في نوفمبر 1476م غزا دراكولا الثالث بمساعدة استيفين الثالث إقليم الأفلاق، وتمكَّن من طرد لايوتا الأمير التابع للعثمانيين[1]؛ ولم يستطع الفاتح إزاء هذا التصعيد الخطر أن ينتظر للصيف، إنما حرَّك جيوشه فورًا إلى الإفلاق، ونصب العثمانيُّون كمينًا خَطِرًا لدراكولا، الذي يبدو أنَّه فقد مهاراته القديمة بفعل سجنه سنواتٍ طويلة، فوقع في الكمين، وقُتِل فورًا، وكان هذا في ديسمبر 1476م[2]، وهكذا أُعيد لايوتا إلى عرش الإفلاق[3]، وانتهت قصَّة دراكولا!

لقد كان الأمر أيسر من كلِّ تخيُّل!! فدراكولا الذي دوَّخ الدولة العثمانية في سنوات حكمه الأولى وقع الآن بعد حكمٍ لم يلبث أكثر من شهرين، وكان سقوطه مدوِّيًّا؛ إذ إنَّه من الرموز الكبرى التي واجهت الدولة العثمانيَّة ردحًا من الزمان، وهكذا حقَّق العثمانيُّون نصرًا كبيرًا بالتخلُّص من هذا الطاغية.

غزو مدينة البندقية (ڤينيسيا): (1477م)

أراد محمد الفاتح أن يضغط على البندقية نفسيًّا، وعسكريًّا، واقتصاديًّا، وذلك لكي يُنهي الحرب بينهما، والمستمرَّة منذ عام 1463م، فقرَّر القيام بعمليَّةٍ عسكريَّةٍ نوعيَّةٍ غير مسبوقة، وكانت تتمثَّل في إرسال فرقة ميليشيات عسكرية لغزو إقليم الفريولي Friuli الإيطالي شرق مدينة البندقية، والهدف تحطيم معنويات الشعب البندقي ليضغط على حكومته فتُعلن الاستسلام للفاتح، خاصَّةً أن إقليم الفريولي من الأقاليم الاقتصادية الذي يستثمر فيه أثرياء البندقية أموالهم[4]، فتهديده لا يعني الخطورة على الأرواح فقط، بل يعني كذلك تهديد الأموال البندقية، وهي عماد الدولة الرئيس. كانت الفكرة مبدعة، ولكن التنفيذ كان أكثر إبداعًا!

تحرَّكت من إقليم البوسنة فرقةٌ عثمانيَّةٌ قوامها ألف فارس بقيادة عمر توراهان أوغلو بك Turahanoğlu Ömer Bey[5] (خريطة رقم 16)، واخترقت كرواتيا بكاملها من الجنوب إلى الشمال، وكانت تتبع المجر آنذاك، ثم اخترقت سلوڤينيا، وكانت تابعةً في هذا الوقت لإمبراطوريَّة النمسا[6]، التي كانت تُعرف في ذلك الوقت بالإمبراطوريَّة الرومانيَّة المقدَّسة، وكانت إمبراطوريَّةً عملاقة، وتُمثِّل إحدى أهمِّ القوى في أوروبا كلِّها، وكانت معاديةً بطبيعة الحال للدولة العثمانيَّة، وقد شاركت قبل ذلك في حرب الدولة العثمانيَّة عام (798هـ= 1396م) في معركة نيكوبوليس[7]، وأخيرًا وصلت الفرقة العثمانية إلى مدينة جوريزيا Gorizia (الآن في إيطاليا)[8]، حيث عبرت نهر إيسونزو Isonzo (وهو يعرف -أيضًا- بنهر سوكا Soča)[9]، ودخلت بذلك إقليم الفريولي التابع للبندقيَّة، وعند مدينة جراديسكا Gradisca دارت معركةٌ سريعةٌ بين الفرقة العثمانيَّة والجيش البندقي، وكتب الله نصرًا كاسحًا للعثمانيِّين على البنادقة؛ إذ قُتِل في هذه المعركة قائد البنادقة چيرولامو نوڤيلا Girolamo Novella، وأُسِرَ – كما يذكر المؤرِّخ البيزنطي الذي كان يعيش في البندقية في ذلك الوقت ثيودور سباندونيس Theodore Spandounes- عشرون ألفًا[10]!

إنَّه حدثٌ كبيرٌ حقًّا!

كيف لهذه الفرقة العثمانيَّة الصغيرة أن تُحقِّق هذا النصر الكبير؟ وكيف لها أن تُسيطر على عشرين ألف أسير؟ وكيف تتحرَّك بهم هذه المسافات الطويلة دون اضطراب؟ ثم الأهم من كلِّ ذلك هو كيف لم يكتفِ العثمانيُّون بهذا النصر الساحق ويعودون أدراجهم بعد أن أحدثوا دويًّا صاخبًا في شرق إيطاليا؟ نقول هذا الكلام لأنَّه بعد هذا الانتصار المجيد أكمل العثمانيُّون غزوهم لإيطاليا غربًا متوغِّلين في إقليم الفريولي ليُحْدِثوا رعبًا لم يعرفه الإيطاليون منذ عقودٍ كثيرة؛ لقد أحدث العثمانيُّون عدَّة حرائق كبيرة في المزارع الضخمة التي تنتشر بين نهري إيسونزو Isonzo وتاجليامنتو Tagliamento، بعرض أكثر من



أربعين كيلو مترًا، حتى صارت الحرائق تُرى من مدينة أوديني Udine في شمال الوادي الواقع بين النهرين، بل عبرت الفرقة العثمانيَّة نهر تاجليامنتو، وأكملت طريقها غربًا، لتُحدث الحرائق نفسها مرَّةً أخرى في الوادي الواقع بين نهر تاجليامنتو شرقًا، ونهر بياڤي Piave غربًا، بعرض أكثر من أربعين كيلو مترًا كذلك[11]، وهذه الحرائق الأخيرة كانت من الشدَّة بحيث يراها أهل مدينة البندقية ذاتها من برج كنيسة سان ماركو Basilica di San Marco الشهيرة وسط المدينة[12]!

حقَّقت الحملة نجاحًا كبيرًا عبَّر عنه المؤرِّخ الأميركي كينيث سيتون بقوله: «كانت حملة الأتراك فوق العادة» (extra ordinary)[13]، وقد ردعت هذه الحملة البندقية تمامًا، فلم تُفكِّر قط في ضرب سواحل الأناضول منعًا لإثارة الدولة العثمانيَّة، وقد ربط المؤرِّخ الأميركي ستانفورد شو Stanford Shaw بين توقُّف غارات البندقية على الأناضول وهذه الحملة[14]، وكان من الواضح أنَّ البندقية صارت تمرُّ بأزمةٍ حقيقيَّةٍ لم تعهدها من قبل؛ ولهذا يعتبر كينيث سيتون أنَّ هذه الفترة هي أكثر فترات الجمهوريَّة ظلامًا في كلِّ تاريخها[15]، وكانت تتمنَّى إنهاء الحرب مع العثمانيِّين بأيِّ صورة، لكنَّ كبرياءها وتاريخها ومصالحها المستقبليَّة، يمنعها من التقدُّم إلى العثمانيِّين بطلب السلام؛ لأنَّها تعلم أنَّ شروط الفاتح ستكون قاسيةً في هذه الظروف، أمَّا الفاتح فكان يعلم الوضع الرائع التي وصلت إليه دولته في هذه المرحلة، ولهذا لم يفتح الباب الدبلوماسي قط مع البندقية؛ إنَّما أراد استمرار الطَّرْقِ على الحديد وهو ساخن، ليُشَكِّل الأحداث وَفق إرادته هو لا إرادة البندقية، وهكذا استمرَّ سعيه الحثيث لإنهاء المسألة بالطريقة العسكريَّة، وهذا ما مهَّد للخطوة القادمة!

حملة عسكرية كبرى على ألبانيا والبندقية، وفتح ألبانيا: (1478)

في مايو 1478م، ولحسم مسألة ألبانيا والبندقية معًا، أخرج الفاتح ثلاثة جيوشٍ ضخمةٍ في آنٍ واحد؛ كان الجيشان الأول والثاني متجهين إلى مدينة شقودرة الاستراتيجية في شمال ألبانيا، والتابعة للبندقية، وكان الجيش الثالث، والذي كان تحت قيادته شخصيًّا، متجهًا إلى كرويه عاصمة ألبانيا، ومركز التمرُّد هناك[16].

ضرب الجيش الأول الحصار على مدينة شقودرة بدايةً من 14 مايو 1478م[17]، وتُعتبر هذه المدينة من أحصن مدن أوروبا، وهي المعقل الرئيس للبندقية في غرب البلقان، ولم يتمكن جيشٌ من إسقاطها في كلِّ تاريخها[18]، وفي أوائل يونيو 1478م وصل الجيش الثاني إلى المدينة، وفي الوقت نفسه وصل الجيش الثالث بقيادة الفاتح إلى كرويه[19].

كانت حملة محمد الفاتح رحمه الله إلى كرويه حملةً ناجحةً بكلِّ المقاييس؛ فالمدينة التي قاومت قبل ذلك ثلاث حملات همايونيَّة في عهدي مراد الثاني ومحمد الفاتح، سقطت هذه المرَّة في أيَّامٍ قليلة، وفتحت أبوابها للفاتح في يونيو 1478م[20][21]. هذا النجاح السريع دفع الفاتح إلى ترك المدينة مع حاميةٍ والتوجُّه بجيشه الرئيس إلى شقودرة لمساعدة الجيشين الأول والثاني في الحصار، وقد وصل الفاتح إلى شقودرة في أوَّل يوليو 1478م[22]، وبوصول الفاتح بلغ تعداد الجيش العثماني ثلاثمائة وخمسين ألف مقاتلٍ عثماني[23]، ويُؤكِّد المؤرِّخ النمساويُّ الشهير، وصاحب أكبر موسوعةٍ عن التاريخ العثماني، ڤون هامر Von Hammer هذه المعلومة في موسوعته[24]، وهذا أكبر جيشٍ في تاريخ الدولة العثمانية حتى هذه اللحظة!

كانت استراتيجية الفاتح شبيهةً بما فعله في حصار القسطنطينية؛ فقد قرَّر القصف المتتالي حتى ينهار جزءٌ من السور، ثم تتم بعدها عملية اقتحامٍ للسيطرة على القلعة. كان القصف عنيفًا للغاية، وقد أحصى ڤون هامر عدد القذائف المطلَقة على المدينة في الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر يوليو فوجد أنَّها ألفين وأربعمائة وإحدى عشر قذيفةً[25]، ومع ضراوة القصف إلا أن الفاتح كان يشعر أن المدينة لن تسقط! فالمدينة مبنيَّةٌ على مرتفعاتٍ وعرةٍ للغاية، وتسلُّق هذه المنحدرات سيكون عسيرًا على الجيش، وقد يكون غير عمليٍّ في الواقع! هذا الشعور دفع الفاتح إلى إخراج فرقةٍ من ثلاثين ألف مقاتل بقيادة والي البوسنة إسكندر بك للإغارة الخاطفة على إقليم الفريولي من جديد بهدف الضغط السياسي والاقتصادي والأمني على البندقية، ليدفعها إلى تسليم شقودرة وبقيَّة الحصون دون قتال. حاول الجنود العثمانيون ثلاث مرَّاتٍ أن يقتحموا الثغرات الناتجة عن القصف دون نتيجة، ممَّا دفع الفاتح إلى تنفيذ محاولة اقتحامٍ كبرى في يوم 22 يوليو، ولنترك المؤرخ التركي كيڤامي Kivami المعاصر للأحداث يصف لنا المحاولة: «في ذات صبح -وهو يوم 22 يوليو- قرَّر الجنود المسلمون القيام بمحاولة تسلُّل، ليروا كيف ستسير الأمور، وهل يُمكن لهذه القلعة أن تُفتح. على الفور نزل كلُّ الفرسان عن خيولهم، وتحوَّلوا جميعًا إلى مشاة (لاستحالة التسلُّق وهم على خيولهم). لبس الجميع الصدور الواقية، وحملوا دروعهم، وارتدوا خوذاتهم، وأخرجوا سيوفهم من غمادها؛ طاعةً لأمر السلطان، غير آبهين بالموت، ورفع الجميع راياتهم، وقُرِعت طبولهم، ونُفِخت أبواقهم، واصطفُّوا مكوِّنين كتائب من كلِّ اتِّجاه، إيمانًا من الجنود أنَّ مهمَّتهم هي في سبيل الله، هجم الجميع على القلعة وهم يردِّدون: «الله.. الله..». كانت القذائف والقنابل والطلقات تتساقط كالمطر، وكانت رءوس الجنود تطير كالكرات، بينما كانت الأذرع تُقْطَع بقصف المجانيق. كانت القذائف الصخريَّة الضخمة ترتفع في كلِّ مكان، ومع ذلك كانت السيوف مشهرة لتخترق أكباد العدو، ولتشطر أجسادهم إلى نصفين، اندفع في لحظةٍ واحدةٍ مائةُ ألف رجلٍ نحو العدوِّ في حملةٍ صادقة؛ ولكنَّهم اكتشفوا أنَّه من المستحيل اختراق القلعة من خلال الثقوب التي في الجدران! على الرغم من جهودهم المثيرة للإعجاب لم يجد الجنود الطريق إلى النصر! سقط الكثير من الرجال الشجعان شهداء خلال الحملة وهم يرفضون الاستسلام. في النهاية أدرك الجيش الإسلامي أنَّه في وضعٍ خطرٍ للغاية، فانسحب، وعاد الجنود إلى أجنحتهم في حزن. أسعد هذا الوضع العدو، وتفطَّرت قلوب المسلمين بما في ذلك القلب المتميِّز للسلطان»[26]!

هذا وصفٌ يحمل الكثير من الدلالات! إنَّه يكشف لنا طرفًا من الصعوبات الكبيرة التي اعترضت الفتوحات العثمانيَّة في أوروبا، ويصف الشجاعة منقطعة النظير التي كان عليها الجنود العثمانيُّون، ويُوضِّح كمَّ التضحيَّات التي بُذِلت في سبيل تحقيق النصر، ويُؤكِّد أنَّ هذا الجهد كلَّه كان في سبيل الله، وحبًّا في الإسلام، ويُبرز أنَّ الفتوحات العظيمة لم تكن سعادةً فقط، بل امتزجت بآلام وأحزان كثيرة، وأخيرًا يكشف لنا المشاركة الوجدانيَّة والجسديَّة للسلطان محمد الفاتح لجنوده الأبرار، وهكذا يكون الأمير الصادق الذي لا ينفصل عن جنده أبدًا؛ فهو معهم في حربهم وسلمهم، وهو مشاركٌ لهم في فرحهم وحزنهم.

هكذا انتهت حملة يوم 22 يوليو بخسائر عثمانيَّة جسيمة، فقد سقط منهم في هذه الهجمة اثنا عشر ألف مقاتل من قوَّات النخبة! ومع ذلك لم ييأس الجيش العثماني، إنما كرَّر محاولة الاختراق في يوم 27 يوليو 1478م[27]. يقول كيڤامي: «في هذه الهجمة سقط كثيرٌ من المحاربين الجرحى على الأرض شهداء، ومرَّةً أخرى يختار اللهُ العظيم أن يكون هذا اليوم هو يوم سقوط الشهداء لهؤلاء الرجال الشجعان من الجيش الإسلامي، وهكذا اقتضت حكمة الله أن يُعطي الحزن للأصدقاء، والفرح للأعداء»[28]! كانت الخسائر العثمانيَّة كبيرة، والشهداء بالآلاف! يذكر بابينجر أنَّ الجيش العثماني فَقَد ثلثه في هذه الهجمة[29]، ومع أن هذه في الغالب مبالغةٌ إلا أنه دون شَكٍّ كان الضحايا كثيرين للغاية؛ لأن قرار الفاتح بعد هذه الهجمة كان الانسحاب بمعظم الجيش، مع الإبقاء على حاميةٍ عثمانيَّةٍ تُحاصر المدينة دون قصفٍ أو اقتحام[30][31].

ومع فشل الفاتح في فتح شقودرة إلا أن الخطوات في سبيل إخضاع البندقية كانت تسير في طريقٍ صحيح، فهذا الضغط الذي لا تملك البندقية إلا مراقبته دون ردِّ فعلٍ يوازي قيمة الجمهورية العتيدة سيقود حتمًا إلى استسلامها، ويُضاف إلى ذلك النتائج التي حقَّقتها الفرقة التي أرسلها الفاتح مجدَّدًا إلى الفريولي بإيطاليا (خريطة رقم 17). لقد اخترقت هذه الحملة كرواتيا، وسلوڤينيا، ثم دخلت إقليم الفريولي الإيطالي، ثم توجَّهت شمالًا إلى جنوب النمسا، وأحدثت خسائر جسيمة في وادي القنال Val Canal الواقع في جبال الألب، ثم عادت من طريقٍ مختلفٍ سالمةً إلى البوسنة! إنها رحلةٌ استغرقت عدَّة أسابيع.



وكانت بمثابة العرض العسكري المطمئن الذي يُبرز القوة، ولا يُظهر أيَّ لونٍ من التردُّد أو الخوف، وإنَّني أودُّ أن أنقل هنا حرفيًّا ما قاله المؤرِّخ الألماني الشهير بابينجر تعليقًا على هذه الحملة العجيبة، وهو يُبرز انبهاره من إمكانات العثمانيِّين العسكريَّة والاستخباراتيَّة: «إنَّ المرء ليقف مشدوهًا أمام معرفة الغزاة العثمانيِّين للبلاد والسكَّان في كلِّ حملاتهم العسكريَّة تقريبًا، وتشهد التسجيلات النمساويَّة التاريخيَّة كيف صعد العثمانيُّون بخيولهم أصعب المنحدرات في ممرِّ لويبل Loible Pass في جبال الألب في منطقة كارينثيا، وإنَّ شبكة الجواسيس العثمانيَّة -والكلام لبابينجر- امتدَّت تقريبًا إلى قلب ألمانيا! وكانوا جريئين بدرجةٍ ملحوظة، وكان عملهم فعَّالًا للغاية، وليس هناك حدثٌ في البلاد الواقعة على حدود الإمبراطوريَّة العثمانيَّة هرب من معرفة الباب العالي العثماني! لا يجتمع مجلس شيوخ (Diet) على الأرض الألمانيَّة (النمساويَّة) أو المجريَّة دون أن يُرسِل عملاء الدولة العثمانيَّة تقريرًا مفصَّلًا عنه إلى إسطنبول»! انتهى كلام بابينجر[32]!

بينما كانت هذه الحملة الأوروبية تتجوَّل في إيطاليا والنمسا كان الجيش العثماني يفتح عدَّة قلاع استراتيجية تابعة للبندقية وأعوانها في ألبانيا، ففُتحت مدينة زابلياك Zabljac[33][34]، ثم قلعة درشت Drisht[35]، وأخيرًا مدينة ليزهي Lezhë المهمَّة[36]. هكذا سقطت القلاع الثلاث، وانتشر الجيش العثماني في كامل ألبانيا، ليُحْكِم السيطرة عليها حيث لم يتبقَّ أيُّ جزءٍ منها، باستثناء شقودرة، خارج الحكم العثماني[37]، وكان من الواضح أن البندقية أُنْهِكَت إلى أكبر درجة!

استسلام البندقية، وطلب المعاهدة: (1479م)

هذه الضغوط أفقدت البندقية إمكاناتها وهيبتها، فقد كانت في خسائر دائمة منذ بدأت حربها مع الدولة العثمانيَّة في 1463م؛ ولم تُحقِّق فوزًا واحدًا يُثلج الصدور، وزادت وتيرة الهزائم في العام الأخير بشكلٍ كبيرٍ ممَّا وضعها في حرجٍ لم تتعرَّض له من قبل. يقول بابينجر: «أرادت البندقية أن تضع نهايةً لهذه الحرب الكارثيَّة (Disastrous war) مع السلطان الفاتح بأيِّ ثمن»[38]، ويقول المؤرِّخ الألباني أليكس بودا تعليقًا على الحرب العثمانيَّة البندقية الكبيرة: «أرادت البندقية أن تُنهي هذه الحرب الطويلة، التي لم تَجْنِ من وراءها إلَّا الخسائر منذ بدأت عام 1463م»[39].

اختارت البندقية واحدًا من أعظم دبلوماسيِّيها، وهو چيوڤاني داريو Giovanni Dario، سكرتير مجلس الشيوخ البندقي، ليُجري مباحثات السلام مع السلطان محمد الفاتح، وكما يُؤكِّد بابينجر فإنَّ الجمهوريَّة أعطته صلاحيَّات لإجراء المباحثات لم تُعطها قبل ذلك في كلِّ تاريخها لأحد الدبلوماسيِّين، والسبب -كما يُؤكِّد بابينجر- هو الوضع الرهيب أو المفزع (Terrible situation) الذي وصلت إليه الجمهوريَّة بعد هذه الحرب، وكان عليها إزاء ذلك أن تنسى تمامًا مجدها السابق[40]!

استمرَّت المفاوضات بين الطرفين شهرًا كاملًا، وأخيرًا في (2 ذي القعدة 883هـ الموافق 25 يناير 1479م) [41][42] وصل الفريقان إلى اتِّفاقٍ نهائيٍّ من عدَّة بنود، كان منها ما يلي:

1- تتوقَّف كلُّ العمليَّات الحربيَّة بين الفريقين[43].

2- تسليم شقودرة وما حولها للدولة العثمانيَّة[44].

3- تعترف البندقية بملكية الدولة العثمانيَّة لنيجروبونتي وكرويه[45].

4- يُعيد كلُّ طرفٍ إلى الآخر البلادَ التي أخذها في خلال الستَّة عشر عامًا الماضية باستثناء ما اتفقوا على إعطائه للدولة العثمانية[46].

5- تدفع البندقية إلى الدولة العثمانيَّة مبلغ مائة ألف دوكا ذهبيَّة في خلال عامين[47][48].

6- تدفع البندقية مبلغ عشرة آلاف دوكا ذهبيَّة سنويًّا إلى الدولة العثمانيَّة في مقابل حريَّة التجارة في موانئ الدولة كلِّها، مع الإعفاء الجمركي على الاستيراد والتصدير[49][50][51].

كانت هذه هي المعاهدة التي أنهت الحرب الطويلة، ويعتبرها معظم المؤرخين نقطة تحوُّلٍ في تاريخ البندقية بشكلٍ خاص، وأوروبا بشكلٍ عامٍّ. يقول المؤرِّخ الأميركي چون فريلي John Freely: «أقنعت غاراتُ الأتراك على الفريولي، وتقدُّمهم في ألبانيا، جمهوريَّةَ البندقية أن ترضخ أخيرًا -بعد ستَّة عشر عامًا من الحرب- لشروط محمد الفاتح»[52]، وقد حدث تغيير جذري في موازين القوى في أوروبا لصالح الدولة العثمانيَّة بعد أن استطاعت الدولة أن تُزيح من طريقها واحدةً من أعتى قوى أوروبا في ذلك الزمن[53].

[1] Treptow, Kurt W.: Vlad III Dracula: The Life and Times of the Historical Dracula, The Center of Romanian Studies, First edition, 2000., p. 162.
[2] Eagles, Jonathan: Stephen the Great and Balkan Nationalism: Moldova and Eastern European History, I.B. Tauris, 2014., p. 215.
[3] Treptow, 2000, p. 166.
[4] Pezzolo, Luciano: The Venetian Economy, In: Dursteler, Eric R: A Companion to Venetian History, 1400-1797, Brill, Leiden, The Netherlands, 2013., p. 267.
[5] Babinger, Franz: Mehmed the Conqueror and His Time, Princeton University Press, 1978., p. 358.
[6] Stewart, James: Slovenia, New Holland Publishers, 2006., p. 10.
[7] Tuchman, Barbara W.: A Distant Mirror: the Calamitous 14th Century, Alfred A. Knopf, New York, USA, 1978., p. 547.
[8] Babinger, 1978, p. 358.
[9] Mallett, Michael Edward & Hale, John Rigby: The Military Organisation of a Renaissance State: Venice C.1400 to 1617, Cambridge University Press, New York, USA, 2006, p. 91.
[10] Spandounes, Theodore: On the Origins of the Ottoman Emperors, Editor: Donald M. Nicol, Translated: Donald M. Nicol, Cambridge University Press, 1997., p. 48.
[11] Stone, Elizabeth (Sutherland Menzies): Turkey, Old and New: Historical, Geographical and Statistical, W. H. Allen & Co., London, UK, 1880.. 1, p. 144.
[12] Babinger, 1978, p. 358.
[13] Setton, Kenneth Meyer: The Papacy and the Levant (1204–1571), The American Philosophical Society, Philadelphia, USA, (Volume 2, The Fifteenth Century, 1978). 2, p. 327.
[14] Shaw, Stanford Jay: History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Empire of the Gazis: The Rise and Decline of the Ottoman Empire, 1280–1808, Volume I, Cambridge University Press, New York, USA, 1976.. 1, p. 69.
[15] Setton, 1978, vol. 2, p. 327.
[16] Setton, 1978, vol. 2, p. 327.
[17] Hosaflook, David: Marin Barleti: The Siege of Shkodra: Albania's Courageous Stand Against Ottoman Conquest, 1478, Onufri Publishing House, Albania, 2012., p. 69.
[18] Hosaflook, 2012, p. 221.
[19] Hosaflook, 2012, p. 73.
[20] Babinger, 1978, p. 363.
[21] Somel, Selçuk Akşin: Historical Dictionary of the Ottoman Empire, Lanham, Maryland, USA, Scarecrow Press‏, 2003.. xxiv.
[22] Hosaflook, 2012, p. 252.
[23] Hosaflook, 2012, p. 85.
[24] 35. Hammer, Joseph von: Histoire de L’Empire ottoman (in French), Bellizard, Barthès, Dufour & Lowell, Paris, (Vol. 3, 1836), vol. 3, p. 231.
[25] Hammer, 1836, vol. 3, p. 233-234.
[26] Hosaflook, 2012, p. 224.
[27] Babinger, 1978, p. 364.
[28] Hosaflook, 2012, p. 225.
[29] Babinger, 1978, p. 364.
[30] Imber, Colin: The Ottoman Empire, 1300-1650: The Structure of Power, Red Globe press, London, UK, Third edition, 2019., p. 26.
[31] Freely, John: The Grand Turk: Sultan Mehmet II, Conqueror of Constantinople and Master of an Empire An Empire And Lord Of Two Seas, The Overlook Press, New York, 2009., p. 144.
[32] Babinger, 1978, pp. 366-367.
[33] Hosaflook, 2012, p. 22.
[34] Hosaflook, 2012, pp. 225-226.
[35] Hosaflook, 2012, p. 226.
[36] Hosaflook, 2012, pp. 233-234.
[37] Babinger, 1978, p. 366.
[38] Babinger, 1978, p. 368.
[39] Hosaflook, 2012, p. 23.
[40] Babinger, 1978, p. 368.
[41] Setton, 1978, vol. 2, p. 328.
[42] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م.صفحة 1/517.
[43] Freely, 2009, p. 144.
[44] Babinger, 1978, p. 369.
[45] Freely, 2009, p. 144.
[46] Babinger, 1978, p. 369.
[47] Fabris, Pedani & Pia, Maria: XV - XVIII. Yüzyılda Osmanlı-Venedik İlişkileri (in Osmanlı), Vol. 1, Yeni Türkiye Yayınları, Ankara, 1999., 1999, vol. 1, pp. 259-264.
[48] Babinger, 1978, p. 369.
[49] Setton, 1978, vol. 2, p. 328.
[50]فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م، صفحة 175.
[51] سرهنك، 1895 صفحة 1/517.
[52] Freely, 2009, p. 144.
[53] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 296- 306.