منتديات الشروق أونلاين

منتديات الشروق أونلاين (http://montada.echoroukonline.com/index.php)
-   سير أعلام النبلاء (http://montada.echoroukonline.com/forumdisplay.php?f=179)
-   -   نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز (http://montada.echoroukonline.com/showthread.php?t=369443)

أمازيغي مسلم 24-09-2017 04:17 PM

نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز
 
نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز

الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:


انطلاقا من قول الشاعر:

تشبهوا بالكرام إن لم تكونوا÷ مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح

يسرنا أن ننثر:" ومضات إبريزية من سيرة عمر بن عبد العزيز" رضي الله لرفع الهمة وحملها على التشبه بخصال كريم مثله، وما أصدق قول شاعر في مثيل سجاياه:

مَعْدِنُك الجَوهَرُ المُهَذَّبُ ذو ÷ الإِبْرِيزِ بَخٍّ ما فَوْقَ ذا هَذَبُ

والبداية ستكون بمقالة تجمل أقواله ومواقفه خطها أحد الأفاضل مشكورا مأجورا، ثم نتبع ذلك بإذن الله بدرر ننتقيها من كتب السير التي خلدت سيرته رضي الله عنه، وإلى المقصود بتوفيق المعبود:

إن تقوى الله خير لباس، وأرقُّ إحساس، تحملك من دار الفناء الى دار البقاء، وتسير بك في هذه الدنيا على هدى ونور ورضا وحبور، أنت بها حسن السجايا بين أهل الدنيا ورفيع القدر بين أهل الأخرى.

أمر الله بها عباده، فقال:﴿ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾.
وأحب أهلها، فقال:﴿ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾.
وكان في معية المتمثلين بها، فقال:﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾.
وتقبل من أصحابها، فقال:﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾.
ومدح سكنهم فقال: ﴿ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ﴾.
وعصم أخوّة القائمين بها من العداوة، فقال:﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾.
ووالى ذويها، فقال:﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴾.
وأمن خوفهم يوم القيامة، فقال:﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾.
ووعد المحافظين عليها، فقال:﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ﴾، ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾، ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ﴾، ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ ﴾، ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ﴾..

ألا إنما التقوى هي العز والكرم ÷ وحبك للدنيا هو الذل والسقمْ

وليس على عبدٍ تقي نقيصة ÷ إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم

نحن اليوم نستعرض نتفاً من أحد أولئك المتقين:
كيف عاش؟، وماذا قال؟، ما الهم الذي كان يحمله؟، وما الطريق التي سار عليها؟، كيف تجافى عن الدنيا ولماذا؟، لماذا ارتفع ذكره وخفت ذكر غيره؟، ولماذا أصبح خامس خمسه، وبينه وبينهم ما يقرب من ستين سنة؟.
إنه:" عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم" رضي الله عنه.

وصفه الحافظ الذهبي رحمه الله، فكان مما قال عنه:
" كان ثقةً مأموناً، له فقه وعلم وورع، وروى حديثاً كثيراً، وكان إمام عدلٍ، رحمه الله ورضي عنه". [سير أعلام النبلاء: 5/ 114].

كان الخوف من الله مقارناً له في صغره، فقد حفظ وهو غلام صغير، وفي يوم من الأيام بكى، فسألته أمه عن سبب بكائه فقال:
" ذكرت الموت، فبكيت".
كان صادق اللهجة يقول: "ما كذبتُ منذ علمتُ أن الكذب يَضُرُّ أهله".

رآه بعضهم يطوف بالكعبة قبل الخلافة، وإنّ حُجْزة إزاره لغائبة في ثنايا بطنه من السمن، يقول: " ثم رأيته بعد ما استخلف ولو شئت أن أعد أضلاعه من غير أن أمسّها لفعلت".[ الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز: 1/367]
وذات مرة دخل عليه محمد بن كعب القرظي بعد ما تولى الخلافة يقول:
" فجعلت أنظر إليه نظراً لا أكاد أصرف بصري عنه، فقال: ما لك يا ابن كعب؟، فقلت: أعجب من تغير جسمك وتبدّل حالك. فقال: فكيف لو رأيتني يا ابن كعب في قبري بعد ثلاث ليال؟، حين تقع حدقة عيني على وجنتي، ويسيل منخري وفمي صديداً ودوداً، كنت لي أَشد إنكاراً".

ولما دُفِنَ الخليفةُ السابق(سليمان بن عبد الملك): قُرّبت مراكبُ الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فقال:" ما لي ولها، نحّوها عنّي، وقربوا إلي دابتي"، فركب دابته، وسار، وسار معه الناس حتى دخل المسجد، فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس، فقال:
" أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعتُ ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم"، فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك، فلما رأى ذلك: حمد الله وأثنى عليه، وصلىّ على النبي صلى الله عليه وسلّم، وقال:" أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلفٌ من كل شيء، وليس من تقوى الله عز وجل خلف، واعملوا لأخرتكم، فإنه من عمل لأخرته: كفاه الله أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم: يصلح الله علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنّه هادم اللذات، ألا وإني لستُ بخير من أحدٍ منكم، ولكني أثقلكم حملاً".[ سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي: 65-66].

بعث برسالة إلى بعض أهل بيته يقول فيها:
"أما بعد، فإنك إن استشعرت ذكر الموت في ليلك ونهارك: بَغَّضَ إليك كل فانٍ، وحَبّب إليك كل باقٍ، والسلام".

حدّثت زوجته فاطمة بنت عبد الملك، فقالت:
" قد يكون من الرجال من هو أكثر صلاة وصياماً منه، ولكني لم أر رجلاً من الناس كان أشد خوفاً من ربه من عمر، كان إذا صلّى العشاء دخل بيته، فقد يكون معي في الفراش، فيخطر على قلبه الشيء من أمر الل،ه فينتفض كما ينتفض العصفور قد وقع في الماء، ثم ينشج ثم يرتفع بكاؤه حتى أقول: لتخرجن روحه التي بين جنبيه وتدركني الرحمة له، فأطرح اللحاف عني وعنه، وأنا أقول: ما رأيت سروراً منذ كنا في هذه الخلافة يا ليت بيننا وبينها بعد المشرقين. فكان يقول: اللهم إن كنت تعلم أني أخاف يوماً دون يوم القيامة، فلا تؤمن خوفي".

لقد ربّى عمر بن عبد العزيز أهل بيته على التقوى والخوف من الله وقرب الدمعة من خشية الله سبحانه.
قرأ عنده رجل قول الله عز وجل عن النار: ﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ﴾، فبكى عمر حتى غلبه البكاء، وعلا نشيجه، فقام من مجلسه، فدخل بيته وتفرّق الناس.

وذات يوم كان جالساً في البيت فبكى، فبكت فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء؟، فلما تجلّت عنهم العبرة، قالت فاطمة:
" بأبي أنت يا أمير المؤمنين: مم بكيت؟. قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم من بين يدي الله عز وجل: فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير".

تقول فاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر بن عبد العزيز:
" دخلت على عمر، فإذا هو في مصلاه، يده على خده، ودموعه سائلة، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما بك؟، أشيء حدث؟.
قال: يا فاطمة، إني تقلدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، والكبير، وذي العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمهم دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت ألا تثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت".

لقد كان عمر بن عبد العزيز مع علمه وفضله وعدله وورعه: خطيباً مؤثراً، فإذا وعظ وخطب: أخذ بمجامع القلوب لجزالة لفظه، وحسن حديثه، فيبكي ويُبكي. قال في خطبة له:

" إن الله عز وجل لم يخلقكم عبثاً، ولم يدع شيئاً من أمركم سُدى، وإنّ لكم معاداً ينزل الله عز وجل فيه للحكم والقضاء بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، فاشترى قليلاً بكثير وفانياً بباق، وخوفاً بأمان.
ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين.
في كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله عز وجل قد قضى نحبه، وانقضى أجله، فتغيبونه في بطن صدع من الأرض غير ممهد ولا موسّد، قد فارق الأحباب وواجه التراب وعاين الحساب، فهو مرتهن بعمله، غني عما ترك، فقير إلى ما قدّم، فاتقوا الله قبل نزول الموت بكم.
والله إني لأقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي، ولكنها سننٌ من الله عادلة أمر فيها بطاعته، ونهى فيها عن معصيته، واستغفر الله".

ووضع كمه على وجهه، فبكى وبكى الناس، فكانت آخر خطبة له، رحمه الله.

ولما نزل به الموت قال:" أجلسوني"، فأجلسوه، فقال:
" إلهي أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله"، ثم قال:" إني لأرى حضوراً ما هم بأنس ولا جن - وقال لأهله - اخرجوا عني"، فخرجوا وجلسوا عند الباب، فسمعوه يقول:
" مرحباً بهذه الوجوه"، ثم تلا قول الله تعالى: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾.

ثم هدأ الصوت، فدخلوا عليه، فإذا هو قد مات وقد غمض عينيه، ووجه إلى القبلة، رحمه الله رحمة واسعة.

عليك سلامُ الله وقفًا فإنني ÷ رأيت الكريم الحرَّ ليس له عُمْر

ثوى طاهر الأردان لم تبْقَ بقعةٌ ÷ غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبرُ

رحمك الله يا عمر، وأسكنك فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.

♦ ♦ ♦ ♦

كانت تلك ومضات من حياته حتى مات، أما ماذا فعل الله بأبنائه بعد موته، فإليك هذا الخبر:

روى أهل التاريخ:
أنه لما حضرته سكرات الموت، جمع أبناءه السبعة أو الثمانية، فلما رآهم بكى واستعبر، ودمعت عيناه، ثم قال لأبنائه:
" والله ما خلّفت لكم من الدنيا شيئًا، إن كنتم صالحين، فالله يتولى الصالحين، وإن كنتم فجَرة، فلن أُعينكم بمالي على الفجور، تعالوا"، فاقتربوا فقبّلَهم واحدًا واحدًا، ودعا لهم، وكأن قلبه يُسَلُّ من بين جوارحه، وخرج أبناؤه.

قال أهل التاريخ:
أغفى التاريخ إغفاءة عن أبناء عمر بن عبد العزيز السبعة أو الثمانية، وقد خلّف لكل واحد منهم اثني عشر درهمًا فقط، وأما هشام بن عبد الملك الخليفة، فخلّف لكل ابن من أبنائه مائة ألف دينار، وبعد عشرين سنة، أصبح أبناء عمر بن عبد العزيز، يُسرجون الخيول في سبيل الله، منفقين متصدقين من كثرة أموالهم، وأبناء هشام بن عبد الملك في عهد أبي جعفر المنصور، يقفون في مسجد دار السلام، يقولون:" من مال الله، يا عباد الله!".

صح عند الترمذي وأحمد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال:
" يا غلام، إني أعلّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفَّت الصُّحف".

واليوم، إذا نظرنا إلى واقعنا، نجد:

شابا يشتري ساعة يلبسها نجمه المفضل!!؟، وآخر يقص شعره مثلما يفعل لاعبه المميز!!؟، وآخر يلبس قميصاً يحمل اسم هدافه المبدع!!؟.
يجتمع مجموعه من الشباب، فيقضون وقتاً طويلاً في التفريق بين مغنٍ وآخر، ولاعب وآخر وممثل وآخر!!؟.

لماذا أيها الشباب!!؟:
ماذا دهاكم يا رعاكم الله!!؟، ومن الذي صرفكم عن القمة إلى القاع، وعن السمو إلى الدنو، وعن العلو إلى السفول!!؟.

كيف تجعل من كافر: مثالا لك!!؟، وقد قال تعالى:﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾.
كيف تجعل من فاسق: قدوة لك!!؟، وقد قال تعالى:﴿ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾.
كيف تغفل عن أمثال: عمر بن عبد العزيز، وقد قال تعالى:﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾.

أيها الشباب:
أنفذوا ببصائر قلوبكم إلى الحياة السعيدة، ولا تلهكم أبصاركم وأسماعكم بلذة عاجلة يعقبها ألم شديد.

أيها الشباب:
لقد ملأ عمر بن عبد العزيز سمع الدنيا وبصرها بسيرته العطرة، ومات وعمره أربعون سنه فقط، ولم يمكث في خلافته سوى ثلاثين شهراً، لكن الأعمار لا تقاس بطول السنين، ولكن بعرض الأعمال.

وفق الله شبابنا لحسن الاقتداء بسيرة سلفنا الصالح.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

أمازيغي مسلم 26-09-2017 01:19 PM

رد: نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز
 
الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:

هذه خطبة ماتعة رائعة ألقاها أحد الأخيار، وقد تناول فيها جوانب من سيرة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فإليكموها:

الخطبة الأولى:
بسم الله الرحمن الرحيم
أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وأن نقدم لأنفسنا أعمالا تبيض وجوهنا يوم أن نلقى الله:(يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، ويقول المولى سبحانه وتعالى:(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ).
أمتكم أمة مجيدة عظيمة كريمة اختارها الله؛ لتكون واسطة العقد في هذا التاريخ، فهي الشاهدة على الناس والرسول عليها شهيد.
إنها أمة تمرض لكنها لا تموت، وقد تَغْفُو أحيانًا لكنها لا تنام، وتُغْلَب لكنها لا تُسْحَق، أخرج الله منها منائر للتوحيد وهداة للبشر، ومشاعل للحضارة الحقَّة، فمع عَلَم من أعلام هذه الأمة: نقف وقفة عظة وتذكر وتدبر، عَلَم يجب على الأمة أن تجعله وأمثاله قدوة من القدوات: يوم كادت تغيب القدوات، ليكون حديث شيوخها في المنتديات، وقصصًا لأطفالها الذين لطالما أُشغلوا بالقصص الهابط والرسوم المتحركات، وحديثًا لبعض شبابها الذين لطالما شغلوا بالحديث عن اللاعبين والفنانات، وملئوا أسماعهم وأبصارهم بالأفلام والمسلسلات.
إنه من جعل كبيرَ المسلمين له أبًا، وأوسطهم أخًا وأصغرهم ولدًا، فوقّر أباه، وأكرم أخاه وعطف على ولده، إنه القِيَم والأخلاق والمثل، وما أجمل وأروع أن نرى المثل رجالا، والأخلاق واقعًا ملموسًا، إنه من العادلين: إن ذكر العدل، إنه الخائف من الله: إن ذكر الخائفون، إنه من حيزت له الدنيا بين يديه، فتولى الخلافة فلم يصلح بينه وبين الله أحد من خلقه، فخاف الله وما تكبر وما تجبر وما ظلم، خشي الله فعدل، خشي الله فأمن، خشي الله فرضي، أظنكم قد عرفتموه من هو!!؟:
إنه:" عمر بن عبد العزيز"- رضي الله عنه-، وما أدراكم ما عمر!!؟.
رجل لا كالرجال وسيرة لا كالسير، وعذرًا لن نَفِيَه حقه في هذه العجالة، لكن حسبكم وحسبي: أن نقف عند بعض مواقفه، لنتذكر وننظر ونعتبر، والتاريخ نقرأ.
اقرؤوا التاريخ إذ به العبر *** ضل قوم ليس يدرون الخبر
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ)، فحي هلا بكم عباد الله إلى بحر عمر لنبحر ومن لآلئه لنقبس ونذكر، ومن درره ننهل فنَرْوِي ونروى، وعند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة بإذن رب العالمين.
تولى الخلافة فكان مجددًا بحق - رضي الله عنه ورحمه - كانت خلافته ثلاثين شهرًا لكنها، خير من ثلاثين قرنًا، لم يضيعها في كسب دنيوي ولا شهوة عاجلة، لكنه جعلها لله رب العالمين فبارك الله في سنتين ونيف.
بويع بالخلافة، وقام ليلقي أول خطاب له على المنبر، فتعثر في طريقه إلى المنبر، تعثر من ثقل المسئولية، وتعثر من خوف رب البرية، وقف يتحدث للناس قائلا:
" لقد بُوْيِعت بالخلافة على غير رغبة مني، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتى، فاختاروا لأنفسكم"، فصاح الناس صيحة واحدة ممزوجة بالبكاء: قد اخترناك ورضينا بك، فبكى وقال:" الله المستعان"، ثم أوصاهم من على المنبر قائلا:" أُوصيكم بتقوى الله؛ فإن تقوى الله خَلَفٌ من كل شئ، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له"، ثم رفع صوته : " أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم"، ونزل عن المنبر، وبعد ذلك تُعرض له الدواب والخيل ليركبها؛ لتكون موكبه إلى قصر الخلافة كما كان يفعل أسلافه، فأعرض عنها قائلا:" ما أنا إلا رجل من المسلمين أَغْدو كما يغدون وأَرُوْحُ كما يروحون".
عاد لبيته معلنًا أن من تواضع لله رفعه، ترك قصر الخلافة ونزل غرفته المتواضعة، وجلس حزينًا يئن تحت وطأة المسئولية، ثم استدعى زوجه [فاطمة] - بدأ بالأقربين- استدعى فاطمة الزاهدة العابدة بنت الخليفة وأخت الخلفاء.
بنتُ الخليفة والخليفة جدها *** أختُ الخلائف والخليفة زوجها
قال لها:" إني بعتُ نفسي من الله، فإن كنت تريدين العيش معي فحي هلا، وإلا فالحقي بأهلك، هذه الحُلِي التي تلبسينها تعلمين من أين أتى لك بها أبوك؟، رديها إلى بيت المال، والله لا أجتمع مع هذه الحلي في دار أبدًا بعد اليوم"، قالت الزاهدة الراغبة فيما عند الله:" بل أردها والحياة حياتك يا عمر، وللآخرة خير وأبقى".
خرج إلى الأمة ليردها إلى الله الواحد القهار، فكان فعله يصدق قوله، وكان لا يشغله عن الله شاغل، لَيْلُه: قيام وبكاء وخشوع وتضرع، ونهاره: عدل وإنصاف ودعوة وبذل وعطاء، فما ليلنا ونهارنا يا عباد الله!!؟، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم ردنا إليك ردًا جميلا يا قيوم السماوات والأرضين.
ملأ الأرض عدلا بعد أن كادت تُملأ جورًا، هيه يا عمر!، قد عشت عمرك زاهدًا في كل ما جمع البشر، أتعبت من سيجيء بعدك في الإمارة يا عمر، بعد كل صلاة ينادي منادٍ:" أين الفقراء ؟، أين المحتاجون؟"، فيقدم لهم الطعام والأموال، فلا والله ما تنساه البطون الجائعة ولا الأكباد الظامئة، ما دام في الأرض بطنٌ جائع أو كَبِدٌ ظمآن.
هو البحر من أي النواحي أَتَيْتَه *** فلُجَته المعروفُ والجودُ ساحله
ولو لم يَكُ في كفه غير روحه *** لجاد بها، فليتق الله سائله

رزقه الله الخَشْيَة، ومن رُزِقَ الخشية فقد رُزِق خيرًا كثيرًا، والذي يجعل الله نصب عينيه يفتح الله عليه، فتح الله على عمر فتحًا لا يخطر بالبال ولا يدور بالخيال، وكان أخوف الناس لله، وهو يرجو الأمان من الله بإذنه:(يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
ففي الحديث القدسي : " وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنَيْن، إن أمِنَني في الدنيا خوفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمَّنْتُه يوم القيامة".
دخل عليه أحد العباد، وهو:[كعب القرضي]، فجعل ينظر في وجهه فإذا به: وَجْهٌ شاحب، وبدنٌ ناحل، كأن جبال الدنيا قد سقطت عليه، فقال:" يا عمر ما دهاك؟، ما أصابك؟، والله لقد رأيتك أجمل فتيان قريش، تلبس اللَّيِّن وتفترش الوثير، لَيِّنُ العيش، نضر البشرة، والله لو دخلت عليك يا عمر في غير هذا المكان ما عرفتك"، فتنهد عمر باكيًا يقول:
" أما إنك لو رأيتني بعد ثلاث ليال من دفني، وقد سقطت العينان، وانخسفت الوجنتان، وعاشت في الجوف الديدان، وتغير الخدان، لكنت لحالي من حالي أشد عجبًا، وأعظم إنكارًا"، فبكى محمد، وبكى الناس حتى ضج مجلسه بالبكاء، جعل الهم همًا واحدًا، فرضي الله عنه ورحمه، إنه: هَمُ الآخرة وكفى.
عرف عمر نفسه ومهمته وغايته وهدفه، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، فكَسَدَت عنده بضاعة المنافقين والشعراء، وقامت سوق المساكين والفقراء، يدخل عليه أحد الشعراء فيمدحه، فلم يجد منه سماعًا لما يقول، ولم يعطِه شيئًا فخرج، وهو يقول:" رجل يعطي الفقراء ويمنع الشعراء!!؟".
وجدت طُرُقَ الشيطان لا تستفزه *** وقد كان شيطاني من الجن راضيا
أدنى الصالحين والعباد، فجعلهم بطانته، وطلب منهم أن يوصوه ويبصروه بعيوبه، يقول لهم:" لقد توليت أمر أُمَّة محمد- صلى الله عليه وسلم- فأعينوني"، فكتب له [سالم مولى أبي حُذَيْفَة]:" صُمْ هذا اليوم حتى تلقى الله فتفطر عنده"، وكتب له [مطرف بن عبد الله]:" يا أمير المؤمنين لو كان لك خصم لدود لأعجزك، فكيف بخصميْن؟، فكيف بثلاثة؟، كيف بك وخصمك أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- كلهم؟".
جمع سبعة من الصالحين، وقال": أنتم جلسائي كل ليلة، لكني أشترط عليكم شروطًا ثلاثة -يا ليتنا نشترط هذه الشروط في مجالسنا- اسمعوها وبلغوها، -فَرُب مُبَلَّغٍ أوعى-:
أولها: لا تغتابوا ولا تعيبوا في مجلسي أحدًا.
وثانيها: لا تتحدثوا في الدنيا.
وثالثها: ألا تمزحوا وأنا جالس أبدًا، فكانوا يجتمعون بعد العشاء، فيتحدثون في الموت وما بعده، ثم ينفضون من مجالسهم وكأنما انفضوا عن جنازة، كتب له أثناء خلافته [سالم بن عبد الله] كتابًا شديدًا يقول فيه:
" يا أمير المؤمنين، لقد تولى الملك قبلك أناس ثم صُرِعُوا وهاهي مصارعهم، فانظر إليها لترى، كانوا ينظرون بعيون إلى اللذات فأُكلت، ويأكلون في بطون فَنُهِشَتْ، ويميدون بخدود أكلها الدود، فاحذر أن تكون مع المحبوسين في جهنم يوم يُطلق العادلون"، فلما قرأ ذلك انهد باكيًا، قائلا:" اللهم لا تجعلني مع المحبوسين يوم يُطلق العادلون".
حمل هم الأمة، خلع كل لباس إلا لباس التقوى، لم يُفنِ قليلاً ولا كثيرًا، همُّه الآخرة لا الدنيا، كانت له نظرة مختلفة عن نظرات الناس، حج مع الناس وأخذ الناس يتسابقون يوم عرفة مع الغروب إلى مزدلفة، وهو يدعو ويتضرع ويقول:" لا والله ليس السابق من سبق اليوم جواده وبعيره، إن السابق من غُفِر له هذا اليوم".
كان شديد المراقبة والخوف من الله إذا أراد النوم ارتجف صدره، فتقول زوجه: ما بك يا عمر؟، قال:" تذكرت قول الله تعالى: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)، فخفت خوفًا أورثني ما تَرَين".
فما حالنا مع القرآن!!؟.
عمي عن الذكر والآيات تندبنا *** لو كلم الذكر جلمودًا لأبكاه
مقياسه في الناس التقوى، وهكذا يجب أن تكون مقاييسنا:(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)، يقول:" والله ما رأيت متقيًا إلا وددت أني في جلده".
استدعى [مزاحمًا] يوم أن تولى الخلافة، فقال:" يا مزاحم: لقد رأيتك تُصلِّي الضحى في شِعب من الشعاب لا يراك فيه إلا الله، فأحببتك والله، فكن عوني على نفسي، إذا رأيتني ظلمت، فخذ بتلابيبي، وقل: اتق الله يا ابن عبد العزيز".
كان يحب العفو ويحب الإحسان، نال رجل منه ذات يوم، فقيل له: رد على هذا السفيه، فقال:" إنَّ التَّقِي مُلْجَمٌ، إنَّ التَّقِي مُلْجَمٌ".
والصمت عن جاهلٍ أو أحمق شرفٌ *** وفيه أيضًا لِصَوِن العِرْضِ إصلاح
أما ترى الأُسْدَ تُخْشَى وهي صامتة *** والكلب يُخزى -لعمر الله- نبَّاح

كان-رضي الله عنه- لا يرضى مظلمة، دخل بعضهم يبايعه فقبض يده، فقال: لِمَ أيها الأمير؟، قال:" اُغْرُبْ عني، تَجْلِدُ فلانًا سبعين جلدة؛ لأنه آذى ابنك؟، ما غضبت لله، وإنما غضبت لنفسك ولابنك، والله لن تلي لي عملا أبدًا بعد اليوم".
قطع أُعْطٍيَات بني أمية وصلاتهم؛ فغضبوا، وأرسلوا له ابنه [عبد الملك]، فقال لابنه:" قل لهم: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
أَلْجم عمر نفسه بهذا اللجام، فهلا أَلْجمنا أنفسنا بلجام:(إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)؟.
وَلَّى العُبَاد والزُّهاد واختارهم، فقامت الدنيا، يقول [ميمون بن مهران]:
" لقد أخبرنا رعاة الأغنام: أن الذئب في خلافة عمر ما كان يَعْدُو على الأغنام"، فيا لله حتى البهائم تسعد في ظل العدل وتأمن!؟.
لما تُوفِى عمر عَدَتْ الذئاب على الأغنام، فعرف البوادي أنه مات رجل عادل، فالعدل أمن وسكينة وطمأنينة، وبالعدل قامت الدنيا.
كان شديد المحاسبة لنفسه وَرِعًا تقيًا، كان يقسم تفاحًا أفاءه الله على المسلمين، فتناول ابن له صغير تفاحة، فأخذها من فمه، وأوجع فمه، فبكى الطفل الصغير، وذهب لأمه فاطمة، فأرسلت من اشترى له تفاحًا، وعاد إلى البيت وما عاد معه بتفاحة واحدة، فقال لفاطمة:" هل في البيت تفاح؟، إني أَشُمُ الرائحة، قالت: لا، وقصت عليه القصة -قصة ابنه- فَذَرفت عيناه الدموع، وقال:" والله لقد انتزعتها من فم ابني، وكأنما أنتزعها من قلبي، لكني كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة من فيْء المسلمين قبل أن يُقَسَّم الفَيءُ".
فيا لله!: وربِّ عمر، إن مشهدًا كهذا خير من الدنيا وما فيها من زخرف ومتاع:(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
كان متواضعًا لله، مدحه رجل في وجهه، فقال:" يا هذا أما إنك لو عرفت من نفسي ما أعرف منها" ما نظرت إلى وجهي"، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.
كان شديد الخوف من الله -جل وعلا-، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، كان يذكر الله في فراشه -كما تقول زوجه- ثم ينتفض كما ينتفض العصفور المبلل، حتى أقول ليصبحن الناس ولا خليفة لهم، ثم تقول:
" يا ليت بيننا وبين الخلافة بُعْدَ المشرقين، والله ما رأينا سرورًا مذ تولى الخلافة عمر"، تقول فاطمة زوجه: أمسى ذات ليلة، وقد فرغ من استعراض حوائج المسلمين، ثم أطفأ السراج، ثم قام فَصَلَّى ركعتين، ثم جلس واضعًا رأسه على يديْه تتسايل دموعه على خده، يشهق الشهقة، فأقول: قد خرجت نفسه وانصدعت كَبِدُه، فلم يزل كذلك حتى أصبح الصبح، ثم أصبح صائمًا، تقول زوجه: فدنوت منه، وقلت: يا أمير المؤمنين: كثير ما كان منك الليلة أَأَمر ألمَّ بك أم ماذا دهاك؟، فأجابها -وقد نصب خوف الله أمام عينيْه- قائلا: " إني نظرت في نفسي، فوجدتني قد وليت أمر هذه الأمة -صغيرها وكبيرها وأسودها وأحمرها-، ثم ذكرت الغريب والفقير واليتيم في أقاصي البلاد، فعلمت أن الله سائلي عنهم، وأنمحمدًا -صلى الله عليه وسلم- حجيجي فيهم، فخفت أن لا يثبت لي عند الله عذر، فخفت خوفًا دمعت له عيني، وَوَجَلَ له قلبي، وكلما ذكرتُ ذلك ازداد خوفي وجلاً"، ثم انْهدَّ باكيًا-رضي الله عنه ورحمه-.
أواه!: من لنا بمثل عمر!!؟، عجزت نساء الأرض أن ينجبن مثلك يا عمر، بكت فاطمة زوجه بعد وفاته حتى عشي بصرها، ودخل عليها إخوتها قائلين: ما هذا يا فاطمة؟، أجزعك على عمر؟، فهو والله أحق مَنْ يُجْزَعُ على مثله، أم على شيء من الدنيا؟، فأموالنا بين يديْك، وما أخذت منها خير مما تركت، قالت:" والله لا هذا ولا ذاك، لكني رأيت من عمر ليلةً منظرًا ما تذكرته إلا بكيت، رأيتُه ليلةً قائمًا يُصَلِّي، ثم جلس يقرأ حتى أتى على قول الله:(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ* وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ)، فصاح: واسوء صباحاه، ثم وثب، ثم سقط فجعل يَئِنُّ حتى ظننت أن نَفْسَه ستخرج، ثم هدأ ثم نادى: واسوء صباحاه، ثم قام، وهو يقول: وَيْلٌى من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر، ثم سقط كأنه ميت حتى سمع الأذان، فقام. تقول: فوالله ما ذكرت ليلته تلك إلا غلبتني عيناي، فلم أملك رد عبرتي، فأسأل الله أن يؤمنه وأن يؤمننا":(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ).
خاف الله في الدنيا، ونسأل الله أن يؤمنه في الآخرة.
هذه مواقف من حياة عمر ومن خوفه من الله وزهده وعدله، هذا هو عمر الذي جلس للناس مربيًا ومعلمًا وأبًا وأخًا، هذا هو عمر لمن أراد أن يقتدي بعمر، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، وما من راع استرعاه الله رعية بات غاشًا لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح

اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة رجالاً كعمر يردون الأمة إليك ردًا جميلاً، اللهم وأصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، أقول ما تسمعون وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد عباد الله؛ فلكل أجلٍ كتاب، ولكل بداية نهاية:(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ)، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)، يموت كل صغير وكبير، وذكر وأنثى، ومُقرٍّ وجاحد، وزاهد وعابد:(كُلُّ نَفْسٍ ذائقة الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ).
وتنتهي حياة الأخيار بالنهاية الحميدة؛ فكأن الأخيار ما بَئِسُوا مع من بَئِسَ، ما كأنهم سهروا في طاعة الله، ما كأنهم تعبوا، ما كأنهم جاعوا بعد أن تنعموا؛ لأنهم صُبِغُوا في الجنة صَبْغَةً، فزال كل بؤس وألم ونصب وتعب وَوَصَبٍ، وتنتهي في المقابل حياة الفجار بحفرة من حفر النار، فما كأن الفجار تنعموا ولا أكلوا ولا تلذذوا عند أول صبغة في النار يزول كل نعيم، لا خير في لذة من بعدها النار.
وتأتي وفاة [عمر] الذي كان من أعظم ما قاده إلى الله: ذكر الموت، اشتد به المرض وأدخل عليه الأطباء، ووضعوا له العلاج المناسب والشفاء بيد بارئه سبحانه وبحمده، فقال:" والله لو كان دوائي في أن أرفع يدي اليمنى إلى أذني ما فعلت، والله ما أنا بحريص على الدنيا، فقد مللتها، لكني أسأل الله أن يُسَلِّم".
استدعى خادما له وقال:" أسألك بمَنْ يجمع الناس ليوم لا ريب فيه أأنت سممتني في الطعام؟"، قال الخادم: إي والله. قال:" فكم أعطوك على ذلك؟". قال: ألف دينار. قال:" اذهب فأنت حر لوجه الله"، والله يحب المحسنين.
دخل الناس عليه يعودونه، وكان كلما عاده أحد قال له:" اُعْفُ عني، عفا الله عنك".
قام وخطب الناس، فكان مما قال:
" اتقوا الله قبل حلول الموت بكم، إني لأقول هذا وما أعلم أحد عنده من الذنوب أكثر مما عندي"، ثم خنقته عبرته، فأخذ طرف ردائه، فوضعه على وجهه يبكي، فما بقي أحد إلا بكى لبكائه، ولم يخطب بعدها-رحمه الله-.
وفي ضحى يوم عيد الفطر: حلت به سكرات الموت، التي لابد من حلولها بكل واحد منا، ونسأل الله أن يحسن الختام، فجاءه [مسلمة بن عبد الملك] فقال له: إنه قد نزل بك ما نزل، وإنك تركت صبيتك صغارًا: لا مال لهم فأوص بهم إليَّ.، فجلس وقال:
" والله ما منعتهم حقًا هو لهم، ووالله لن أعطيهم ما ليس لهم، إن بنيّ أحد رجلين: إما رجل يتقي الله، فسيجعل الله له مخرجًا، وإما مُكِبٌ على المعصية فلم أَكُنْ لأقويه على معصية الله"، ثم أمر فقال:" ادعوا أبنائي جميعًا"، فدعوهم، وكانوا بضعة عشر صبيًا كأنهم فراخ، نظر إليهم بحنان الوالد، نظر لضعف طفولتهم وبراءة أعينهم؛ فذرفت عيناه الدمع ثم قال:
" أفديكم بنفسي أيتها الفتية الذين تركت ولا مال لهم، أي بَنيّ إن أباكم كان بين أمرين: إما أن يُغْنيكم ويدخل النار، أو يُفْقركم ويدخل الجنة، فاختار أن يفقركم ويدخل الجنة، لكن إن وَلِيَّ فيكم الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين، انصرفوا -عصمكم الله-"، فانصرف أبناؤه، فجعل يبتهل إلى الله في خشوع، ويقول:
" رباه أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، رباه ما عندي ما أعُدُه إلا خوفي منك وحسن ظني بك وأن لا إله إلا أنت"، ثم أمر الناس أن يخرجوا، فكانوا يسمعونه يقول:(تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)
أسلَّمَ الروح إلى باريها-فرحمة الله عليه-، جسد لُفِّفَ في أثماله، رحمة الله على ذاك الجسد، كان يقول قبل وفاته:" إذا غسَّلتموني وكفَّنتموني ووضعتموني في لحدي، فاكشفوا عن وجهي، فإن ابْيضَّ فاهنئوا، وإن اسْودَّ فويلٌ لي، ثم ويلٌ لي"، يقول [رجاء] : فكنت فيمن غسَّله وكفَّنه وأدخله لَحده، وحلَلْت العُقدة من كفنه، ثم نظرت إلى وجهه، فإذا هو كالقراطيس بَياضًا، بيَّض اللهُ وجهه يومَ تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوه.
أسلم الروحَ عمر،ُ فأُسكِتَ فمٌ لطالما تلجلج بذكر الله، وأُغمِضتْ عينان لطالما ذَرَفَتا من خشية الله، واستراحتْ يدان لطالما هَدَت لما يُرضي الله.
ودَّع الأمة والجياع شبعوا، والخائفون أَمِنُوا، والمستضعَفون نُصروا بإذن ربهم، وجد اليتامى فيه أبًا لهم، والأيامى لهم كافلا، والتائهون لهم دليلاً، والمظلومون لهم نصيرًا، وحلَّت المصيبة بالمسلمين، وأُغلقت القلوب بحزنها، والعيون بدمعها.
فاليومُ تنعمُ يا عُمرْ *** بجوار من أَهدى البشرْ
فسَقى رُفاتِك وَابلاً *** مِن ماءِ غيثٍ منهمرْ
يقول [مسلمة]:" يرحمك الله يا عمر، لقد ليَّنتَ قلوبًا قاسية، وأبقيتَ لنا في الصالحين ذِكرًا".
ذهب عمر بعد أن حقَّقَ العدل والطمأنينة والسكينة والأمن بالإيمان في سنتين وخمسة أشهر وبِضعة أيام، كان كثيرًا ما يقول ويردِّد:
" إنَّ الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما، إنَّ الرجال لا تُقاس بالأعمار، ولكن بالهِمَم والأعمال".
مات عمر وما مات ذِ كره، ولا يموت ذِكرُ الصالحين، لهج المسلمون بالدعاء والثناء عليه، ليس المسلمون فحسب، هاهو ملك الروم:[ليون الثالث] يقول:
" لو كان رجل يُحيِى الموتى بعد عيسى لكان عمر، واللهِ لا أَعجَب من راهبٍ جلس في صَوْمعته، وقال إنَّي زاهد، لكنِّي أعجب من عمر يوم أَتَتْه الدنيا حتى أناخت عند قدميه، فركلها بقدميه وأعرض عنها واختار ما عند الله". ليس هذا فحسب، بل بكى عليه أحد رُهبان النصارى، فقيل له: لِمَ تبكي عليه وعمر على غير دينك؟، قال:" يرحمه الله قد كان نورًا في الأرض فأُطفِئ".

هذه سيرة عمر أيها الإخوة الكرام . هل أعجبتكم؟.
إن أعجبتكم فاقْتَدوا بها، اقْتَدوا بعُمر وبالصالحين: علَّكم أن تكونوا بعضَهم إن لم تكنوا جُلَّهُم، فإن لم تستطعيعوا ذلك وجاهدتم نفوسكو فأحبَّوهم، فالمرءُ مع مَنْ أَحبَّ.
إذا أعجبتك خِصال امرئٍ *** فَكُنه يَكُن منك ما يُعجبكْ
فليس على الجُودِ والمَكرُماتِ *** إذا جِئتَها حاجبًا يحْجِبُكْ

اللهم: يا من لا تراه العيون، ولا تُخالِطه الظنون، ولا يصِفه الواصفون، يا من قَدَّر الدهور، ودبَّر الأمور، وعلِم هواجس الصدور، يا من عزَّ فارتفع، وذلَّ كلَّ شيء له فخضع، وجهك أكرم الوجوه، وجاهُك أعظم الجاه، وعطيِّتك أعظم العطيِّة، تجيب المضطرَّ، وتكشف الضرَّ، وتغفر الذنب، وتقبل التوب، لا إله إلا أنت يا من أظهر الجميل، يا من ستر القبيح، يا من لا يهتِك الستر، يا حَسَنَ التجاوز، يا واسعَ المغفرة، يا باسطَ اليدين بالرحمة، يا عظيمَ المَنِّ، يا كريمَ الصَّفْح، يا صاحبَ كلِّ نَجْوَى: تقبل عبدك عمر في الصالحين، وألحقنا به غير مغيرين ولا مبدلين، والحمد لله رب العالمين.


أمازيغي مسلم 08-10-2017 03:46 PM

رد: نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز
 
الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:

وهذه الآن:" ومضاتإبريزية من سيرة عمر بن عبد العزيز" رضي الله عنه، انتقيناها وانتخبناها من مؤلف:"الخليفة الراشد والمصلح الكبير عمر بن عبد العزيز"، جزى الله راقمه خير الجزاء، وقد حرصنا على عدم ذكر المصادر لئلا نثقل على القارئ الكريم، ومن أراد التفصيل، فليرجع للكتاب المذكور، والآن إلى المقصود بتوفيق المعبود:

أولا: اسمه ولقبه وكنيته وأسرته:
هو:" عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف": الإمام الحافظ العلامة المجتهد الزاهد العابد، السيد أمير المؤمنين حقاً: أبو حفص القرشي الأموي المدني ثم المصري، الخليفة الزاهد الراشد أشج بني أمية ، كان من أئمة الاجتهاد ومن الخلفاء الراشدين، وكان حسن الأخلاق والخُلق، كامل العقل، حسن السمت، جيِّد السياسة حريصاً على العدل بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، طاهر الذكاء والفهم، أوّاها منيباً، قانتا لله حنيفاً، زاهداً مع الخلافة ناطقاً بالحق مع قلة المعين، وكثرة الأمراء الظلمة الذين ملُّوهُ وكرهوا محاققته لهم، ونقصه أُعطياتهم، وأخذه كثيراً مما في أيديهم، مما أخذوه بغير حقٍّ، فمازالوا به حتى سقوه السم، فحصلت له الشهادة والسعادة، وعُد عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين والعلماء العاملين، وكان رحمه الله فصيحاً مُفوَّهاً.

*والده: هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وكان من خيار أمراء بني أمية، شجاعاً كريماً بقي أمير لمصر أكثر من عشرين سنة.
أكثر المؤرخون من الثناء عليه لجوده، وهذا الجود كان ممتزجاً باليقين بأن الله سبحانه وتعالى يخلف على من يرزقه، فيقول:" عجب لمؤمن يؤمن أن الله يرزقه ويخلف عليه، كيف يحبس ماله عن عظيم أجر وحسن ثناء!!؟".
كانت له ألف جفنة كل يوم تنصب حول داره، وكانت له مائة جفنة يطاف بها على القبائل تحمل على العجل.
ومن أقواله:" إذا أمكنني الرجل من نفسه حتى أضع معروفي عنده، فيده عندي أعظم من يدي عنده ".
*أمه: أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووالدها: عاصم بن عمر بن الخطاب، الفقيه، الشريف أبو عمرو القرشي العدوي ولد في أيام النبوة.

*ولادته ومكانها: 61هـ، المدينة.

*أشج بني أمية: كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يلقب بالأشج، وكان يقال له أشج بني مروان، وذلك أن عمر بن عبد العزيز عندما كان صغيراً دخل إلى اصطبل أبيه عندما كان والياً على مصر ليرى الخيل، فضربه فرس في وجهه فشجه، فجعل أبوه يمسح الدم عنه، ويقول:" إن كنت أشج بني أمية، إنك إذاً لسعيد "، ولما رأى أخوه الأصبغ الأثر قال:" الله أكبر!، هذا أشج بني مروان الذي يملك"، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: " إن من ولدي رجلاً بوجهه أثر يملأ الأرض عدلاً".
وكان الفاروق قد رأى رؤيا تشير إلى ذلك، وقد تكررت هذه الرؤيا لغير الفاروق حتى أصبح الأمر مشهوراً عند الناس بدليل ما قاله أبوه عندما رأى الدم في وجهه، وما قاله أخوه عندما رأى الشج في وجهه: كلاهما تفاءل لعله أن يكون ذلك الأشج الذي يملأ الأرض عدلاً.

*إخوته: كان لعبد العزيز بن مروان والد عمر بن عبد العزيز عشرة من الولد وهم: عمر وأبو بكر ومحمد وعاصم، وهؤلاء أمهم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وله من غيرها ستة وهم: الأصبغ وسهل وسهيل وأم الحكم وزبّان وأم البنين، وعاصم هو من تكنى به والدته ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، فكنيتها أم عاصم.

* أولاده: كان لعمر بن عبد العزيز رحمه الله أربعة عشرة ذكراً منهم:
عبد الملك وعبد العزيز وعبد الله وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وبكر والوليد وموسى وعاصم ويزيد وزبان وعبد الله.
وبنات ثلاثة: أمينة وأم عمار وأم عبد الله.

*زوجاته: نشأ عمر بالمدينة وتخلق بأخلاق أهلها، وتأثر بعلمائها وأكب على أخذ العلم من شيوخها، وكان يقعد مع مشايخ قريش ويتجنب شبابهم، ومازال ذلك دأبه حتى اشتهر، فلما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه، ابنته: فاطمة بنت عبد الملك، وهي امرأة صالحة تأثرت بعمر بن عبد العزيز وآثرت ما عند الله على متاع الدنيا، وهي التي قال فيها الشاعر:

بنت الخليفة والخليفة جدها أخت ÷ الخلائف والخليفة زوجها

ومعنى هذا البيت: أنها بنت الخليفة: عبد الملك بن مروان، والخليفة جدها: مروان بن الحكم، وأخت الخلائف، فهي: أخت الخلفاء الوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك ويزيد بن عبد الملك وهشام بن عبد الملك، والخليفة زوجها، فهو: عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، حتى قيل عنها:" لا نعرف امرأة بهذه الصفة إلى يومنا هذا سواها".
وقد ولدت لعمر بن عبد العزيز: إسحاق ويعقوب وموسى.
ومن زوجاته: لميس بنت علي بن الحارث، وقد ولدت له: عبد الله وبكر وأم عمار.
ومن زوجاته: أم عثمان بنت شعيب بن زيان، وقد ولدت له: إبراهيم.
وأما أولاده: عبد الملك والوليد وعاصم ويزيد وعبد الله وعبد العزيز وزيان وأمينة وأم عبد الله، فأمهم: أم ولد.

*صفاته الخلقية: كان عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ أسمر رقيق الوجه أحسنه، نحيف الجسم حسن اللحية، غائر العينين بجبهته أثر نفحة دابة، وقد خطه الشيب.
وقيل في صفته: أنه كان رجلاً أبيض دقيق الوجه، جميلاً، نحيفا.
وقيل في صفته: أنه كان رجلاً أبيض دقيق الوجه، جميلاً، نحيف الجسم، حسن اللحية.


أمازيغي مسلم 12-10-2017 09:44 AM

رد: نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز
 
ثانياً: العوامل التي أثرت في تكوين شخصية عمر بن عبد العزيز:
1 ـ الواقع الأسري:
نشأ عمر بن عبد العزيز في المدينة، فلما شب وعقل وهو غلام صغير كان يأتي عبد الله بن عمر بن الخطاب لمكان أمه منه، ثم يرجع إلى أمه، فيقول: " يا أمه أنا أحب أن أكون مثل خالي" ـ يريد: عبد الله بن عمرـ، فتؤفف به ثم تقول له:" أغرب أنت تكون مثل خالك!!؟"، وتكرر عليه ذلك غير مرة. فلما كبر سار أبوه عبد العزيز بن مروان إلى مصر أميرا عليها، ثم كتب إلى زوجته أم عاصم أن تقدم عليه وتقدم بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر،فأعلمته بكتاب زوجها عبد العزيز إليها، فقال لها:" يا ابنة أخي هو زوجك، فالحقي به"، فلما أرادت الخروج قال لها:" خلفي هذا الغلام عندنا ـ يريد عمر ـ فإنه أشبهكم بنا أهل البيت"، فخلفته عنده ولم تخالفه، فلما قدمت على عبد العزيز اعترض ولده، فإذا هو لا يرى عمر، قال لها:" وأين عمر؟"، فأخبرته خبر عبد اللهوما سألها من تخليفه عنده لشبهه بهم، فسرّ بذلك عبد العزيز، وكتب إلى أخيه عبد الملك يخبره بذلك، فكتب عبد الملك أن يجري عليه ألف دينار في كل شهر، ثم قدم عمر على أبيه مسلماً، وهكذا تربى عمر رحمه الله تعالى بين أخواله بالمدينة من أسرة عمر بن الخطاب، ولا شك أنه تأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة.

2 ـ إقباله المبكر على طلب العلم وحفظه القرآن الكريم:
فقد رزق منذ صغره حب الإقبال على طلب العلم وحب المطالعة والمذاكرة بين العلماء، كما كان يحرص على ملازمة مجالس العلم في المدينة، وكانت يومئذ منارة العلم والصلاح، زاخرة بالعلماء والفقهاء والصالحين، وتاقت نفسه للعلم وهو صغير، وكان أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز: حرصه على العلم، ورغبته في الأدب، وجمع عمر بن عبد العزيز القرآن الكريم وهو صغير، وساعده على ذلك: صفاء نفسه، وقدرته الكبيرة على الحفظ، وتفرغه الكامل لطلب العلم والحفظ.
وقد تأثر كثيراً بالقرآن الكريم في نظرته لله عز وجل والحياة والكون، والجنة والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الموت، وكان يبكي لذكر الموت بالرغم من حداثة سنه، فبلغ ذلك أمه فأرسلت إليه وقالت:" ما يبكيك؟"، قال:" ذكرت الموت"، فبكت أمه حين بلغها ذلك.
وقد عاش طيلة حياته مع كتاب الله عز وجل: متدبراً ومنفذاً لأوامره، ومن مواقفه مع القرآن الكريم:

أـ عن ابن أبي ذيب: قال: حدثني من شهد عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة، وقرأ عنده رجل: ((وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا))، فبكى عمر حتى غلبه البكاء وعلا نشيجه، فقام من مجلسه فدخل بيته، وتفرق الناس.

ب ـ وعن أبي مودود قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قرأ ذات يوم: ((وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا))، فبكى بكاءً شديداً حتى سمعه أهل الدار، فجاءت فاطمة ـ زوجته ـ فجعلت تبكي لبكائه وبكى أهل الدار لبكائهم، فجاء عبد الملك، فدخل عليهم وهم على تلك الحال يبكون، فقال:" يا أبه، ما يبكيك؟"، قال:" خير يا بني، ود أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بني: لقد خشيت أن أهلك، والله يا بني: لقد خشيت أن أكون من أهل النار".

ج ـ وعن عبد الأعلى بن أبي عبد الله العنزي قال: رأيت عمر بن عبد العزيز خرج يوم الجمعة في ثياب دسمة، ووراءه حبشي يمشي، فلما انتهى إلى الناس: رجع الحبشي، فكان عمر إذا انتهى إلى الرجلين قال:" هكذا رحمكما الله"، حتى صعد المنبر، فخطب فقرأ: ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ))، فقال: وما شأن الشمس؟، ((وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ))، حتى انتهى إلى ((وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ))، فبكى وبكى أهل المسجد، وارتج المسجد بالبكاء حتى رأيت أن حيطان المسجد تبكي معه.

س ـ وعن ميمون بن مهران قال: قرأ عمر بن عبد العزيز:((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ))، فبكى ثم قال: ((حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)):" ما أرى المقابر إلا زيارة، ولابد لمن يزورها أن يرجع إلى جنة أو إلى النار".

هذه بعض المواقف التي تبين تأثير القرآن الكريم على شخصية عمر بن عبد العزيز.

3 ـ الواقع الاجتماعي:
إن البيئة الاجتماعية المحيطة لها دور فعال ومهم في صناعة الرجال وبناء شخصيتهم، فعمر بن عبد العزيز عاش في زمن ساد فيه مجتمع التقوى والصلاح، والإقبال على طلب العلم، والعمل بالكتاب والسنة، فقد كان عدد من الصحابة رضي الله عنهم لا زالوا بالمدينة، فقد حدث عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن يزيد، وسهل بن سعد، واستوهب منه قدحاً شرب منه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمّ بأنس بن مالك، فقال:" ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى"، فكان للإقامة بالمدينة آثار نفسية ومعان إيمانية، وتعلق روحي، وكان لذلك المجتمع قوة التأثير في صياغة شخصية عمر بن عبد العزيز العلمية والتربوية.

يتبع إن شاء الله.



أمازيغي مسلم 16-10-2017 03:36 PM

رد: نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز
 
4 ـ تربيته على أيدي كبار فقهاء المدينة وعلمائها:
اختار عبد العزيز: والد عمر:" صالح بن كيسان"، ليكون مربياً لعمر بن عبد العزيز، فتولى صالح تأديبه، وكان يلزم عمر الصلوات المفروضة في المسجد، فحدث يوماً أن تأخر عمر بن عبد العزيز عن الصلاة مع الجماعة، فقال صالح بن كيسان:" ما يشغلك؟". قال:" كانت مرجّلتي تسكن شعري"، فقال:" بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟"، فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك، فبعث أبوه رسولاً، فلم يكلمه حتى حلق رأسه.
وحرص على التشبه بصلاة رسول الله أشد الحرص، فكان يتم الركوع والسجود، ويخفِّف القيام والقعود، وفي رواية صحيحة: أنّه كان يسبح في الركوع والسجود عشراً عشراً، ولمّا حج أبوه ومرّ بالمدينة: سأل صالح بن كيسان عن ابنه، فقال:" ما خبرت أحداً الله أعظم في صدره من هذا الغلام".
ومن شيوخ عمر بن عبد العزيز الذين تأثر بهم:" عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود" رحمه الله ، فقد كان عمر يجله كثيراً، ونهل من علمه، وتأدب بأدبه، وتردد عليه حتى وهو أمير المدينة، ولقد عبّر عمر عن إعجابه بشيخه وكثرة التردد إلى مجلسه، فقال:" لمجلس من الأعمى: عبيد الله بن عبد اللهبن عتبة بن مسعود: أحب إليّ من ألف دينار"، وكان يقول في أيام خلافته لمعرفته بما عند شيخه من علم غزير:" لو كان عبيد الله حياً ما صدرت إلا عن رأيه، ولوددت أن لي بيوم واحد من عبيد الله كذا وكذا".
وكان عبيد الله مفتي المدينة في زمانه، وأحد الفقهاء السبعة، قال عنه الزهري:" كان عبيد الله بن عبد الله بحراً من بحور العلم"، وكان يقرض الشعر، فقد كتب إلى عمر بن عبد العزيز هذه الأبيات:

بسم الذي أنزلت من عنده السور÷ والحمد لله أمّا بعد يا عمر
إن كنت تعلم ما تأتي وما تذر÷ فكن على حذر قد ينفع الحذر
واصبر على القدر المحتوم وأرض به ÷ وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
فما صفا لامرئ عيش يُسرٌّ به ÷ إلا سيتبع يوماً صفوه كدر

وقد توفي هذا العالم سنة 98هـ، وقيل 99هـ (10).

ومن شيوخ عمر:" سعيد بن المسيب" رحمه الله، وكان سعيد لا يأتي أحداً من الأمراء غير عمر.
ومن شيوخه:" سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب" رحمه الله الذي قال فيه سعيد بن المسيب:" كان عبد الله بن عمر أشبه ولد عمر به، وكان سالم أشبه ولد عبد الله به، وكان ابن عمر يحب ابنه سالم، وكان يلام في ذلك فكان يقول:
يلومنني في سالم وألومهم÷ وجلدة بين العين والأنف سالم

وتربي وتعلم عمر بن عبد العزيز على يدي كثير من العلماء والفقهاء، وقد بلغ عدد شيوخ عمر بن عبد العزيز:( ثلاثة وثلاثين، وثمانية منهم من الصحابة، وخمسة وعشرون من التابعين)، فقد نهل من علمهم، وتأدب بأدبهم، ولازم مجالسهم حتى ظهرت آثار هذه التربية المتينة في أخلاقه وتصرفاته، فامتاز بصلابة الشخصية، والجدية في معالجة الأمور، والحزم وإمعان الفكر، وإدامة النظر في القرآن، والإرادة القوية والترفع عن الهزل والمزاح.

ثالثاً: مكانته العلمية:
اتفقت كلمة المترجمين له على أنه من أئمة زمانه، فقد أطلق عليه كل من الإمامين:( مالك وسفيان بن عيينة): وصف إمام.
وقال فيه مجاهد: "أتيناه نعلمه، فما برحنا حتى تعلمَّنا منه".
وقال ميمون بن مهران:" كان عمر بن عبد العزيز معلمَّ العلماء".
وقال فيه الذهبي:" كان إماماً فقيهاً مجتهداً، عارفاً بالسنن، كبير الشأن، حافظاً قانتاً لله أوَّاهاً منيباً يعد في حسن السيرة والقيام بالقسط مع جده لأمه عمر، وفي الزهد مع الحسن البصري، وفي العلم مع الزهري".
وقد احتج الفقهاء والعلماء بقوله وفعله، ومن ذلك: رسالة الإمام الليث بن سعد إلى الإمام مالك بن أنس رضي الله عنهما، وهي رسالة قصيرة، وفيها يحتج الليث ـ مراراً ـ بصحة قوله، بقول عمر بن عبد العزيز على مالك فيما ذهب إليه في بعض مسائله.
ويرد ذكر عمر بن عبد العزيز في كتب الفقه للمذاهب الأربعة المتبوعة على سبيل الاحتجاج بمذهبه، فاستدل الحنفية بصنيعه في كثير من المسائل، وجعلوا له وصفاً يتميَّز به عن جدّه لأمه: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال القرشي في الجواهر المضيئة:" فائدة يقول: أصحابنا في كتبهم في مسائل الخلاف: وهو قول عمر الصغي"، يريدون به عمر بن عبد العزيز الإمام الخليفة المشهور.
ويكثر الشافعية من ذكره في كتبهم، ولذلك ترجم له الإمام النووي ترجمة حافلة في:( تهذيب الأسماء واللغات)، وقال في أولها:" تكرر في المختصر والمهذب".
وأما المالكية، فيكثرون من ذكره في كتبهم أكثر من غيرهم، ومالك إمام المذهب ذكر في:(الموطأ) محتجاً بفتواه وقوله في مواضع عديدة في موطئه.
وأما الحنابلة فكذلك، يذكرونه كثير، وعمر هو الذي قال فيه الإمام أحمد:
" لا أدري قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز "، وكفاه هذا، وكفانا قول الإمام أحمد أيضاً:" إذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز، ويذكر محاسنه وينشرها، فاعلم أن من وراء ذلك خيراً إن شاء الله".
ومن أراد أن يتبحر في علم عمر بن عبد العزيز، ويعرف مكانته العلمية، فليراجع الكتب الآتية:
(الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة) للأستاذ: حياة محمد جبر، والكتاب في مجلدين، وهي: رسالة علمية.
وكذلك:( فقه عمر بن عبد العزيز) للدكتور: محمد سعد شقير في مجلدين، وهي: رسالة علمية نال بها المؤلف درجة الدكتوراه.
و:(موسوعة فقه عمر بن عبد العزيز ) لمحمد رواس قلعجي.

يتبع إن شاء الله.




أمازيغي مسلم 19-10-2017 04:17 PM

رد: نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز
 
رابعاً: عمر في عهد الوليد بن عبد الملك:
يعد عمر بن عبد العزيز من العلماء الذين تميزوا بقربهم من الخلفاء، وكان لهم أثر كبير في نصحهم وتوجيه سياستهم بالرأي والمشورة، ويحتل عمر بن عبد العزيز مكانة متميزة في البيت الأموي، فقد كان عبد الملك يجله ويعجب بنباهته أثناء شبابه مما جعله يقدمه على كثير من أبنائه ويزوجه من ابنته، ولكن لم يكن له مشاركات في عهد عبد الملك بسبب صغر سنه واشتغاله بطلب العلم في المدينة، ومع ذلك فقد أورد ابن الجوزي أنه كتب إلى عبد الملك كتاباً يذكره فيه بالمسئولية الملقاة على عاتقه، وقد جاء فيها:
" أما بعد: فإنك راعٍ، وكل مسؤول عن رعيته، حدثنا أنس بن مالك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" كل راعٍ مسئول عن رعيته": [اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا].
ويقال بأن عمر بن عبد العزيز ولاّه عمه عبد الملك خناصره لكي يتدرب على الأعمال القيادية في وقت مبكر، وقد قيل: إن سليمان بن عبد الملك هو: الذي ولاه على خناصره، وهناك من رجح القول، وقد تأثر عمر بن عبد العزيز لموت عمه، وحزن عليه حزناً عظيماً، وقد خاطب عمر ابن عمه مسلمة بن عبد الملك، فقال له:" يا مسلمة إني حضرت أباك لما دفن، فحملتني عيني عند قبره، فرايته قد أفضى إلى أمر من أمر الله، راعني وهالني، فعاهدت الله ألا أعمل بمثل عمله إن وليت، وقد اجتهدت في ذلك".

1 ـ ولايته على المدينة:
في ربيع الأول من عام 87هـ: ولاّه الخليفة الوليد بن عبد الملك إمارة المدينة المنورة، ثم ضم إليه ولاية الطائف سنة 91هـ، وبذلك صار والياً على الحجاز كلها: واشترط عمر لتوليه الإمارة ثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يعمل في الناس بالحق والعدل ولا يظلم أحداً، ولا يجور على أحد في أخذ ما على الناس من حقوق لبيت المال، ويترتب على ذلك: أن يقل ما يرفع للخليفة من الأموال من المدينة.
الشرط الثاني: أن يسمح له بالحج في أول سنة، لأن عمر كان في ذلك الوقت لم يحج.
الشرط الثالث: أن يسمح له بالعطاء أن يخرجه للناس في المدينة، فوافق الوليد على هذه الشروط، وباشر عمر بن عبد العزيز عمله بالمدينة، وفرح الناس به فرحاً شديد.

2 ـ مجلس شورى عمر بن عبد العزيز: مجلس فقهاء المدينة العشرة:
كان من أبرز الأعمال التي قام بها عمر بن عبد العزيز:" تكوينه لمجلس الشورى بالمدينة"، فعند ما جاء الناس للسلام على الأمير الجديد بالمدينة وصلى، دعا عشرة من فقهاء المدينة، وهم:" عروة ابن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخوه عبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجه بن زيد بن ثابت"، فدخلوا عليه فجلسوا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
" إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرّج الله على من بلغه ذلك إلا أبلغني".
لقد عرفنا أن عمر بن الخطاب كان يجمع المجلس للأمر يطرأ، فيرى ضرورة الشورى فيه، أما عمر بن عبد العزيز، وهو سبط عمر بن الخطاب، فقد أحدث مجلساً، حدّد صلاحياته بأمرين:
أـ أنهم أصحاب الحق في تقرير الرأي، وأنه لا يقطع أمراً إلا برأيهم، وبذلك يكون الأمير قد تخلى عن اختصاصاته إلى هذا المجلس، الذي نسميه: (مجلس العشرة).
ب ـ أنه جعلهم مفتشين على العمال، ورقباء على تصرفاتهم، فإذا ما اتصل بعلمهم أو بعلم أحدهم: أن عاملاً ارتكب ظلامة، فعليهم أن يبلغوه، وإلا فقد استعدى الله على كاتم الحق.
ونلاحظ كذلك على هذا التدبير أنه قد تضمن أمرين:
أحدهما: أن الأمير عمر بن عبد العزيز لم يخصص تعويضاً لمجلس العشرة، لأنهم كانوا من أصحاب العطاء، وبما أنهم فقهاء، فما ندبهم إليه داخل في صلب اختصاصهم.
الثاني: إن عمر افترض ـ غياب أحدهم عن الحضور لعذر من الأعذار، ولهذا لم يشترط في تدبيره: حضورهم كلهم، وإنما قال:" أو برأي من حضر منكم".
إن هذا المجلس كان يستشار في جميع الأمور دون استثناء، ونستنتج من هذه القصة: أهمية العلماء الربانيين وعلو مكانتهم، وأنه يجب على صاحب القرار أن يدنيهم ويقربهم منه، ويشاورهم في أمور الرعية، كما أنه على العلماء أن يلتفوا حول الصالح من أصحاب القرار من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن للمصالح، وتقليل ما يمكن من المفاسد، كما أن عمر بن عبد العزيز لم يختصر في شوراه على هؤلاء فحسب، بل كان يستشير غيرهم من علماء المدينة، كسعيد بن المسيِّب، والزهري، وغيرهم، وكان لا يقضي في قضاء حتى يسأل سعيد.
وفي المدينة أظهر عمر عبد العزيز إجلاله للعلماء وإكباره لهم، وقد حدث أن أرسل رحمه الله تعالى رسولاً إلى سعيد بن المسيِّب يسأله عن مسألة، وكان سعيد لا يأتي أمير ولا خليفة، فأخطأ الرسول فقال له: الأمير يدعوك، فأخذ سعيد نعليه وقام إليه في وقته، فلما رآه عمر قال له:" عزمت عليك يا أبا محمد إلا رجعت إلى مجلسك حتى يسألك رسولنا عن حاجتنا، فإنا لم نرسله ليدعوك، ولكنه أخطأ أنما أرسلناه ليسألك".

وفي إمارته على المدينة في سنة 91هـ حج الخليفة الوليد بن عبد الملك، فاستقبله عمر بن عبد العزيز أحسن استقبال، وشاهد الوليد بأم عينيه الإصلاحات العظيمة التي حققها عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة.

ومن الأدلة على صلاح عمر بن عبد العزيز وقت ولايته على المدينة غير ما ذكر: ما رواه أبو عمر مولى أسماء بنت أبي بكر قال: فأتيته في مجلسه الذي يصلي فيه الفجر، والمصحف في حجره، ودموعه تسيل على لحيته.
وحدّث ابن أبي الزناد عن أبيه، قال: كان عمر بن عبد العزيز، وهو أمير على المدينة: إذا أراد أن يجود بالشيء قال:" ابتغوا أهل بيت بهم حاجة".


3 ـ عظة مزاحم مولى عمر بن عبد العزيز له:
حبس عمر رجلاً بالمدينة، وجاوز عمر في حبسه القدر الذي يستحقه، فكلمه مزاحم في إطلاقه، فقال له عمر:" ما أنا بمخرجه حتى أبلغ في الحيطة عليه بما هو أكثر مما مرّ"، فقال: مزاحم: مغضباً: يا عمر بن عبد العزيز، إني أحذرك ليلة تمخض بالقيامة، وفي صبيحتها تقوم الساعة يا عمر: ولقد كدت أنسى أسمك مما أسمع: قال الأمير، قال الأمير، قال الأمير، قال عمر:" إن أول من أيقظني لهذا الشأن مزاحم، فوالله ما هو إلا أن قال ذلك، فكأنما كشف عن وجهي غطاء".
وهذه القصة تبين لنا أهمية الصديق الصالح المخلص الذي يذكرك بالله حين الغفلة.



أمازيغي مسلم 25-10-2017 03:17 PM

رد: نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز
 
4 ـ بين عمر بن عبد العزيز والحجّاج في خلافة الوليد:
ذكر ابن الجوزي: أن عمر بن عبد العزيز قد استعفى من المدينة كما مرّ ذكره، ولكن ذكر غيره أنه عزل عنها، ففي سنة 92هـ عقد الخليفة الوليد لواء الحج للحجاج بن يوسف الثقفي، ليكون أميراً على الحج، ولما علم عمر بن عبد العزيز بذلك، كتب رحمه الله تعالى إلى الخليفة يستعفيه أن يمرَّ عليه الحجاج بالمدينة المنورة، لأن عمر بن عبد العزيز كان يكره الحجّاج ولا يطيق أن يراه، لما هو عليه من الظلم، فامتثل الوليد لرغبة عمر، وكتب إلى الحجّاج:" إن عمر بن عبد العزيز كتب إليَّ يستعفيني من ممرك عليه، فلا عليك أن لا تمر بمن كرهك فتنحّ عن المدينة".
وقد كتب عمر بن عبد العزيز وهو والٍ على المدينة إلى الوليد بن عبد الملك يخبره عما وصل إليه حال العراق من الظلم والضيم والضيق بسبب ظلم الحجّاج وغشمه، مما جعل الحجّاج يحاول الانتقام من عمر لاسيما وقد أصبح الحجاز ملاذاً للفارين من عسف الحجاج وظلمه حيث كتب الحجّاج إلى الوليد:" إن من قبلي من مراق أهل العراق وأهل الثقاف قد جلوا عن العراق، ولجأوا إلى المدينة ومكة، وإن ذلك وهن"، فكتب إليه يشير عليه بعثمان بن حبان، وخالد بن عبد الله القسري، وعزل عمر عبد العزيز.
وقد كان ميول الوليد لسياسة الحجّاج واضحاً، وكان يظن بأن سياسة الشدة والعسف هي: السبيل الوحيد لتوطيد أركان الدولة، وهذا ما حال بينه وبين الأخذ بآراء عمر بن عبد العزيز ونصائحه، وقد أثبتت الأحداث فيما بعد أن ما كان يراه عمر: أفضل مما كان يسير عليه الوليد، وذلك بعد تولي عمر الخلافة وتطبيقه لما كان يشير به.

5 ـ عودة عمر بن عبد العزيز إلى دمشق:
خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة المنورة وهو يبكي ومعه خادمه مزاحم، فالتفت إلى مزاحم، وقال:" يا مزاحم، نخشى أن نكون من نفت المدينة"، يشير بذلك إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ألا وإن المدينة كالكير يخرج الخبث، لا تقوم الساعة حتى تفني المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الحديد"، وقال مزاحم:" ولما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة نظرت، فإذا القمر في الدبران" ـ كأنه تشاءم من ذلك ـ فقال:" فكرهت أن أقول ذلك له، فقلت: ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة!"، فنظر عمر فإذا هو بالدبران، فقال:" كأنك أردت أن تعلمني أن القمر بالدبران. يا مزاحم: إنا لا نخرج بشمس ولا بقمر، ولكن نخرج بالله الواحد القهار".
وسار عمر حتى وصل السويداء، وكان له فيها بيت ومزرعة، فنزل فيها فأقام مدة يرقب الأوضاع عن بعد، ثم رأى أن مصلحة المسلمين تقتضي أن تكون إقامته في دمشق، بجوار الخليفة، لعله بذلك يستطيع أن يمنع ظلماً، أو يشارك في إحقاق حق، فانتقل إلى دمشق فأقام بها.
ولم يكن عمر بن عبد العزيز على وفاق تام مع الخليفة الوليد بن عبد الملك، ولذلك فإن إقامته في دمشق بجوار الوليد: لم تخل من مشاكل، فالوليد يعتمد في تثبيت حكمه على ولاة أقوياء قساة يهمهم إخضاع الناس بالقوة، وإن رافق ذلك كثير من الظلم، بينما يرى عمر إن إقامة العدل بين الناس كفيل باستقرار الملك وإئتمارهم بأمر السلطان، فكان رحمه الله يقول:" الوليد بالشام والحجّاج بالعراق، ومحمد بن يوسف ـ أخ الحجّاج ـ في اليمن، وعثمان بن حيان بالحجاز، وقرة بن شريك في مصر، .. امتلأت والله الأرض جوراً".

6 ـ نصح عمر للوليد بالحد من صلاحيات عماله في القتل:
سلك عمر بن عبد العزيز بعض الطرق والوسائل لإصلاح هذا الوضع، فمن ذلك: نصحه للوليد بالحد من صلاحيات عماله في القتل، وقد نجح في بادي الأمر في استصدار قرار يمنع أي والٍ من القتل إلا بعد علم الخليفة وموافقته على ذلك، فيذكر ابن عبد الحكم: أن عمر بن عبد العزيز دخل على الوليد بن عبد الملك، فقال:" يا أمير المؤمنين إن عندي نصيحة، فإذا خلا لك عقلك، واجتمع فهمك فسلني عنها، قال: ما يمنعك منها الآن؟، قال: أنت أعلم، إذا اجتمع لك ما أقول، فإنك أحق أن تفهم فمكث أياماً، ثم قال: يا غلام من بالباب؟، فقيل له ناس وفيهم عمر بن عبد العزيز، فقال: أدخله، فدخل عليه فقال: نصيحتك يا أبا حفص، فقال عمر:" إنه ليس بعد الشرك إثم أعظم عند الله من الدم، وأن عمالك يقتلون، ويكتبون إن ذنب فلان المقتول كذا وكذا، وأنت المسئول عنه والمأخوذ به، فاكتب إليهم ألا يقتل أحد منهم أحداً حتى يكتب بذنبه ثم يشهد عليه، ثم تأمر بأمرك على أمر قد وضح لك". فقال: بارك الله فيك يا أبا حفص ومنع فقدك، عليَّ بكتاب، فكتب إلى أمراء الأمصار كلهم، فلم يحرج من ذلك إلا الحجّاج فإنه أمضه، وشق عليه وأقلقه، وظن أنه لم يكتب إلى أحد غيره، فبحث عن ذلك، فقال: من أين ذهبنا؟، أو من أشار على أمير المؤمنين بهذا؟، فأخبر أن عمر بن عبد العزيز هو الذي فعل ذلك فقال: هيهات إن كان عمر فلا نقض لأمره، ثم أن الحجّاج أرسل إلى أعرابي حروري ـ من الخوارج ـ جاف من بكر بن وائل، ثم قال له الحجّاج: ما تقول في معاوية؟، فنال منه، قال: ما تقول في يزيد؟، فسبه، قال: فما تقول في عبد الملك؟، فظلمه، قال: فما تقول في الوليد؟، فقال: أجورهم حين ولاك، وهو يعلم عداءك وظلمك!!؟، فسكت الحجّاج وافترصها منه، ثم بعث به إلى الوليد وكتب إليه: أنا أحوط لديني، وأرعى لما استرعيتني وأحفظ له من أن أقتل أحداً لم يستوجب ذلك، وقد بعثت إليك ببعض من كنت أقتل على هذا الرأي، فشأنك وإياه.
فدخل الحروري على الوليد وعنده أشراف أهل الشام وعمر فيهم، فقال له الوليد: ما تقول فيّ؟، قال: ظالم جبار. قال: ما تقول في عبد الملك؟، قال: جبار عاتٍ. قال فما تقول في معاوية؟، قال: ظالم. قال الوليد لابن الريان أضرب عنقه، فضرب عنقه، ثم قام فدخل منزله وخرج الناس من عنده فقال: يا غلام أردد عليّ عمر، فرده عليه فقال: يا أبا حفص ما تقول بهذا؟، أصبنا أم أخطأنا؟، فقال عمر: ما أصبت بقتله، ولغير ذلك كان أرشد وأصوب، كنت تسجنه حتى يراجع الله عز وجل أو تدركه منيته، فقال الوليد شتمني وشتم عبد الملك وهو حروري، أفتستحل ذلك؟. قال: لعمري ما استحله، لو كنت سجنته إن بدا لك أو تعفو عنه، فقام الوليد مغضباً، فقال ابن الريان لعمر: يغفر الله لك يا أبا حفص، لقد راددت أمير المؤمنين حتى ظننت أنه سيأمرني بضرب عنقك، وهكذا احتال الحجّاج على الوليد، ليصرفه عن الأخذ برأي عمر في الحد من سرف الحجّاج وأمثاله في القتل.

7 ـ رأي عمر بن عبد العزيز في التعامل مع الخوارج:
بالإضافة إلى الموقف الذي مرّ ذكره آنفاً ـ في شأن الحروري الذي بعث به الحجّاج ـ وردت روايات توضح الموقف نفسه، فعن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخبره أن الوليد أرسل إليه بالظهيرة، فوجده قاطباً بين عينيه، قال: فجلست وليس عنده إلا ابن الريان، قائم بسيفه، فقال: ما تقول فيمن يسب الخلفاء؟، أترى أن يقتل؟، فسكت، فانتهرني، وقال: مالك؟، فسكت، فعاد لمثلها، فقلت: أقتل يا أمير المؤمنين؟، قال: لا، ولكنه سب الخلفاء، قلت: فإني أرى أن ينكل، فرفع رأسه إلى ابن الريان، فقال الوليد: إنه فيهم لتائه.




أمازيغي مسلم 30-10-2017 09:41 AM

رد: نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز
 
8 ـ نصحه الوليد عندما أراد خلع سليمان والبيعة لابنه:
ومن آخر مواقفه التي ذكرت لعمر بن عبد العزيز في عهد الوليد بن عبد الملك: نصحه للوليد عندما أراد خلع سليمان والبيعة لابنه عبد العزيز من بعده، فوقف عمر من ذلك موقفاً حازماً حيث لم يستجب لأمر الوليد في ذلك وقال حين أراده على ذلك:
" يا أمير المؤمنين إنما بايعنا لكما في عقدة واحدة، فكيف نخلعه ونتركك؟"، فغضب الوليد على عمر، وحاول استخدام الشدة معه لعله يوافقه على ما أراد، فيذكر أنه أغلق عليه الدار، وطين عليه الباب حتى تدخلت أم البنين أخته وزوجة الوليد، ففتح عنه بعد ثلاث، وقد ذبل ومالت عنقه.

خامساً: عمر في عهد سليمان بن عبد الملك:
في عهد سليمان تهيأت الفرص لعمر بن عبد العزيز بقدر كبير، فظهرت آثاره في مختلف الجوانب، فبمجرد تولي سليمان الخلافة: قرب عمر بن عبد العزيز، وأفسح له المجال واسعاً حيث قال:" يا أبا حفص إنا ولينا ما قد ترى، ولم يكن بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمر به"، وجعله وزيراً ومستشاراً ملازماً له في إقامته أو سفره، وكان سليمان يرى أنه محتاج له في صغيره وكبيره، فكان يقول:" ما هو إلا أن يغيب عني هذا الرجل، فما أجد أحداً يفقه عني"، وفي موضع آخر قال:" يا أبا حفص ما اغتممت بأمر، ولا أكربني أمر إلا خطرت فيه على بالي".

1 ـ أسباب تقريب سليمان لعمر:
والذي دفع سليمان إلى إفساح المجال أمام عمر بهذه الصورة يعود في نظري إلى عدة أسباب منها:
أـ شخصية سليمان بن عبد الملك: حيث لم يكن مثل أخيه الوليد معجباً بنفسه معتداً برأيه وواقعاً تحت تأثير بعض ولاته، بل كان سليمان على العكس من ذلك غير معتد برأيه خالياً من التأثيرات الأخرى عليه.
ب ـ قناعة سليمان بما يتمتع به عمر من نظرات وآراء صائبة.
جـ ـ موقف عمر من محاولة الوليد: خلع سليمان، مما جعل سليمان يشكر ذلك لعمر، وقد أشار لهذا الذهبي حيث قال بعد عرضه لموقف عمر:" فلذلك شكر سليمان عمر، وأعطاه الخلافة بعده".

2 ـ تأثير عمر على سليمان في إصدار قرارات إصلاحية:
فقد كان لعمر أثر كبير على سليمان في إصدار عدد من القرارات النافعة ومن أهمها: عزل ولاة الحجّاج، وبعض الولاة الآخرين، كوالي مكة: خالد القسري، ووالي المدينة: عثمان بن حيان.
ومنها: الأمر بإقامة الصلاة في وقتها، فأورد ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز: أن الوليد بن عبد الملك كان يؤخر الظهر والعصر، فلما ولي سليمان كتب إلى الناس ـ عن رأي عمر ـ" أن الصلاة كانت قد أميتت فأحيوها". وهناك أمور أخرى أجملها الذهبي بقوله:" مع أمور جليلة كان يسمع من عمر فيها".

3 ـ إنكاره على سليمان بن عبد الملك في تحكيمه كتاب أبيه:
كلمّ عمر بن عبد العزيز سليمان بن عبد الملك في ميراث بعض بنات عبد العزيز من بني عبد الملك، فقال له سليمان بن عبد الملك:" إن عبد الملك كتب في ذلك كتاباً منعهن ذلك"، فتركه يسيراً ثم راجعه، فظن سليمان أنه اتهمه فيما ذكر من رأي عبد الملك في ذلك الأمر، فقال سليمان لغلامه: " ائتني بكتاب عبد الملك"، فقال له عمر:" أبا المصحف دعوتَ يا أمير المؤمنين؟"، فقال أيوب بن سليمان:" ليوشكن أحدكم أن يتكلم الكلام تضرب فيه عنقه"، فقال له عمر:" إذا أفضى الأمر إليك، فالذي دخل على المسلمين أعظم مما تذكر"، فزجر سليمان أيوب، فقال عمر:" إن كان جهل فما حلمُنا عنه".
فهذا موقف من مواقف الجرأة في قول الحق الذي يُحمد لعمر، حيث اعتبر سليمان بن عبد الملك كتابة أبيه شرعاً لا يمكن تغييره، فنبهه عمر إلى أن الكتاب الذي لا ينقض ولا يغيّر هو: كتاب الله تعالى وحده.
وهناك موقف يذكر لسليمانن حيث وبخّ ولده الذي هدد عمر: أن قال كلمة الحق، وهذا يدل على ما يتصف به سليمان من سرعة الرجوع إلى الحق إذا تبين له.

4 ـ إنكاره على سليمان بن عبد الملك في الإنفاق:
قدم سليمان بن عبد الملك المدينة، فأعطى بها مالاً عظيماً، فقال لعمر بن عبد العزيز:" كيف رأيت ما فعلنا يا أبا حفص؟"، قال:" رأيتك زدت أهل الغنى غنى، وتركت أهل الفقر بفقرهم".
فهذا تقويم جيد من عمر بن عبد العزيز لعمل سليمان بن عبد الملك، فقد كان سليمان لجهله بدقائق أحكام الشريعة في مجال الإنفاق: يظن أنه بإنفاقه ذلك المال الكثير على الرعية قد عمل صالحاً، فأفاده عمر بن عبد العزيز بأنه قد أخطأ حينما صرف ذلك المال لغير مستحقيه وحرم منه أهله، فقد بين عمر رحمه الله أهمية التفريق بين بذل الخير وصرفه لمستحقيه.

5 ـ حث عمر سليمان على رد المظالم:
خرج سليمان ومعه عمر إلى البوادي، فأصابه سحاب فيه برق وصواعق، ففزع منه سليمان ومن معه، فقال عمر:" إنما هذا صوت نعمة، فكيف لو سمعت صوت عذاب؟"، فقال سليمان:" خذ هذه المائة ألف درهم وتصدق بها"، فقال عمر:" أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين؟"، قال:" وما هو؟"، قال:" قوم صحبوك في مظالم لم يصلوا إليك"، فجلس سليمان، فرد المظالم.
ويظهر عند عمر: وضوح فقه ترتيب الأولويات، فرد المظالم مقدم على بذل الصدقات.

6 ـ أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً:
أقبل سليمان بن عبد الملك وهو أمير المؤمنين، ومعه عمر بن عبد العزيز على معسكر سليمان، وفيه تلك الخيول والجمال والبغال والأثقال والرجال، فقال سليمان:" ما تقول يا عمر في هذا؟"، قال:" أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً، وأنت المسئول عن ذلك كله"، فلما اقتربوا من المعسكر، إذا غراب قد أخذ لقمة في فيه من فسطاط سليمان وهو طائر بها ونعب نعبة، فقال له سليمان:" ما تقول في هذا يا عمر؟"، فقال:" لا أدري"، فقال:" ما ظنك أنه يقول؟"، قال:" كأنه يقول: من أين جاءت؟ وأين يذهب بها؟"، فقال له سليمان:" ما أعجبك؟"، فقال عمر:" أعجب مني من عرف الله فعصاه، ومن عرف الشيطان فأطاعه".

7 ـ هم خصماؤك يوم القيامة:
لما وقف سليمان وعمر بعرفة جعل سليمان يعجب من كثرة الناس، فقال له عمر:" هؤلاء رعيّتُك اليوم،، وأنت مسئول عنهم غداً"، وفي رواية:" وهم خصماؤك يوم القيامة"، فبكى سليمان وقال:" بالله استعين".

8 ـ زيد بن الحسن بن علي مع سليمان:
كان زيد بن الحسن بن علي قد أجاب الوليد بن عبد الملك في مسألة خلع سليمان خوفاً من الوليد، وكتب بموافقته من المدينة إلى الوليد، فلما استخلف سليمان وجد الكتاب، فبعث إلى واليه على المدينة، أن يسأل زيداً عن أمر الكتاب، فإن هو اعترف به، فليبعث بذلك إليه، وإن أنكر عليه اليمين أمام منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بعث باعترافه إلى سليمان كتب سليمان إلى والي المدينة أن يضربه مائة سوط ويمشيه حافياً، فحبس عمر الرسول، وقال:" لا تخرج حتى أكلم أمير المؤمنين، فيما كتب في زيد بن حسن، لعلي أطيب نفسه، فيترك هذا الكتاب"، فجلس الرسول فمرض سليمان، فقال للرسول لا تخرج، فإن أمير المؤمنين مريض، فلما توفي سليمان وأفضى الأمر إلى عمر: دعا بالكتاب ومزقه.
وظل عمر بن عبد العزيز قريباً من سليمان طيلة مدة خلافته يحوطه بنصحه وإرشاده.





أمازيغي مسلم 09-11-2017 09:42 AM

رد: نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز
 
سادساً: خلافة عمر بن عبد العزيز:
ومن حسنات سليمان عبد الملك: قبوله لنصيحة الفقيه العالم: رجاء بن حيوة الكندي الذي اقترح على سليمان في مرض موته: أن يولي عمر بن عبد العزيز، وكانت وصية لم يكن للشيطان فيها نصيب، قال ابن سيرين:
" يرحم الله سليمان افتتح خلافته بإحياء الصلاة، واختتمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز"، وكانت سنة وفاته سنة 99هـ، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكان منقوش في خاتمه: (أؤمن بالله مخلصاً)،

1 ـ منهج عمر في إدارة الدولة من خلال خطبته الأولى:
صعد عمر المنبر، وقال في أول لقاء مع الأمة بعد استخلافه:
" أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم"، فصاح الناس صيحة واحدة:" قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك، فوّل أمرنا باليمن والبركة".
وهنا شعر أنه لا مفر من تحمل مسؤولية الخلافة، فأضاف قائلاً يحدد منهجه وطريقته في سياسة الأمة المسلمة:
" أما بعد:
فإنه ليس بعد نبيكم نبي، ولا بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب، ألا إن ما أحل الله حلال إلى يوم القيامة، ألا إني لست بقاض، ولكني منفذ، ألا وإني لست بمبتدع، ولكني متبع، ألا إنه ليس لأحد أن يطاع في معصية الله، ألا إني لست بخيركم، ولكني رجل منكم غير أن الله جعلني أثقلكم حملاً.
أيها الناس: من صحبنا، فليصحبنا بخمس، وإلا فلا يقربنا:
يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا الرعية، ولا يعترض فيما لا يعنيه.
أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله عز وجل خلف، واعملوا لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته: كفاه الله تبارك وتعالى أمر ديناه، وأصلحوا سرائركم، يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا من ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات ... وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل، ولا في نبيها صلى الله عليه وسلم، ولا في كتابها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقا".
ثم رفع صوته حتى أسمع الناس، فقال:
" يا أيها الناس، من أطاع الله، وجبت طاعته، ومن عصى الله، فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الل،ه فلا طاعة لي عليكم.
وإن من حولكم من الأمصار والمدن، فإن هم أطاعوا كما أطعتم، فأنا وليكم، وإن هم نقمو،ا فلست لكم بوال"، ثم نزل.

وهكذا عقدت الخلافة لعمر بن عبد العزيز في ذلك اليوم، وهو يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين، ويظهر لنا من هذه الخطبة السياسية التي قرر عمر بن عبد العزيز أتباعها في الحكم وهي:

أـ الترامه بالكتاب والسنة، وأنه غير مستعد للاستماع إلى أي جدل في مسائل الشرع والدين على أساس أنه حاكم منفذ، وأن الشرع بين من حيث تحليل ما أحل الله، وتحريم ما حرم الله، ورفضه للبدعة والآراء المحدثة.

ب ـ حدد لمن يريد أن يتصل به ويعمل معه من رعيته: أن يكون اتصاله معه لخمسة أسباب:
* ـ أن يرفع إليه حاجة من لا يستطيع أن يصل إلى الخليفة، أي: أنه جعل المقربين منه همزة وصل بينه، وبين من لا يستطيعون الوصول إليه، فيعرف بذلك حوائج الناس، وينظر فيها.
* ـ أن يعينه على الخير ما استطاع، أي: أن علاقة هؤلاء به تقوم على أساس نزعة الخير يعين الخليفة عليه، وبالتالي يحذره من أي شر.
* ـ فرض على من يقترب إليه فريضة أن يرشده، ويهديه إلى ما فيه خير الأمة، وخير الدين.
* ـ نهى من يريد أن يتقرب إليه، عن أن يغتاب إليه أحد.
* ـ أن لا يتدخل أي متقرب منه في شؤون الحكم، وفيما لا يعنيه عامة.

ج ـ كما أنه حذر الناس من عواقب الدنيا لو أساؤوا فيها، وطلب إليهم أن يصلحوا سرائرهم، ويحذروا الموت، ويتعظوا به.

ح ـ قطع على نفسه عهداً بأن لا يعطي أحداً باطلاً، ولا يمنع أحداً حقاً، وأنه أعطاهم حقاً عليه، وهو: أن يطيعوه ما أطاع الله، وأنه لا طاعة له عليهم إذا عصاه سبحانه وتعالى.

هذه هي الخطوط العريضة لسياسة عمر، ذكرها في أول لقاء له مع الرعية وأهل الحل والعقد في المسجد، بعد بيعته، فدولته قد حدّدها بالسير على كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد آثر أن لا يدع لأي عامل من عماله حجة عليه بعد ذلك، ففصل ما أجمل في خطبته الأولى في كتب أرسلها إلى عماله، وقد كانت هذه الكتب نوعين:
ـ كتب إلى العمال يبصرهم بما يجب عليهم: أن يلتزموا به في مسلكهم الشخصي والخاص، إزاء الرعية ـ وسوف نتحدث عن ذلك بإذن الله.
ـ وكتب إلى عماله التي حددت سياستهم، وطريقة تعاملهم مع أفراد الرعية من المسلمين، وغير المسلمين، ممن كانوا يسكنون دار الإسلام وعمر في هذه الكتب ـ كما سيظهر بإذن الله ـ تكلم عن موقفه كفقيه متبحر في أصول الدين، وسيأتي الحديث عن منهجه من خلال أعماله.

2 ـ الحرص على العمل بالكتاب والسنة:
من أهم ما يميز منهج عمر في سياسته: حرصه على العمل بالكتاب والسنة ونشر العلم بين رعيته، وتفقيههم في الدين وتعريفهم بالسنة، ومنطلق عمر في ذلك: فهمه لمهمة الخلافة، فهي:" حفظ الدين وسياسة الدنيا به"، فهو يرى أن من أهم واجباته: تعريف رعيته بمبادئ دينهم، وحملهم على العمل بها، فورد عنه أنه قال في إحدى خطبه:
" إن للإسلام حدوداً وشرائع وسنناً، فمن عمل بها استكمل الإيمان، ومن لم يعمل بها: لم يستكمل الإيمان، فلأن أعش أعلمكموها وأحملكم عليها، وإن أمت، فما أنا على صحبتكم بحريص".
وقال أيضاً: " فلو كان كل بدعة يميتها الله على يدي، وكل سنة يعيشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي: كان في الله يسيراً".
وفي موضع آخر قال:" والله لولا أن أنعش سنة، أو أسير بحق ما أحببت أن أعيش فواقاً".
لهذا بادر عمر في تنفيذ هذه المسئولية المهمة، فبعث العلماء في تعليم الناس وتفقيههم إلى مختلف أقاليم الدولة وفي حواضرها وبواديها، وأمر عماله على الأقاليم بحث العلماء على نشر العلم، فقد جاء في كتابه الذي بعث إلى عماله:
" ومر أهل العلم والفقه من جندك، فلينشروا ما علمهم الله من ذلك، وليتحدثوا به في مجالسهم".
ومما كتب به إلى بعض عماله:" أما بعد، فأمر أهل العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم، فإن السنة كانت قد أميتت".
كما أمر عماله أن يجروا الرواتب على العلماء، ليتفرغوا لنشر العلم، وانتدب العديد من العلماء لتفقيه الناس في الدين، فبعث يزيد بن أبي مالك الدمشقي والحارث بن يمجد الأشعري يفقهان الناس والبدو، وذكر الذهبي أن عمر ندب يزيد بن أبي مالك، ليفقه بني نمير ويقرئهم، وبعث نافع مولى ابن عمر إلى أهل مصر ليعلمهم السنن، وكان قد بعث عشرة من الفقهاء إلى إفريقية يفقهون أهلها، ولم تنحصر مهمة هؤلاء العلماء في التعليم فحسب، بل منهم من أسند إليه بعض الولايات، ومنهم من تولي القضاء وأسهم أكثرهم بالإضافة إلى نشر العلم في مجال الدعوة والجهاد في سبيل الله، وهذا الاهتمام الذي تميز به منهج عمر لتعليم الناس وتفصيلهم لأمور دينهم: له أبعاد سياسية وآثار أمنية، ذلك أن نشر الوعي الديني الصحيح والفقه فيه بين أفراد الرعية: له أثر في حماية عقول أبناء الأمة من عبث الأفكار التي ينعكس خطرها على الاستقرار السياسي والأمني، كأفكار الخوارج وغيرهم.


أمازيغي مسلم 03-01-2018 03:20 PM

رد: نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز
 
3 ـ الشورى في دولة عمر بن عبد العزيز:
قال تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)، وقال تعالى:(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ
فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ).
وقد اهتم عمر بن عبد العزيز بتفعيل مبدأ الشورى في خلافته، ومن أقواله في الشورى:" إن المشورة والمناظرة باب رحمة ومفتاح بركة لا يضل معهما رأي، ولا يفقد معهما حزم".
وكان أول قرار اتخذه عمر بعدما ولي أمر المدينة للوليد بن عبد الملك، يتعلق بتطبيق مبدأ الشورى، وجعله أساساً في إمارته، حين دعا من فقهاء المدينة وكبار علمائها، وجعل منهم مجلساً استشارياً دائماً ـ كما مر معنا ـ فحري بمن جعل الشورى أحد مبادئ إمارته حين كانت مسئوليته جزئية: أن يطبقه وقت المسئولية الكاملة، والمهمة العظمى، ألا وهي: ولاية أمر المسلمين كافة، وقد تبين مبدأ الشورى من أول يوم في خلافته، وقال للناس:" أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر، من غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم"، فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك فول أمرنا باليمن والبركة، وبذلك خرج عمر من مبدأ توريث الولاية الذي تبناه معظم خلفاء بني أمية إلى مبدأ الشورى والانتخاب، ولم يكتف عمر باختياره ومبايعة الحاضرين، بل يهمه رأي المسلمين في الأمصار الأخرى ومشورتهم، فقال في خطبته الأولى ـ عقب توليه الخلافة ـ:
" .. وإن من حولكم من الأمصار والمدن إن أطاعوا كما أطعتم، وإن هم أبوا فلست لكم بوال"، ثم نزل.
وقد كتب إلى الأمصار الإسلامية، فبايعت كلها، وممن كتب لهم يزيد بن المهلب يطلب إليه البيعة بعد أن أوضح له أنه في الخلافة ليس براغب، فدعا يزيد الناس إلى البيعة فبايعوا.
وبذلك يتضح أنه لم يكتف بمشورة من حوله، بل امتد الأمر إلى جميع أمصار المسلمين، ونستنتج من موقف عمر هذا ما يلي:
أـ أن عمر كشف النقاب عن عدم موافقة الأصول الشرعية في تولي معظم الخلفاء الأمويين.
ب ـ حرص عمر على تطبيق الشورى في أمر يخصه هو، ألا وهو توليه الخلافة.
جـ ـ أن من طبق مبدأ الشورى في أمر مثل تولي الخلافة حري بتطبيقه فيما سواه.
وكان عمر يستشير العلماء، ويطلب نصحهم في كثير من الأمور أمثال سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرطبي، ورجاء بن حيوة وغيرهم، فقال:
" إني قد ابتليت بهذا الأمر فأشيروا عليّ".
كما كان يستشير ذوي العقول الراجحة من الرجال، وقد حرص عمر على إصلاح بطانته لما تولى الخلافة، فقرب إلى مجلسه العلماء وأهل الصلاح، وأقصى عنه أهل المصالح الدنيوية والمنافع الخاصة، ولم يكتف ـ رحمه الله ـ بانتقاء بطانته، بل كان زيادة على ذلك يوصيهم ويحثهم على تقويمه، فقال لعمر بن مهاجر:" إذا رأيتني قد ملت عن الحق، فضع يدك في تلبابي، ثم هزني ثم قل يا عمر ما تصنع؟".
وقد كان لهذا المسلك أثر في تصحيح سياسته التجديدية ونجاحها، حيث كان لبطانته أثر في شد أزره، وسداد رأيه وصواب قراره، فمن أسباب نجاح عمر بن عبد العزيز: تقريبه لأهل العلم والصلاح، وانشراح صدره لهم، ومشاركتهم معه لتحمل المسئولية، فنتج عن ذلك حصول الخير العميم للإسلام والمسلمين.

أمازيغي مسلم 06-01-2018 01:45 PM

رد: نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز
 
4 ـ العدل في دولة عمر بن عبد العزيز:
قال تعالى:((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ))، وأمر الله بفعل كما هو معلوم يقتضي وجوبه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خبِيراً))، وللعدل صورتان:
صورة سلبية بمنع الظلم وإزالته عن المظلوم، أي: بمنع انتهاك حقوق الناس المتعلقة بأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وإزالة آثار التعدي الذي يقع عليهم وإعادة حقوقهم إليهم ومعاقبة المعتدي عليها فيما يستوجب العقوبة.
وصورة إيجابية: وتتعلق أكثر ما تتعلق بالدولة، وقيامها بحق أفراد الشعب في كفالة حرياتهم وحياتهم المعاشية، حتى لا يكون فيهم عاجز متروك، ولا ضعيف مهمل، ولا فقير بائس، ولا خائف مهدد، وهذه الأمور كلها من واجبات الحاكم في الإسلام.

وقد قام أمير المؤمنين عمر بهذا الركن العظيم والمبدأ الخطير على أتم وجه، وكان يرى أن المسئولية والسلطة هي: القيام بحقوق الناس والخضوع لشروط بيعتهم، وتحقيق مصلحتهم المشروعة، فالخليفة أجير عند الأمة، وعليه أن ينفذ مطالبها العادلة حسب شروط البيعة، وقد أحب الاستزادة من فهم صفات الإمام العادل وما يجب أن يقوم به ليتصف بهذه الخصلة الفريدة الحميدة، فكتب إلى الحسن البصري يسأله في ذلك، فأجابه الحسن:
" الإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده يسعى لهم صغاراً، ويعلمهم كباراً، يكتب لهم في حياته ويدخرهم بعد مماته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البّرة الرفيقة بولدها، حملته كرهاً، ووضعته كرهاً، وربته طفلاً، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتمّ بشكايته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين وصيّ اليتامى، وخازن المساكين يربي صغيرهم، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفسادهن والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو: القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويُسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين، فيما ملَّكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدَّد، وشرَّد العيال، فأفقر أهله وفرَّق ماله".

أـ سياسته في رد المظالم:
ـ أمير المؤمنين يبدأ بنفسه:
تنفيذاً لما أراده عمر من رد المظالم مهما كان صغيراً أو كبيراً بدأ بنفسه، روى ابن سعد: أنه لما رد عمر بن عبد العزيز المظالم قال:" إنه لينبغي أن لا أبدأ بأول من نفسي".
وهذا الفعل جعله قدوة للآخرين، فنظر إلى ما في يديه من أرض أو متاع، فخرج منه حتى نظر إلى فص خاتم، فقال:" هذا مما كان الوليد بن عبد الملك أعطانيه مما جاءه من أرض المغرب"، فخرج منه.
وكان ذلك لإصراره على قطع كل شك بيقين، وحتى يطمئن إلى أن ما في يده لا شبهة فيه لظلم أو مظلمة حتى ولو كان ورثه، خصوصاً وأن القصص والحكايات كانت كثيرة يتناقلها الناس عن مظالم ارتكبت على عهد خلفاء بني أمية وعمالهم، وقد بلغ به حرصه على التثبت أنه نزع حلي سيفه من الفضة، وحلاه بالحديد، قال عبد العزيز بن عمر:" كان سيف أبي محلى بفضة، فنزعها وحلاه حديداً".
وكان خروجه مما بيده من أرض أو متاع بعدة طرق كالبيع، ذلك أنه حين استخلف نظر إلى ما كان له من عبد وإلى لباسه وعطره وأشياء من الفضول، فباع كل ما كان به عنه غني، فبلغ ثلاثة وعشرين ألف دينار، فجعله في السبيل، أو عن طريق ردها إلى أصحابها الأصليين، وهذا ما فعله بالنسبة للقطائع التي أقطعه إياها قومه.
وهكذا بدأ عمر بنفسه يضرب المثل ويكون الأسوة أمام رعيته حين رد من أملاكه كل ما شابته شائبة الظلم، أو الشك في خلاص حقه فيه، فرد كل ذلك إلى أصحابه: انطلاقا من تمسكه بالزهد، وإيمانه برد المظالم إلى أصحابها: تقوى الله، ووضعاً للحق في نصابه.
وبعد أن انتهى من رد كل مال شك بأنه ليس له فيه حق: اتجه إلى زوجته فاطمة بنت عبد الملك ـ وكان لها جوهر ـ فقال لها عمر:" من أين صار هذا المال إليك؟"، قالت: أعطانيه أمير المؤمنين، قال: إما أن ترديه إلى بيت المال، وإما أن تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت"، وقد أوضح عمر لها سبب كرهه له بقوله:" قد علمت حال هذا الجوهر وما صنع فيه أبوك، ومن أصابه، فهل لك أن أجعله في تابوت ثم أطبع عليه وأجعله في أقصى بيت مال المسلمين، وأنفق ما دونه، وإن خلصت إليه أنفقته، وإن مت قبل ذلك، فلعمري ليردنه إليك". قالت له: أفعل ما شئت. وفعل ذلك، فمات ـ رحمه الله ـ ولم يصل إليه، فرد ذلك عليها أخوها يزيد بن عبد الملك، فامتنعت من أخذه، وقالت:" ما كنت لأتركه ثم آخذه"، وقسمه يزيد بين نسائه ونساء بنيه.

ـ رد مظالم بني أمية:
وإذا كان عمر قد بدأ بنفسه في رد المظالم، فقد ثنى في ذلك بأهل بيته وبني عمومته وبإخوته من أفراد البيت الأموي، وفور فراغه من دفن بن عمه سليمان بن عبد الملك، فقد رأى ما أذهله وهو أن أبناء عمه من الأمويين أدخلوا الكثير من مظاهر السلطان التي لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو خلفائه الراشدين، فأنفقوا الكثير من المال من أجل الظهور بمظاهر العظمة والأبهة أمام رعيتهم ومن تلك المظاهر المراكب الخلافية التي تتألف من براذين وخيول وبغال، ولكل دابة سائس، ومنها أيضاً: تلك السرادقات والحجرات والفرش والوطاءات التي تعد من أجل الخليفة الجديد، وفوجيء بتلك الثياب الجديدة وقارورات العطر والدهن التي أصبحت له بحجة أن الخليفة الراحل لم يصبها، فهي من حقه بصفته الخليفة الجديد، وهذا كله إسراف وتبذير لا مبرر له يتحمله بيت مال المسلمين، وهو بأمس الحاجة لكل درهم فيه لينفق في وجهه الصحيح الذي بينه الله ورسوله، وهنا أمر مولاه مزاحماً فور تقديم هذه الزينة له ببيعها، وضم ثمنها إلى بيت مال المسلمين.
ولقد كانت لعمر بن عبد العزيز سياسة محددة في رد المظالم من أفراد البيت الأموي تكون لديه خطوطها فور تسلمه زمام الخلافة، حين وفد عليه أفراد البيت الأموي عقب انصرافه من دفن سليمان يسألونه ما عودهم الخلفاء الأمويون من قبله، وحين أراد عبد الملك أن يرد أفراد البيت الأموي عن أبيه كشف له أبوه عن سياسته تلك حين قال له: وما تبلغهم؟، قال: أقول أبي يقرئكم السلام، ويقول لكم: ((قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)).
ثم أوضحها له مرة أخرى حين جاءه يطالبه بالإسراع باستخلاص ما بأيدي الأمويين من مظالم، فقال:" يا بني، إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى ما أريد مكايدتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً تكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون علي من أن يهراق في سببي محجمة من دم ،أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحي فيه سنة حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين؟".
ثم زاد في توضيح سياسته تلك حينما قال له ولده عبد الملك: ما يمنعك أن تمضي الذي تريد؟، فوالذي نفسي بيده ما أبالي لو غلت بك وبي القدور، قال وحق هذا منك، قال: نعم والله. قال عمر:" الحمد لله الذي جعل من ذريتي من يعينني على أمر ديني إني لو باهت الناس بالذي تقول لم آمن أن ينكروها، فإذا أنكروها لم أجد بداً من السيف، ولا خير في خير لا يجيء إلا بالسيف، يا بني، إني أروض الناس رياضة صعبة، فإن بطأ بي عمر أرجو أن ينفذ الله مشيئتي وأن تعدو منيتي فقد علم الله الذي أريده".
وهكذا يتبع عمر أسلوب الحكمة والحسنى في تنفيذ سياسته وتطبيقاً لهذه السياسة، فإنه قد مهد لهذه الخطوة الحاسمة والخطيرة بخطوات تسبقها: خروجه هو أولاً مما بيده من مظالم وردها إلى أصحابها أو بيت المال، ثم أتجه إلى أبناء البيت الأموي، فجمعهم وطلب إليهم أن يخرجوا مما بأيدهم من أموال وإقطاعات أخذوها بغير حق.
وشهدت الأيام الأولى من خلافة عمر تجريداً واسع النطاق لكثير من أموال وأملاك بني أمية، ظلت تنمو في الماضي وتتضخم لكونهم العائلة الحاكمة ليس إلا ..
وها هي الآن ترد إلى بيت مال المسلمين لكي يأخذ العدل مجراه، وتعود أموال المسلمين إلى المسلمين، لا يستأثر بها أحد دون أحد، ولا حزب دون حزب.. أموال وأملاك من شتى الصنوف والأنواع، جمعت بمختلف الطرق وسائر الأساليب جرد عمر بني أمية منها ومزق مستنداتها واحدة واحدة، وردها إلى مكانها الصحيح: مظالم وجوائز وهدايا ومخصصات استثنائية وضياع وقطاع، جمعت كلها على شكل ممتلكات ثابتة ونقود سائلة بلغت في تقدير عمر شطراً كبيراً من أموال الأمة جاوزت النصف، ولا تمضي سوى أيام معدودات حتى يجد بنو أمية أنفسهم مجردين إلا من حقهم الطبيعي المشروع، فيضجون ضد سياسة عمر هذه ويعلنون معارضتهم الصارمة لها، فماذا يكون جواب عمر. أنظروا:
" والله لوددت أن ألا تبقى في الأرض مظلمة إلا ورددتها على شرط ألا أرد مظلمة إلا سقط لها عضو من أعضائي أجد ألمه، ثم يعود كما كان حياً، فإذا لم يبق مظلمة إلا رددتها سألت نفسي عندها".
ولكن بني أمية لم ييأسوا من هذا الحزم والعزم إزاء حقوق الأمة، وهم الذين ما خطر ببالهم يوماً أن يجردوا هذا التجريد، فاجتمعوا وطلبوا من أحد أولاد الوليد وكان كبيرهم ونصيحهم، أن يكتب إلى عمر، فكتب إليه:
" أما بعد فإنك أنسيت ممن كان قبلك من الخلفاء، وسرت بغير سيرتهم، وسميتها المظالم نقصاً لهم لأعمالهم، وشاتماً لمن كان بعدهم من أولادهم ولم يكن ذلك لك، فقطعت ما أمر الله أن يوصل، وعملت بغير الحق في قرابتك، وعمدت إلى أموال قريش ومواريثهم وحقوقهم، فأدخلتهم بيت مالك ظلماً وجوراً وعدواناً، فاتق الله يا ابن عبد العزيز وارجعه، فإنك قد أوشكت لم تطمئن على منبرك إن خصصت ذوي قربتك بالقطيعة والظلم، فوالله الذي خص محمد صلى الله عليه وسلم بما خصه من الكرامة، لقد ازدادت من الله بعداً في ولايتك هذه التي تزعم أنها بلاء عليك، وهي كذلك، فاقتصد في بعض ميلك وتحاشيك".
ويظهر في هذا الكتاب مآخذ الأمويين على سياسة عمر وهي:
ـ ... خالف سيرة من قبله من الخلفاء وأزرى بهم وعاب أعمالهم.
ـ ... أساء إلى أولاد من قبله من الخلفاء.
ـ ... لم يكن عمله منسجماً مع الحق.
ـ ... إن قطيعة أهل بيته يهدد مكانه من الخلافة.
ولا ريب أن سياسة عمر بن عبد العزيز تهدد مكانة الأسرة الأموية وتضعف مراكز قوتها، وقد تؤدي إلى دفعها لاتخاذ مواقف مهددة للخليفة القائم، وفي هذا خطر كبير عليه وعلى الخلافة، وكان رد عمر حمم من نار الحق تتفجر في كل كلمة فيها:
" .. ويلك وويل أبيك!، ما أكثر طلابكما وخصمائكما يوم القيامة ... رويدك فإنه لو طالت بي حياة، ورد الله الحق إلى أهله، تفرغت لك ولأهل بيتك، فأقمت على المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق وراءكم".

أمازيغي مسلم 01-03-2018 09:29 AM

رد: نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز
 
ـ بنو أمية يلجؤون إلى أسلوب الحوار الهادي:
وما أن يئس بنو أمية من صمود عمر إزاء معارضتهم الجماعية الشديدة هذه: لجؤوا إلى أسلوب الحوار الهادي، علهم يصلون عن طريقه إلى ما يشتهون، فيتكلمون معه يوماً مستشيرين فيه نزعة القربى وعاطفة الرحم، فيجيبهم:
" أن يتسع مالي لكم، وأما هذا المال ـ أي المال العام ـ فحقكم فيه كحق أي رجل من المسلمين، والله أني لا أرى أن الأمور لو استحالت حتى يصبح أهل الأرض يرون مثل رأيكم لنزلت بهم بائقة من عذاب الله"، ودخل عليه هشام بن عبد الملك يوماً، فقال:" يا أمير المؤمنين إني رسول قومك إليك، وإن في أنفسهم ما جئت لأعلمك به أنهم يقولون: إستأنف العمل برأيك فيما تحت يدك وخل بين من سبقك وبين ما ولوا بما عليهم ولهم"، وببديهة يجيب عمر:
" أرأيت أن أتيت بسجلين أحدهما من معاوية والآخر من عبد الملك، فبأي السجلين آخذ؟، قال هشام: بالأقدم، فأجاب عمر: فإني وجدت كتاب الله الأقدم، فأنا حامل عليه من أتاني ممن تحت يدي وفيما سبقني".

ـ بنو أمية يرسلون عمة عمر بن عبد العزيز:
فعندما عجز الرجال من بني أمية عن جعل عمر يخاف أو يلين عن سياسته إزاءهم، لجؤوا إلى عمته فاطمة بنت مروان، وكانت عمته هذه لا تحجب عن الخلفاء، ولا يرد لها طلب أو حاجة، وكانوا يكرمونها ويعظمونها، وكذلك كان عمر يفعل معها قبل استخلافه، فلما دخلت عليه عظمها وأكرمها كعادته، وألقى لها وسادة لتجلس عليها، فقالت: إن قرابتك يشكونك ويذكرونك أنك أخذت منهم خير غيرك. قال:" ما منعتهم حقاً أو شيئاً كان لهم، ولا أخذت منهم حقاً أو شيئاً كان لهم"، فقالت: إني رأيتهم يتكلمون، وإني أخاف أن يهيجوا عليك يوماً عصيباً. فقال:" كل يوم أخافه دون يوم القيامة، فلا وقاني الله شره". قال: فدعا بدينار وجنب ومجمرة، فألقى ذلك الدينار بالنار، وجعل ينفح على الدينار إذا احمر تناوله بشيء، فألقاه على الجمر فنشى وقتر، فقال:" أي عمه أما ترثين لابن أخيك من هذا!!؟".
وتؤخذ العمة بهذا المشهد المؤثر، وتلتفت إلى عمر طالبة منه أن يستمر في الكلام، فقال:
" إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة، ولم يبعثه عذاباً إلى الناس كافة، ثم اختار له ما عنده، وترك للناس نهراً شربهم فيه سواء، ثم ولي أبو بكر وترك النهر على حاله، ثم ولي عمر فعمل عملهما، ثم يزل النهر يستقي منه يزيد ومروان وعبد الملك وابنه الوليد وسليمان أبناء عبد الملك حتى أفضى الأمر إلي، وقد يبس النهر الأعظم، فلم يرو أصحابه حتى يعود إلى ما كان عليه"، فقالت: حسبك، قد أردت كلامك، فأما إذا كانت مقالتك هذه، فلا أذكر شيئاً أبداً،فرجعت إليهم، فأخبرتهم كلامه.
وجاء في رواية: إنها قالت لهم:".. أنتم فعلتم هذا بأنفسكم، تزوجتم بأولاد عمر بن الخطاب، فجاء يشبه جده"، فسكتوا.

ـ تلاشي المعارضة الجماعية لبني أمية:
وسرعان ما تلاشت السمة الجماعية لمعارضة بني أمية بعد ما رأوا من جد عمر إزاء أموال الأمة، وقالوا:" ليس بعد هذا شيء".
ومن ثم: أخذ كل منهم يسعى على إنفراد ليسترد ما يستطيع استرداده من الأموال، ولكن عمر الذي وقف تجاه رغباتهم مجتمعين، أحرى به الآن أن يتصدى لكل واحد منهم على انفراد، ويعلمه أنّ حق الأمة لا يمكن أن يكون موضع مساومة في يوم من الأيام.

ب ـ رد الحقوق لأصحابها:
لم يقف عمر عند حد استرداد الأموال من بني أمية وردها إلى بيت المال، بل يخطو خطوة أخرى، ويعلن لأبناء الأمة الإسلامية: أن كل من له حق على أمير أو جماعة من بني أمية أو لحقته منهم مظلمة، فليتقدم بالبينة لكي يرد عليه حقه .. وتقدم عدد من الناس بظلامتهم وبيّناتهم، وراح عمر يردها واحدة بعد الأخرى: أراضٍ ومزارع وأموال وممتلكات، ومرة بعث إليه واليه على البصرة برجل اغتصب أرض،ه فرد عمر هذه الأرض إليه، ثم قال له:
" كم أنفقت في مجيئك إلي؟". قال: يا أمير المؤمنين تسألني عن نفقتي وأنت قد رددت علي أرضي وهي خير من مائة ألف؟، فأجابه عمر:" إنما رددت عليك حقك"، ثم ما لبث أن أمر له بستين درهماً كتعويض له عن نفقات سفره.
وقد قال ابن موسى:" ما زال عمر بن عبد العزيز يردّ المظالم منذ يوم استخلف إلى يوم مات"، وذات يوم قدم عليه نفر من المسلمين، وخاصموا روح بن الوليد بن عبد الملك في حوانيت، قد قامت لهم البينة عليه، فأمر عمر روحاً برد الحوانيت إليهم، ولم يلتفت لسجل الوليد، فقام روح فتوعدهم، فردع رجل منهم وأخبر عمر بذلك، فأمر عمر صاحب حرسه أن يتبع روحاً، فإن لم يرد الحوانيت إلى أصحابها، فليضرب عنقه، فخاف روح على نفسه وردّ إليهم حوانيتهم، وردّ عمر أرضاً كان قوم من الأعراب أحيوها، ثم انتزعها منهم الوليد بن عبد الملك، فأعطاها بعض أهله، فقال عمر:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: .. من أحيا أرضاً ميتة، فهي له".
ولقد أحبّ آل البيت، وأعاد إليهم حقوقهم، وقال مرة لفاطمة بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما:
" يا بنت علي، والله ما على ظهر الأرض أهل بيت أحبّ إليَّ منكم، ولأنتم أحب إليَّ من أهل بيتي".

ج ـ عزله جميع الولاة والحكام الظالمين:
لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة عمد إلى جميع الولاة والحكام المسؤولين الظالمين، فعزلهم عن مناصبهم، ومنهم: خالد بن الريان وصاحب حرس سليمان بن عبد الملك الذي كان يضرب كل عنق أمره سليمان بضربها، وعين محله عمرو بن مهاجر الأنصاري، فقال عمر بن عبد العزيز:" يا خالد ضع هذا السيف عنك، اللهم، إني قد وضعت لك خالد بن الريان اللهم لا ترفعه أبداً"، ثم قال لعمرو بن مهاجر:" والله، إنك لتعلم يا عمرو، إنه ما بيني وبينك قرابة إلا قربة الإسلام، ولكني سمعتك تكثر تلاوة القرآن، ورأيتك تصلي في موضع تظن ألا يراك أحد، فرأيتك حسن الصلاة، خذ هذا السيف قد وليتك حرسي".
وهكذا استمر عمر في عزل الولاة الظلمة، وتعيين الصالحين.

د ـ رفع المظالم عن الموالي:
تعرض الموالي قبل عمر بن عبد العزيز للمظالم، فقد فرضت الجزية على من أسلم منهم، كما منعوا من الهجرة، مثلما حدث للموالي في العراق ومصر وخراسان وفي عهد عبد الملك أوقع الحجّاج بالموالي ظلم عظيم، فقد عمل على إبقاء الجزية على من أسلم منهم، وحرمهم من الهجرة من قراهم، وهذا ما دفعهم للاشتراك في ثورة ابن الأشعث ضد الحجّاج، كما وقع الظلم على الموالي في مصر وخراسان، فلما تولى عمر بن عبد العزيز أزال تلك المظالم التي لحقت بهؤلاء الموالي، وكتب إلى عماله يقول:
" .. فمن أسلم من نصراني أو يهودي أو مجوسي من أهل الجزيرة اليوم، فخالط المسلمين في دارهم، وفارق داره التي كان بها، فإن له للمسلمين وعليه ما عليهم، وعليهم أن يخالطوه، وأن يواسوه غير أرضه وداره، إنما هي من فيء الله على المسلمين عامة، ولو كانوا أسلموا عليها قبل أن يفتح الله للمسلمين كانت لهم، ولكنها فيء الله على المسلمين عامة".
وكتب إلى عامله على مصر حيان بن شريح ـ يقول:
" وأن تضع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة، فإن الله تبارك وتعالى قال: [فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ].(التوبة،: 5)، وقال:[قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ].(التوبة،: 29).

وهكذا أبطل عمر تلك المظالم التي أصابت الموالي، فترتب على ذلك: أن أعاد إليهم حقوقهم المسلوبة والهدوء والطمأنينة إلى نفوسهم، وباتوا ينعمون بالمساواة والعدل مع غيرهم من أبناء الأمة الإسلامية.



أمازيغي مسلم 10-03-2018 10:18 AM

رد: نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز
 
هـ ـ رفع المظالم عن أهل الذمة:
زاد عبد الملك في عهده الجزية على أهل قبرص، وكان معاوية بن أبي سفيان غزا قبرص بنفسه، وصالحهم صلحاً دائماً على سبعة آلاف دينار وعلى النصيحة للمسلمين، وإنذارهم عدوهم من الروم، ولم يزل أهل قبرص على صلح معاوية حتى ولي عبد الملك بن مروان، فزاد عليهم ألف دينار، فجرى ذلك إلى عهد عمر بن عبد العزيز فحطها عنهم، كما أصابت الزيادة فيما يجبى من جزية أهل الذمة في العراق، وقد وضعها عنهم عمر بن عبد العزيز كسياسة عامة التزم بها في أن يرفع المظالم عن أهل الذمة حتى يدعهم ينعمون بحياتهم في ظل الشرائع الإسلامية السمحة، ويؤيد ذلك ما جاء في كتابه إلى عامله على البصرة ـ عدي بن أرطأة:
" أما بعد، فإن الله سبحانه إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن رغب عن الإسلام واختار الكفر عتيا، وخسراناً مبيناً، فضع الجزية على من أطاق حملها، وخل بينهم وبين عمارة الأرض، فإن في ذلك صلاحاً لمعاش المسلمين، وقوة على عدوهم، وانظر من قبلك من أهل الذمة ممن قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه، فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب: كان من الحق عليه أن يقوته حتى يفرق بينهما موت أو عتق، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس، فقال: ما أنصفناك، إن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك، ثم ضيعناك في كبرك. قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه".
كما بلغت سياسة عمر بن عبد العزيز في وضع المظالم عن الناس ومساعدتهم أيضاً حين كتب إلى عامله على الكوفة يقول:
" انظر من كانت عليه جزية، فضعف عن أرضه، فأسلفه ما يقوي به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين".
وقد أمر عمر ولاته بالأخذ بالرحمة والرأفة بالناس، فقد منع تعذيب أهل البصرة وغيرهم لاستخراج الخراج منهم، وعندما أرسل إليه عامله على البصرة عدي بن أرطأة يقول:" إن أناساً قبلنا لا يؤدون ما عليهم من الخراج حتى يمسهم شيء من العذاب"، فكتب إليه عمر:
" أما بعد، فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب البشر: كأني جنة لك من عذاب الله، وكأن رضاي ينجيك من سخط الله، وإذا أتاك كتابي هذا، فمن أعطاك فاقبله عفواً، وإلا فأحلفه، فوالله لأن يلقوا الله بخياناتهم أحب إلى من أن ألقاه بعذابهم، والسلام".

و ـ إقامة العدل لأهل سمرقند:
لما وصل خبر تولية عمر بن عبد العزيز الخلافة إلى سكان ما وراء النهر، اجتمع أهل سمرقند، وقالوا لسليمان بن أبي السرّي:" إن قتيبة غدر بنا، وظلمنا وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف، فآذن لنا، فليفذ منا وفد إلى أمير المؤمنين، يشكو ظلامتنا، فإن كان لنا حق أعطيناه، فإن بنا إلى ذلك حاجة"، فإذن لهم سليمان، فوجهوا منهم قوماً، فقدموا على عمر، فكتب لهم عمر إلى سليمان بن السري:
" إن أهل سمرقند، قد شكوا إليَّ ظلماً أصابهم، وتحاملاً من قتيبة عليهم، أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي، فأجلس لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم، فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة".
فأجلس سليمان:" جُمَيْعَ بن حاضر القاضي"، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء، فيكون صلحاً جديداً أو ظفراً عنوة، فقال أهل الصُّغد:" بل نرضى بما كان ولا نجدِّد حرباً"، وتراضوا بذلك، فقال أهل الرأي:" قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم، وأمنونا وأمنّاهم، فإن حكم لنا عدْنا إلى الحرب، ولا ندري لمن يكون الظفر، وإن لم يكن لنا اجتلبنا عداوة في المنازعة"، فتركوا الأمر على ما كان ورضوا ولم ينازعوا.
أية دولة في القرن الواحد والعشرين تحني رأسها هكذا للعدل كي يأخذ مجراه وللحق كي يعود إلى أصحابه؟ وأي حاكم في تاريخ الشعوب التي لم تعرف الله: استجاب هكذا لنداءات المظلومين الذين سلبت حقوقهم كهذه الاستجابة السريعة الحاسمة من عمر بن عبد العزيز!!؟.
ألا أنه المسؤول الذي نذر نفسه للدفاع عن قيم الحق والعدل في أقطار الأرض، فبدونهما تفقد شريعة الله مقوماتها وأهدافها العليا، فهذا مثل رفيع من عدل عمر، وإننا لنلاحظ في هذا الخبر عدة أمور:
ـ ... أن الناس يقبلون على التظلم والشكوى والمطالبة بالحقوق حينما يكون الحكام عادلين، لأنهم يعلمون أن دعواهم ستؤخذ مأخذ الجد، وسينظر فيها بعدل،فهؤلاء المتظلمون قد سكتوا على ما هم فيه من الشعور بالظلم طيلة ولاية الوليد وسليمان، فلما رأوا عدل عمر بن عبد العزيز رفعوا قضيتهم.
ـ ... أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز لم يهمل قضيتهم، وإنما أحالها إلى القضاء الشرعي، وهذا مثل من الخضوع للإسلام والتجرد من هوى النفس، و قد نذر نفسه لرفع المظالم وإقرار العدالة، وذلك لا يكون إلا بحكم الشرع والتحاكم إليه.
ـ ... أن أولئك القوم قد أسقط في أيديهم لما اطلعوا على كتاب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ورأى أهل الرأي منهم أنهم خاسرون في كلا الحالين، سواء حكم لهم أو عليهم، وأن مصلحتهم في بقائهم على ما هم عليه، وبهذا زال تظلمهم، وشعروا بعدالة الحكم الإسلامي.

أمازيغي مسلم 15-03-2018 11:05 AM

رد: نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز
 
زـ الاكتفاء باليسير من البينات في رد المظالم:
نظراً لمعرفة عمر بن عبد العزيز بغشم الولاة قبله وظلمهم للناس حتى أصبحت المظالم كأنها شيء مألوف!!؟، فإنه لم يكلف المظلوم بتحقيق البينة القاطعة على مظلمته، وإنما يكتفي باليسير من البينة، فإذا عرف وجه مظلمة الرجل: ردها إليه دون أن يكلفه تحقيق البيئة، فقد روى ابن عبد الحكم وقال: قال أبو الزناد:" كان عمر بن عبد العزيز يرد المظالم إلى أهلها بغير البينة القاطعة، وكان يكتفي باليسير، إذ عرف وجه مظلمة الرجل ردها عليه، ولم يكلفه تحقيق البينة، لما يعرف من غشم الولاة قبله على الناس، ولقد أنقذ بيت مال العراق في رد المظالم حتى حُمل إليه من الشام".
فما أحسن ما فعله عمر بن عبد العزيز، وما أحسن التيسير على الناس قدر المستطاع، لأن فيه اختصار للوقت وتوفيراً للجهود.

ح ـ وضع المكس:
لما كان المكس من الظلم والبخس، لأنه جباية أو ضريبة تؤخذ من الناس بغير وجه شرعي، ولما كانت الزكاة على المسلم، والجزية والعشور والخراج على الذمي كافيه عما سواها، فقد نهى عمر عن المكس، وشدد في ذلك ومنعه كما يأتي: عن محمد بن قيس قال:" لما ولي عمر بن عبد العزيز وضع المكس عن كل أرض ووضع الجزيه عن كل مسلم"، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة أن:
" ضع عن الناس ... والمكس ولعمري ما هو بالمكس ولكنه البخس الذي قال الله فيه: ((وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ))، فمن أدى زكاة ماله، فاقبل منه، ومن لم يأت، فالله حسيبه".

خ ـ رد المظالم وإخراج زكاتها:
قرر عمر بن عبد العزيز رد المظالم التي في بيوت المال، وأخذ زكاتها لسنة واحدة، فعن مالك بن أنس عن أيوب السختياني: أن عمر بن عبد العزيز رد مظالم في بيوت الأموال، فرد ما كان في بيت المال، وأمر أن يزكي لما غاب عن أهله من السنين.

هذا هو عمر بن عبد العزيز في دولته التي أقامها على العدل، وكان رحمه الله يعلم ولاته أنه بالعدل تستقيم الحياة بكل شئونها، فلما أرسل إليه بعض عماله يقول: أما بعد، فإن مدينتنا قد خربت، فإن يرى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالاً نرمّها به فعل. فكتب إليه عمر:
" أما بعد، فقد فهمت كتابك، وما ذكرت أن مدينتكم قد خربت، فإذا قرأت كتابي هذا فحصِّنها بالعدل، ونَقِّ طرقها من الظلم، فإنَّه مرمَّتها والسلام". وكتب إلى بعض عماله:" إن قدرت أن تكون في العدل والإحسان والإصلاح كقدر من كان قبلكم في الجور والعدوان والظلم، فافعل ولا حول ولا قوة إلا بالله".
وكتب إلى أبي بكر بن حزم:" أن استبرئ الدواوين، فانظر إلى كل جور جاره من قبلي من حق مسلم أو معاهد فردَّه إليه، فإن كان أهل تلك المظلمة قد ماتوا فادفعه إلى ورثتهم".
وكان رحمه الله يواجه في تنفيذ ما يريده من العدل مصاعب ومشقات ومقاومة وعقبات، فكان ينفق بعض المال في سبيل تهدئة بعض النفوس، لإنفاذ الحق ونشر العدل، ورفع الظلم، دخل عليه ابنه عبد الملك ذات يوم، فقال: يا أبتِ ما يمنعك أن تمضي لما تريد من العدل؟، فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك؟، قال:" يا بني، إنما أروِّض الناس رياضة الصَّعْب، إني لأريد أن أحيي الأمور من العدل، فأوفِّر ذلك حتى أُخرج معه طمعاً من طمع الدنيا، فينفروا لهذا ويسكنوا لهذه".
وقام برصد الجوائز لمن يدل لمن يدل على خير، أو ينبه على خطأ، أو يشير إلى وقوع مظلمة لم يستطع صاحبها إبلاغها، فكتب كتاباً أمر أن يُقرأ على الحجيج في المواسم وفي كل المحافل والمجامع جاء فيه:
" أما بعد، فأيما رجل قدم علينا في رد مظلمة، أو أمر يصلح الله به خاصاً أو عاماً من أمر الدين، فله ما بين مائة دينار إلى ثلاثمائة دينار، بقدر ما يرى من الحسبة، وبعد الشقة، رحم الله أمراً لم يَتَكَاءده بعد سفر، لعل الله يحي به حقاً، أو يمت به باطلاً أو يفتح من ورائه خيراً".
ولاستعذابه حلاوة العدل ورحمته، وتنعم الناس بتفيّؤ ظِلاله كان يقول:
" والله لوددت لو عدلت يوماً واحداً، وأن الله تعالى قبضني".
ومع أنه رأى ثمرات العدل التي قطف منها جميع الناس في خلافته إلا أن نفسه التوّاقة لكل شامخ ورفيع كانت تطمح للمزيد، ولقد عبر عن ذلك بقوله:" لو أقمت فيكم خمسين عاماً: ما استكملت العدل".

وحتى الحيوانات نالهن عدله وإنصافه ورفع الظلم عنه، وإليك هذه المشاهد:
ـ النهي عن نخس الدابة بالحديدة وعن اللجم الثقال:
فقد أكد عمر بن عبد العزيز على الرفق بالحيوان وعدم ظلمه أو تعذيبه قال أبو يوسف: حدثنا عبيد الله بن عمر: أن عمر بن عبد العزيز نهى أن يجعل البريد في طرف السوط حديدة ينخس بها الدابة، ونهى عن اللجم الثقال ، وقد أصدر أوامره بمنع استخدام اللجم الثقيلة مع الخيول والبغال، كما منع استخدام المناخس ذات الرؤوس الحديدة.

ـ في تحديد حمولة البعير بستمائة رطل:
وحين بلغه أن قوماً يحملون على الجمال ما لا تطيق، وذلك في مصر كتب إلى واليها يحدد أقصى حمولة للبعير بستمائة رطل، وطلب منه إبلاغ قراره هذا الناس وأمره بتنفيذه.

كانت تلك بعض الملامح السريعة على إقامة العدل في دولة عمر بن عبد العزيز، إن من أهداف التمكين: إقامة المجتمع الذي تسود فيه قيم العدل ورفع الظلم، ومحاربته بكافة أشكاله وأنواعه، وهذا ما قام به عمر بن عبد العزيز رحمه الله.


أمازيغي مسلم 20-03-2018 01:02 PM

رد: نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز
 

5 ـ المساواة:
قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) (الحجرات: 13).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى".
وقد قام عمر بن عبد العزيز بتطبيق هذا المبدأ في دولته، وكان أول مؤشر على رغبته في تطبيق مبدأ المساواة، حين أقسم أنه يودُّ أن يساوي في المعيشة بين نفسه ولحمته التي هو منها وبين الناس، فقال:
" أم والله لوددت أنه بُدئ بي وبلحمتي التي أنا منها، حتى يستوي عيشنا وعيشكم، أم والله، أم والله لو أردت غير هذا من الكلام، لكان اللسان به منبسطاً ولكنت بأسبابه عارفاً".
كما أن عمر اتخذ مبدأ المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات في كافة مجالات الحياة، فلم يميز بين الناس في حقهم في تولي الوظائف والولايات، ولم يعط أحداً كائناً من كان شيئاً ليس له فيه حق، فقد ساوى بين أمراء وأشراف بني أمية وبين الناس، فمنع عنهم العطايا والأرزاق الخاصة، وقال لهم حين كلموه في ذلك:
" لن يتسع مالي لكم، وأما هذا المال ـ يقصد المال الذي في بيت مال المسلمين ـ فإنما حقكم فيه كحق رجل، بأقصى برك الغماد".
ومن أعماله التي تدل على ترسيخه بمبدأ المساواة بين الناس ما أعلنه عندما رأى أمراء بني أمية قد استحوذوا على قطع واسعة من الأرض وجعلوها حمى، يحرم من الاستفادة منها عامة الناس، فقال:
" إن الحمى يباح للمسلين عامة .. وإنما الإمام فيها كرجل من المسلمين، إنما الغيث ينزله الله لعباده، فهم فيه سواء".
كما ساوى بين من أسلم من أهل الأديان الأخرى من النصارى واليهود وبين المسلمين، وعمل على كسر حاجز التنافر بينهم، فقال:
" ... فمن أسلم من نصراني أو يهودي أو مجوسي من أهل الجزية اليوم، فخالط عمّ المسلمين في دارهم وفارق داره التي كان بها، فإن له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وعليهم أن يخالطوه وأن يواسوه".
ويروي ابن سعد: أن عمر بن عبد العزيز جعل العرب والموالي في الرزق والكسوة والمعونة والعطاء سواء، غير أنه جعل فريضة المولى المعتق خمسة وعشرين ديناراً.
وفي مجال المساواة بين الناس أمام القضاء، وأحكام الإسلام، نكتفي بهذا الدليل الذي كان عمر فيه أحد أطراف النزاع أمام القاضي، وتفصيل ذلك أنه: أتى رجل من أهل مصر عمر بن عبد العزيز، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن عبد العزيز ـ يقصد والد عمر ـ أخذ أرضي ظلماً، قال: وأين أرضك يا عبد الله؟، قال: حلوان، قال عمر: أعرفها ولي شركاء ـ أي شركاء في حلوان ـ وهذا الحاكم بيننا، فمشى عمر إلى الحاكم، فقضى عليه، فقال عمر: قد أنفقنا عليها، قال القاضي: ذلك بما نلتم غلتها، فقد نلتم منها مثل نفقتكم، فقال عمر:" لو حكمت بغير هذا: ما وليت لي أمراً أبداً، وأمر بردها".
وكان عمر يقيم وزناً لمبدأ المساواة بين المسلمين حتى في الأمور العامة، ومن ذلك: أمره بأن لا يخص أناس بدعاء المسلمين والصلاة عليهم، فكتب إلى أمير الجزيرة يقول:
" .. وقد بلغني أن أناساً من القصاص قد أحدثوا صلاة على أمرائهم، عِدل ما يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءك كتابي هذا، فمر القصاص، فليجعلوا صلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وليكن دعاؤهم للمؤمنين والمسلمين عامة، وليدعو ما سوى ذلك".
ومن ذلك يتضح اهتمام عمر بالمساواة بين عامة الناس حتى في الدعاء لهم، ولا يختص أحد بدعاء، فالمسلمون عامة في حاجة دعوة الله عز وجل لهم والله سبحانه وتعالى جدير بالإجابة، وقد طبق مبدأ المساواة بينه وبين عامة الناس، فقد حصل أن شتمه رجل بالمدينة لسبب أو لآخر، فلم يكن ما أمر به سوى ما قد يأمر به كما لو كان المشتوم أحد أفراد الأمة، ذلك ما حدث حين حُكم رجل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بن محمد بن حزم والي عمر على المدينة في صلاته ـ فقطع عليهم الصلاة، وشهر السيف، فكتب أبو بكر إلى عمر، فأتي بكتاب عمر، فقرئ عليهم، فشتم عمر، والكتاب ومن جاء به، فهمَّ أبو بكر بضرب عنقه، ثم راجع عمر وأخبره أنه شتمه، وأنه همَّ بقتله: فكتب إليه عمر:
" لو قتلته لقتلك به، فإنه لا يقتل أحد، بشتم أحد ألا أن يُشتم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فإذا أتاك كتابي فاحبس على المسلمين شره، وادعه إلى التوبة في كل هلال، فإذا تاب فخلِّ سبيله".
ولم يكتف عمر بالأخذ بمبدأ المساواة بنفسه فحسب، بل كان يأمر عماله وولاته بذلك، فقد كتب إلى عامله على المدينة يقول له:
" أخرج للناس فآسي بينهم في المجلس والمنظر، ولا يكن أحد الناس آثر عندك من أحد، ولا تقولن هؤلاء من أهل بيت أمير المؤمنين، فإن أهل بيت أمير المؤمنين وغيرهم عندي اليوم سواء، بل أنا أحرى أن أظن بأهل بيت أمير المؤمنين، فإن أهل بيت أمير المؤمنين وغيرهم عندي اليوم سواء، بل أنا أحرى أن أظن بأهل بيت أمير المؤمنين أنهم يقهرون من نازعهم".

كانت تلك بعض مواقف عمر رضي الله عنه، و فيها دلالة واضحة على أخذهبمبدأ المساواة في دولته.
يتبع إن شاء الله.


الساعة الآن 03:45 PM.

Powered by vBulletin
قوانين المنتدى