منتديات الشروق أونلاين

منتديات الشروق أونلاين (http://montada.echoroukonline.com/index.php)
-   نقاش حر (http://montada.echoroukonline.com/forumdisplay.php?f=20)
-   -   المنطق يقول: "لا يمكن أن يكونوا خونة وشهداء في نفس الوقت؟" (http://montada.echoroukonline.com/showthread.php?t=139777)

أرسطو طاليس 19-02-2010 10:59 PM

المنطق يقول: "لا يمكن أن يكونوا خونة وشهداء في نفس الوقت؟"
 
في يوم الشهيد:

المنطق يقول: "لا يمكن أن يكونوا خونة وشهداء في نفس الوقت؟"


"وهناك أطرح سؤال خطير ومحير: فإذا كان هؤلاء شهداء فلابد أن يحاسب الشخص أو بالأصح تاريخ المسؤولين عن إعدامهم لأن المنطق يقول لا يمكن أن يكونوا خونة وشهداء في نفس الوقت؟" الدكتور رابح بلعيد (1)

بمناسبة "يوم الشهيد" ولأنني ممن لا يحبون المناسبات والترميز من أجل الضحك على الذقون، وللابتعاد عن أسلوب هذا النوع من الاحتفاليات الذي يتسم بمذاق "الدقلة والمشروبات في البلاتوهات...." اخترت الاقتباس الذي سقته في مستهل هذه السطور والذي يقودني مباشرة لما صار يتخذ عند جيلنا تسمية "دوامة التاريخ" (2). فالإشكالية التي اختارها الدكتور المجاهد رابح بلعيد لاختتام تعرضه لمجموعة من "النقاط السوداء" في تاريخ ثورتنا المجيدة تفتح الباب على مصراعيه أمام جانب مظلم خفي ومسكوت عنه، فالثورة التحريرية مثلها مثل أي عملية للتغيير الجذري رافقتها صراعات وأزمات داخلية كادت أن تعصف بها، إلا أن ما يميز من تناولوا هذه الثورة بالكتابة أو البحث وقعوا في أمرين خطيرين: إما تنزيه وتقديس هذه الثورة برمزية مبالغ فيها، أو الإيغال في السوداوية المتطرفة.

كنت أود منذ مدة الاحاطة بأحد هذه الأحداث الهامة في ثورتنا والتي اصطلح على تسميتها بـ: "مؤامرة لعموري" أو "مؤامرة العقداء"، فكانت البداية بتحصيل وجمع المادة التاريخية المتمثلة في الوثائق والشهادات والكتابات التي تناولت هذه الحادثة التاريخية التي كادت أن تعرج بثورتنا التحريرية في اتجاه آخر، كان سيكون له دون شك تأثير على نتائجها، إلا أنني صدمت بشح المصادر التاريخية المتمثلة في الوثائق وشهادات من عايشوا الحادثة عن قرب أو من كانوا طرفا فيها، باستثناء بعض الإشارات السطحية غير المعمقة. وبما أن لا المجال ولا القدرة لا تسعني للخوض في مثل هذه المسائل الشائكة التي تحتاج إلى عقل مؤرخ رصين مسلح بأدوات النقد التاريخي الصلبة سأحاول الإيجاز.


"مؤامرة" العقداء(3):

بعد قرار المجلس الوطني للثورة الجزائرية (بصفته أعلى هيئة في الثورة جاء بها مؤتمر الصومام) إنشاء قيادة موحدة لجيش التحرير الوطني، أنشئت في شهر أفريل من سنة 1958 "لجنة التنظيم العسكري-COM"، هذه القيادة كانت مقسمة إلى فرعين: فرع على الحدود الغربية بقيادة العقيد هواري بومدين وفرع ثان على الحدود الشرقية بقيادة العقيد محمدي السعيد (سي ناصر). في حين نجح الأول في تنظيم الفرع المسند إليه فشل الثاني في فرض مسؤوليته على نوابه، ونتيجة لتأزم الوضع على الحدود الشرقية وخطورة ذلك على الداخل وبالأخص على الولاية الأولى "الأوراس" اجتمعت "لجنة التنسيق والتنفيذ" في 9 سبتمبر 1958 وأقرت عجز قيادة الفرع مع إصدارها عقوبات على قيادة الفرع وكانت أقساها: تنزيل العقيد لعموري إلى رتبة رائد و"نفيه" إلى القاهرة مع منعه من أي نشاط رسمي، كذلك تنزيل العقيد عمارة بوقلاز إلى رتبة جندي و"نفيه" إلى العراق مع منعه من أي نشاط رسمي.... في الحقيقة أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ (كريم بلقاسم، لخضر بن طوبال، فرحات عباس وعمار أوعمران) مهدوا بذلك لـ: "أول انقلاب" على المؤسسات الشرعية للثورة بإعلانهم تأسيس "الحكومة المؤقتة" دون المرور على المجلس الوطني للثورة الجزائرية بصفته أعلى هيئة في الثورة. تم تنصيب فرحات عباس على رأس "الحكومة المؤقتة" وهو الذي كتب سنة 1936 مقاله المشهور "فرنسا هي أنا"، ووصف ثورة أول نوفمبر بأنها "انتحار سياسي" حيث تخلف عن ركبها لمدة سنتين في محاولته إقناع الفرنسيين بعزل الشعب الجزائري عن ثورته عن طريق مجموعة من الإصلاحات. في الحقيقة بتنصيبهم لهذه الحكومة المؤقتة بهذه الصفة كان "الباءات الثلاثة" (بلقاسم كريم، بوالصوف عبد الحفيظ وبن طوبال لخضر) يبسطون سيطرتهم على قيادة الثورة في ظل معارضة أغلب أعضاء المجلس الوطني للثورة. هذه المعارضة لقيت في مواقف العقيدين: محمد لعموري وجموعي سعيدي (مصطفى لكحل) (4) المحذرة من الانحراف عن المبادئ التي تضمنها بيان أول نوفمبر، حيث عاد العقيد لعموري من منفاه في القاهرة ليترأس في 16 نوفمبر 1958 في "الكاف" التونسية حيث مقر قيادة جيش التحرير اجتماعا سريا شارك فيه عدد كبير من إطارات الثورة السياسيين والعسكريين لتصحيح الوضع الذي أفرزته "العملية الانقلابية" التي أتت بالحكومة المؤقتة و"تطهير" المجلس الوطني للثورة من "العناصر الانقلابية". رد فعل "العناصر الانقلابية" كان تأليب السلطات التونسية على قادة "العملية التصحيحية" وحشد دعم "الفارين" من الجيش الفرنسي، وتمت الاستعانة بالجيش التونسي لإلقاء القبض على المجتمعين، لتجرى لهم محاكمة "صورية" بتهمة "محاولة الانقلاب ضد الحكومة المؤقتة" وكانت المحكمة برئاسة العقيد هواري بومدين ومثل الادعاء فيها الرائد علي منجلي في حين مثل الدفاع العقيد سليمان دهيلس (المدعو سي الصادق)، هذه المحكمة التي أصدرت أحكامها على عجالة بإعدام العقداء: لعموري، أحمد نواورة، مصطفى لكحل وعواشرية، حيث تم تنفيذ الحكم رميا بالرصاص في 16 مارس 1959 بحضور والي الكاف والمدعي العام التونسي، في حين أصدرت أحكاما بالسجن المؤبد في حق بقية الضباط في مقدمتهم الرواد: عبد الله بلهوشات، أحمد دراية، محمد الشريف مساعدية ولخضر بلحاج، الذين استفادوا سنة 1960 من "العفو" وتمت عملية إعادة إلحاقهم بالثورة لتنظيم الجبهة الجنوبية. هذا النموذج عن التصفيات التي طالت خيرة إطارات الثورة الجزائرية بهدف الاستحواذ على قيادة الثورة، يعترف به مثلا فرحات عباس ويبرره مثله مثل محمد حربي: "إن محاولة الانقلاب المزعوم كان مدعما من طرف المخابرات المصرية والأمير عبد الكريم الخطابي نفسه.. وكذلك صالح بن يوسف المناهض لبورقيبة"(5). لن أسهب في تحليل دوافع ونتائج عملية "التصفية" هذه، لأنها جاءت في سياق سجل حافل بالخيانات والاغتيالات المسكوت عنها والتي لا يريد المسيطرون على "الرواية الرسمية للتاريخ" إلقاء الضوء عليها لأن وصولهم إلى مقاليد السلطة يعد نتيجة لهذا السياق المخيف.
باستثناء الرئيس الشاذلي بن جديد الذي أعاد الاعتبار لهؤلاء الرجال سنة 1984 حيث تمت استعادة رفاتهم وأقيمت لها مراسم الدفن الرسمية في مربع الشهداء بمقبرة العالية، هذه المصالحة التاريخية التي أراد من خلالها الرئيس الشاذلي بن جديد تصحيح الأخطاء "الفظيعة" التي ارتكبها المتشبعون بروح التسلط والبعيدون كل البعد عن مبادئ أول نوفمبر، حيث أعاد بالإضافة إلى رفات "شهداء المحاولة التصحيحية الفاشلة" رفات الشهيدين العقيدين عميروش وسي الحواس التي تم سجنها بقبو قيادة الدرك الوطني بعد الاستقلال وكأن الذين رضعوا حليب الانقلابات أرادوا فرض سلطتهم عليهما حتى بعد استشهادهما في عملية لا زال يكتنفها الغموض، كذلك رفات العقيد الشهيد محمد شعباني الذي لحق بعد الاستقلال بمصير من سبقه من العقداء..


طينة الرجال:

ضابط جيش التحرير الوطني وقائد اللواء الرابع للجيش الجزائري المشارك في حرب 1967 عبد الرزاق بوحارة، يذكر العقيد جموعي سعيدي المدعو مصطفى لكحل ورفاقه في وصفه لفرارهم من الجيش الفرنسي مع اندلاع الثورة الذي جندوا فيه إجباريا أثناء حرب الهند الصينية: "شكل فرار علي خوجة ورفاقه حدثا بارزا. غادروا ثكناتهم واستطاعوا أن يحملوا معهم 10 مسدسات رشاشة من نوع M.A.T.-49 و6 بنادق تكرارية (Mousquetons) ومجموعة كبيرة من القنابل اليدوية والذخيرة. كان مصطفى لكحل من بين رفاق علي خوجة، وهو رجل مشهور بجسارته. كان مصطفى لكحل الذي اقتنع بمواقف القادة العسكريين للولاية الأولى والقاعدة الشرقية. بعد التحاقه بالحدود الجزائرية التونسية قد حوكم وأعدم في قضية 1958 المؤسفة، وهي القضية التي سميت "مؤامرة العقداء". وحول هؤلاء الرجال بالذات، شكل فوج الفدائيين "علي خوجة" الشهير. أحدث هذا الفوج الذي يوافق عدد أفراده عدد أفراد كتيبة كاملة، ضجة كبيرة وصار مصدر حديث الجميع في الولاية الرابعة. وكان كمين باليسترو أحد أكبر عملياته الناجحة." (6)

لا شك أن هذه السطور المقتطعة من الفقرة المعنونة "استفاقة المجندين والمتطوعين"، هذه الاستفاقة لم تأت بعد "ترقية لاكوست" وإنما جاءت مع انطلاقة الثورة التحريرية مباشرة، حيث توالت عمليات فرار المجندين البسطاء وبعض ضباط الصف فرادى وجماعات وكانت وجهتم الولايات لا "جيش الحدود" كما فعل غيرهم لاحقا، حيث كبدوا الجيش الفرنسي خسائر فادحة نتيجة لخبرتهم وشجاعتهم، وكمين "باليسترو" (الأخضرية حاليا) بتاريخ 18 ماي 1956 خير شاهد على طينة هؤلاء الرجال الذين كان من بينهم "الشهيد" العقيد جموعي سعيدي (مصطفى لكحل) أحد ضحايا المحاولة التصحيحية لأول انقلاب في الثورة الجزائرية.


خاتمة:

أليس حريا بنا أن نعيد قراءة أحداث الثورة التحريرية بعيدا عن أي تزييف أو اختلاق مصلحي، وأن نزيل العتمة عن محطات هامة في عملية تقييم موضوعي للمواقف والتضحيات، حتى لا نقع في مثل التناقض المنطقي الذي ورد في بداية هذه السطور.

فارس ب.
مواطن مهتم بالتاريخ
قسنطينة، مساء 18 فبراير 2010
الهوامش:
(1) الجزء الثاني من حوار الدكتور المجاهد رابح بلعيد لأسبوعية "السفير"، عدد 107 من 17 إلى 23 جوان 2002.
(2) فارس بوحجيلة، دوامة التاريخ: هل جميلة ليست جميلة؟، "الخبر الأسبوعي" عدد554 من7 إلى 13 أكتوبر 2009، ص18.
(3) محمد العربي الزبيري، تاريخ الجزائر المعاصر، ج2، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1999، ص 102-107.
(4) يخطئ أغلب المؤرخين في الاسم الحقيقي للعقيد "سعيدي جموعي" المعروف بـ: مصطفى لكحل.
(5) فرحات عباس، تشريح الثورة، ص72. كذلك: محمد حربي، الثورة الجزائرية: السراب والحقيقة، ص227.
(6) عبد الرزاق بوحارة، منابع التحرير، ترجمة صالح عبد النوري، دار القصبة للنشر، الجزائر 2006، ص 150.

محمد عبد الكريم 20-02-2010 11:36 AM

رد: المنطق يقول: "لا يمكن أن يكونوا خونة وشهداء في نفس الوقت؟"
 
شكرا....جزيلا ،عن الافادة ،
فعلا من الغريب جدا...أن يصنفوا "شهداء"....،وفي نفس الوقت يكونوا قد صفيوا جسديا بتهمة "الخيانة"من طرف رفقاء السلاح... ،(قضية للمناقشة)
- اعادة الاعتبار...اذا كانت فعلا نابعة من ارادة صادقة يجب ان تكون ،بكشف الحقيقة ورفع اللبس اولا..وتظهير الاحداث والتفاصيل في صورة جلية تسمح بمعرفة من كان مع من ومن كان ضد من...ومن تسبب في ماذا؟ومن...دون الحكم لاي واحد او على اي واحد من هؤلاء الرجال "الرفقاء"....الذين استجابوا للنداء،ورفعوا السلاح في وجه الاستعمار الفرنسي ودحروه في النهاية رغم اختلافاتهم وتناقضاتهم ،ونيرانهم الصديقة التي اصابت العديد منهم

- على "فكرة" لاتوجد ثورة "مثالية"....كل الثورات عرفت هذا النوع من المشاكل...بل تسمى الثورة،..ايضا،لهذا السبب

الحجاج الثاني 20-02-2010 12:01 PM

رد: المنطق يقول: "لا يمكن أن يكونوا خونة وشهداء في نفس الوقت؟"
 
...شكرا اخي على الطرح الرائع ....لكن تأكد انه سيتم تخوينك قريبا ..
...وبالنسبة لسؤالك احب ان اجيبك : في منطق الثورة الجزائرية ممكن ان يكون هناك شهيد وخائن في نفس الوقت ..كما انه يوجد مجاهدين ولدوا بين 1950 و 1960 .....بالاضافة الى انه يمكن ان تكون ابن حركي وتترأس منظمة ابناء الشهداء ....دمت بود

أرسطو طاليس 22-02-2010 03:58 PM

رد: المنطق يقول: "لا يمكن أن يكونوا خونة وشهداء في نفس الوقت؟"
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أرسطو طاليس (المشاركة 1009036)
في يوم الشهيد:

المنطق يقول: "لا يمكن أن يكونوا خونة وشهداء في نفس الوقت؟"


"وهناك أطرح سؤال خطير ومحير: فإذا كان هؤلاء شهداء فلابد أن يحاسب الشخص أو بالأصح تاريخ المسؤولين عن إعدامهم لأن المنطق يقول لا يمكن أن يكونوا خونة وشهداء في نفس الوقت؟" الدكتور رابح بلعيد (1)

بمناسبة "يوم الشهيد" ولأنني ممن لا يحبون المناسبات والترميز من أجل الضحك على الذقون، وللابتعاد عن أسلوب هذا النوع من الاحتفاليات الذي يتسم بمذاق "الدقلة والمشروبات في البلاتوهات...." اخترت الاقتباس الذي سقته في مستهل هذه السطور والذي يقودني مباشرة لما صار يتخذ عند جيلنا تسمية "دوامة التاريخ" (2). فالإشكالية التي اختارها الدكتور المجاهد رابح بلعيد لاختتام تعرضه لمجموعة من "النقاط السوداء" في تاريخ ثورتنا المجيدة تفتح الباب على مصراعيه أمام جانب مظلم خفي ومسكوت عنه، فالثورة التحريرية مثلها مثل أي عملية للتغيير الجذري رافقتها صراعات وأزمات داخلية كادت أن تعصف بها، إلا أن ما يميز من تناولوا هذه الثورة بالكتابة أو البحث وقعوا في أمرين خطيرين: إما تنزيه وتقديس هذه الثورة برمزية مبالغ فيها، أو الإيغال في السوداوية المتطرفة.

كنت أود منذ مدة الاحاطة بأحد هذه الأحداث الهامة في ثورتنا والتي اصطلح على تسميتها بـ: "مؤامرة لعموري" أو "مؤامرة العقداء"، فكانت البداية بتحصيل وجمع المادة التاريخية المتمثلة في الوثائق والشهادات والكتابات التي تناولت هذه الحادثة التاريخية التي كادت أن تعرج بثورتنا التحريرية في اتجاه آخر، كان سيكون له دون شك تأثير على نتائجها، إلا أنني صدمت بشح المصادر التاريخية المتمثلة في الوثائق وشهادات من عايشوا الحادثة عن قرب أو من كانوا طرفا فيها، باستثناء بعض الإشارات السطحية غير المعمقة. وبما أن لا المجال ولا القدرة لا تسعني للخوض في مثل هذه المسائل الشائكة التي تحتاج إلى عقل مؤرخ رصين مسلح بأدوات النقد التاريخي الصلبة سأحاول الإيجاز.


"مؤامرة" العقداء(3):

بعد قرار المجلس الوطني للثورة الجزائرية (بصفته أعلى هيئة في الثورة جاء بها مؤتمر الصومام) إنشاء قيادة موحدة لجيش التحرير الوطني، أنشئت في شهر أفريل من سنة 1958 "لجنة التنظيم العسكري-COM"، هذه القيادة كانت مقسمة إلى فرعين: فرع على الحدود الغربية بقيادة العقيد هواري بومدين وفرع ثان على الحدود الشرقية بقيادة العقيد محمدي السعيد (سي ناصر). في حين نجح الأول في تنظيم الفرع المسند إليه فشل الثاني في فرض مسؤوليته على نوابه، ونتيجة لتأزم الوضع على الحدود الشرقية وخطورة ذلك على الداخل وبالأخص على الولاية الأولى "الأوراس" اجتمعت "لجنة التنسيق والتنفيذ" في 9 سبتمبر 1958 وأقرت عجز قيادة الفرع مع إصدارها عقوبات على قيادة الفرع وكانت أقساها: تنزيل العقيد لعموري إلى رتبة رائد و"نفيه" إلى القاهرة مع منعه من أي نشاط رسمي، كذلك تنزيل العقيد عمارة بوقلاز إلى رتبة جندي و"نفيه" إلى العراق مع منعه من أي نشاط رسمي.... في الحقيقة أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ (كريم بلقاسم، لخضر بن طوبال، فرحات عباس وعمار أوعمران) مهدوا بذلك لـ: "أول انقلاب" على المؤسسات الشرعية للثورة بإعلانهم تأسيس "الحكومة المؤقتة" دون المرور على المجلس الوطني للثورة الجزائرية بصفته أعلى هيئة في الثورة. تم تنصيب فرحات عباس على رأس "الحكومة المؤقتة" وهو الذي كتب سنة 1936 مقاله المشهور "فرنسا هي أنا"، ووصف ثورة أول نوفمبر بأنها "انتحار سياسي" حيث تخلف عن ركبها لمدة سنتين في محاولته إقناع الفرنسيين بعزل الشعب الجزائري عن ثورته عن طريق مجموعة من الإصلاحات. في الحقيقة بتنصيبهم لهذه الحكومة المؤقتة بهذه الصفة كان "الباءات الثلاثة" (بلقاسم كريم، بوالصوف عبد الحفيظ وبن طوبال لخضر) يبسطون سيطرتهم على قيادة الثورة في ظل معارضة أغلب أعضاء المجلس الوطني للثورة. هذه المعارضة لقيت في مواقف العقيدين: محمد لعموري وجموعي سعيدي (مصطفى لكحل) (4) المحذرة من الانحراف عن المبادئ التي تضمنها بيان أول نوفمبر، حيث عاد العقيد لعموري من منفاه في القاهرة ليترأس في 16 نوفمبر 1958 في "الكاف" التونسية حيث مقر قيادة جيش التحرير اجتماعا سريا شارك فيه عدد كبير من إطارات الثورة السياسيين والعسكريين لتصحيح الوضع الذي أفرزته "العملية الانقلابية" التي أتت بالحكومة المؤقتة و"تطهير" المجلس الوطني للثورة من "العناصر الانقلابية". رد فعل "العناصر الانقلابية" كان تأليب السلطات التونسية على قادة "العملية التصحيحية" وحشد دعم "الفارين" من الجيش الفرنسي، وتمت الاستعانة بالجيش التونسي لإلقاء القبض على المجتمعين، لتجرى لهم محاكمة "صورية" بتهمة "محاولة الانقلاب ضد الحكومة المؤقتة" وكانت المحكمة برئاسة العقيد هواري بومدين ومثل الادعاء فيها الرائد علي منجلي في حين مثل الدفاع العقيد سليمان دهيلس (المدعو سي الصادق)، هذه المحكمة التي أصدرت أحكامها على عجالة بإعدام العقداء: لعموري، أحمد نواورة، مصطفى لكحل وعواشرية، حيث تم تنفيذ الحكم رميا بالرصاص في 16 مارس 1959 بحضور والي الكاف والمدعي العام التونسي، في حين أصدرت أحكاما بالسجن المؤبد في حق بقية الضباط في مقدمتهم الرواد: عبد الله بلهوشات، أحمد دراية، محمد الشريف مساعدية ولخضر بلحاج، الذين استفادوا سنة 1960 من "العفو" وتمت عملية إعادة إلحاقهم بالثورة لتنظيم الجبهة الجنوبية. هذا النموذج عن التصفيات التي طالت خيرة إطارات الثورة الجزائرية بهدف الاستحواذ على قيادة الثورة، يعترف به مثلا فرحات عباس ويبرره مثله مثل محمد حربي: "إن محاولة الانقلاب المزعوم كان مدعما من طرف المخابرات المصرية والأمير عبد الكريم الخطابي نفسه.. وكذلك صالح بن يوسف المناهض لبورقيبة"(5). لن أسهب في تحليل دوافع ونتائج عملية "التصفية" هذه، لأنها جاءت في سياق سجل حافل بالخيانات والاغتيالات المسكوت عنها والتي لا يريد المسيطرون على "الرواية الرسمية للتاريخ" إلقاء الضوء عليها لأن وصولهم إلى مقاليد السلطة يعد نتيجة لهذا السياق المخيف.
باستثناء الرئيس الشاذلي بن جديد الذي أعاد الاعتبار لهؤلاء الرجال سنة 1984 حيث تمت استعادة رفاتهم وأقيمت لها مراسم الدفن الرسمية في مربع الشهداء بمقبرة العالية، هذه المصالحة التاريخية التي أراد من خلالها الرئيس الشاذلي بن جديد تصحيح الأخطاء "الفظيعة" التي ارتكبها المتشبعون بروح التسلط والبعيدون كل البعد عن مبادئ أول نوفمبر، حيث أعاد بالإضافة إلى رفات "شهداء المحاولة التصحيحية الفاشلة" رفات الشهيدين العقيدين عميروش وسي الحواس التي تم سجنها بقبو قيادة الدرك الوطني بعد الاستقلال وكأن الذين رضعوا حليب الانقلابات أرادوا فرض سلطتهم عليهما حتى بعد استشهادهما في عملية لا زال يكتنفها الغموض، كذلك رفات العقيد الشهيد محمد شعباني الذي لحق بعد الاستقلال بمصير من سبقه من العقداء..


طينة الرجال:

ضابط جيش التحرير الوطني وقائد اللواء الرابع للجيش الجزائري المشارك في حرب 1967 عبد الرزاق بوحارة، يذكر العقيد جموعي سعيدي المدعو مصطفى لكحل ورفاقه في وصفه لفرارهم من الجيش الفرنسي مع اندلاع الثورة الذي جندوا فيه إجباريا أثناء حرب الهند الصينية: "شكل فرار علي خوجة ورفاقه حدثا بارزا. غادروا ثكناتهم واستطاعوا أن يحملوا معهم 10 مسدسات رشاشة من نوع M.A.T.-49 و6 بنادق تكرارية (Mousquetons) ومجموعة كبيرة من القنابل اليدوية والذخيرة. كان مصطفى لكحل من بين رفاق علي خوجة، وهو رجل مشهور بجسارته. كان مصطفى لكحل الذي اقتنع بمواقف القادة العسكريين للولاية الأولى والقاعدة الشرقية. بعد التحاقه بالحدود الجزائرية التونسية قد حوكم وأعدم في قضية 1958 المؤسفة، وهي القضية التي سميت "مؤامرة العقداء". وحول هؤلاء الرجال بالذات، شكل فوج الفدائيين "علي خوجة" الشهير. أحدث هذا الفوج الذي يوافق عدد أفراده عدد أفراد كتيبة كاملة، ضجة كبيرة وصار مصدر حديث الجميع في الولاية الرابعة. وكان كمين باليسترو أحد أكبر عملياته الناجحة." (6)

لا شك أن هذه السطور المقتطعة من الفقرة المعنونة "استفاقة المجندين والمتطوعين"، هذه الاستفاقة لم تأت بعد "ترقية لاكوست" وإنما جاءت مع انطلاقة الثورة التحريرية مباشرة، حيث توالت عمليات فرار المجندين البسطاء وبعض ضباط الصف فرادى وجماعات وكانت وجهتم الولايات لا "جيش الحدود" كما فعل غيرهم لاحقا، حيث كبدوا الجيش الفرنسي خسائر فادحة نتيجة لخبرتهم وشجاعتهم، وكمين "باليسترو" (الأخضرية حاليا) بتاريخ 18 ماي 1956 خير شاهد على طينة هؤلاء الرجال الذين كان من بينهم "الشهيد" العقيد جموعي سعيدي (مصطفى لكحل) أحد ضحايا المحاولة التصحيحية لأول انقلاب في الثورة الجزائرية.


خاتمة:

أليس حريا بنا أن نعيد قراءة أحداث الثورة التحريرية بعيدا عن أي تزييف أو اختلاق مصلحي، وأن نزيل العتمة عن محطات هامة في عملية تقييم موضوعي للمواقف والتضحيات، حتى لا نقع في مثل التناقض المنطقي الذي ورد في بداية هذه السطور.

فارس ب.
مواطن مهتم بالتاريخ
قسنطينة، مساء 18 فبراير 2010
الهوامش:
(1) الجزء الثاني من حوار الدكتور المجاهد رابح بلعيد لأسبوعية "السفير"، عدد 107 من 17 إلى 23 جوان 2002.
(2) فارس بوحجيلة، دوامة التاريخ: هل جميلة ليست جميلة؟، "الخبر الأسبوعي" عدد554 من7 إلى 13 أكتوبر 2009، ص18.
(3) محمد العربي الزبيري، تاريخ الجزائر المعاصر، ج2، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1999، ص 102-107.
(4) يخطئ أغلب المؤرخين في الاسم الحقيقي للعقيد "سعيدي جموعي" المعروف بـ: مصطفى لكحل.
(5) فرحات عباس، تشريح الثورة، ص72. كذلك: محمد حربي، الثورة الجزائرية: السراب والحقيقة، ص227.
(6) عبد الرزاق بوحارة، منابع التحرير، ترجمة صالح عبد النوري، دار القصبة للنشر، الجزائر 2006، ص 150.

يومية الفجر، عدد 2852 يوم الأحد 21 فبراير2010، ص20

http://www.al-fadjr.com/ar/special/presse/142621.html

أرسطو طاليس 22-02-2010 04:04 PM

رد: المنطق يقول: "لا يمكن أن يكونوا خونة وشهداء في نفس الوقت؟"
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد عبد الكريم (المشاركة 1009286)
شكرا....جزيلا ،عن الافادة ،
فعلا من الغريب جدا...أن يصنفوا "شهداء"....،وفي نفس الوقت يكونوا قد صفيوا جسديا بتهمة "الخيانة"من طرف رفقاء السلاح... ،(قضية للمناقشة)
- اعادة الاعتبار...اذا كانت فعلا نابعة من ارادة صادقة يجب ان تكون ،بكشف الحقيقة ورفع اللبس اولا..وتظهير الاحداث والتفاصيل في صورة جلية تسمح بمعرفة من كان مع من ومن كان ضد من...ومن تسبب في ماذا؟ومن...دون الحكم لاي واحد او على اي واحد من هؤلاء الرجال "الرفقاء"....الذين استجابوا للنداء،ورفعوا السلاح في وجه الاستعمار الفرنسي ودحروه في النهاية رغم اختلافاتهم وتناقضاتهم ،ونيرانهم الصديقة التي اصابت العديد منهم

- على "فكرة" لاتوجد ثورة "مثالية"....كل الثورات عرفت هذا النوع من المشاكل...بل تسمى الثورة،..ايضا،لهذا السبب

الأستاذ محمد عبد الكريم المحترم،

بالنسبة لرد الاعتبار فقد تم سنة 1984، والرئيس الشاذلي بن جديد عاد لكشف ما الذي حدث من خلال خرته في نهاية سنة 2008 في مدينة الطارف، ومن خلال رسالته الشهيرة كذلك، والتي تم تفادي التعرض لها في هذا المقال ختى لا يتهم بالخلط بين السياسة والتاريخ.

أرسطو طاليس 22-02-2010 04:25 PM

رد: المنطق يقول: "لا يمكن أن يكونوا خونة وشهداء في نفس الوقت؟"
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الحجاج الثاني (المشاركة 1009307)
...شكرا اخي على الطرح الرائع ....لكن تأكد انه سيتم تخوينك قريبا ..
...وبالنسبة لسؤالك احب ان اجيبك : في منطق الثورة الجزائرية ممكن ان يكون هناك شهيد وخائن في نفس الوقت ..كما انه يوجد مجاهدين ولدوا بين 1950 و 1960 .....بالاضافة الى انه يمكن ان تكون ابن حركي وتترأس منظمة ابناء الشهداء ....دمت بود

..... تأكد بأنه تم اتهام صاحب المقال باهانة ذاكرة الشهداء......

لكن الجبناء والخونة الحقيقيين لا يجرؤون على الكلام


الساعة الآن 03:28 AM.

Powered by vBulletin
قوانين المنتدى