العلم المغشوش.للعلامة محمد الغزالي.الجزء الثاني
17-03-2014, 09:34 PM
العلم المغشوش
الجزء الثاني
للشيخ العلامة :محمد الغزالي


ونتجاوز حكاية فقه الفروع إلى حكاية أخرى أدهى ! كنت أقرر أن أحاديث الآحاد يُعمل بها في الأحكام الشرعية القائمة على العلم الظنِّي أو الظن الراجح ..
فسأل طالب: هل ينبني على الظن عمل ؟ قلت: تدبر قوله تعالى: ﴿فإن طلَّقها فلا تحِلُّ له من بَعْدُ حتَّى تنكح زوجاً غيره فإن طلَّقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله﴾ [البقرة: 230].
إن أحوال الناس ومسالكهم تنبني غالباً على ما يترجح لديهم من أحكام، وأحاديث الآحاد ثبتت في الدماء والأموال، والأعراض على هذا الأساس ...
أما أصول الاعتقاد، وأركان الإيمان فتُستَمدّ من نصٍّ قطعي الدلالة، قطعي الثبوت، وهذا ما عليه جمهور الأئمة ..
قال الطالب -وهو سلفي كما ظهر لي-: حديث الآحاد مصدر للاعتقاد !
قلت -محاولا الاختصار-: ليس في ديننا عقائد تقوم على حديث آحاد ! عقائدنا كلها ثابتة بأدلة قاطعة، ولا داعي للجدال !
قال الطالب: عقيدة القدم ثبتت بحديث آحاد ! فردَّدت كلمة الطالب بضيق شديد، وغاظني منه أن يستأنف كلامه قائلا: وفي رواية أخرى ذُكِرت كلمة رِجْلٍ بدل كلمة قدم.
قلت: تعنون أن نثبت أن لله رِجلا ؟ ونعدّ ذلك من عقائد الإسلام التي نُلزم النَّاس بها ؟ قال: نعم، وذاك رأي سلف الأمة ..!
قلت: ما أجرأكم على الافتراء ! إن سلف الأمة ما تدري شيئاً عن هذه الرِجل، ولا سُمعَ داعٍ إلى الإسلام يكلِّف الناس أن يؤمنوا بها ..
أصل القصة وتفصيلها ذكره القرطبي على نحو واضح سليم .. قال في صحيح مسلم والبخاري والترمذي، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تزال جهنَّم يُلقى فيها وتقول: هل من مزيد ؟ حتى يضع ربُّ العزَّة فيها قَدَمَه فينْزَوِي بعضها إلى بعض وتقول قَطْ قَطْ بعزَّتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله خلقاً فيسكنهم فَضْلَ الجنة" لفظ مسلم.
وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة: "أما النَّار فلا تمتلئ حتى يضع الله عليها رجْله يقول لها قَطْ قَطْ فهنالك تمتلئ وينْزَوِي بعضها إلى بعض فلا يظلم الله من خلقه أحدا، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا" قال علماؤنا رحمهم الله: أما معنى القدم هنا فهم قوم يُقدِّمهم الله إلى النار، وقد سبق في علمه أنهم من أهل النار، وكذلك الرِّجْل وهو العدد الكثير من الناس وغيرهم؛ يقال رأيت رِجْلاً من الناس ورِجلاً من جَرَاد.
قال الشاعر:
فمرَّ بنا رِجْلٌ من الناس وانْزَوَى *** إليهم من الحيِّ اليمانييِنَ أرْجُلُ
قبائلُ من لَخْمٍ وَعُكْلٍ وحِمْيَـرٍ *** على اَبْنَيْ نِزارٍ بالعداوة أَحْفَلُ
ويبين هذا المعنى ما رُوِيَ عن ابن مسعود أنه قال: ما في النَّار بيت ولا سلسلة ولا مِقْمَع ولا تابوت إلا وعليه اسم صاحبه، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه وصفته، فإذا استوفى كل واحد منهم ما أمر به وما ينتظره ولم يبق منهم أحد، قال الخزنة: قَطْ قَطْ حَسبُنا ! أي اكتفينا اكتفينا، وحينئذ تنْزَوِي جهنَّم على من فيها وتنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر. فعبّر عن ذلك الجمع المنتظر بالرِّجْل والقَدَم؛ ويشهد لهذا التأويل قوله في نفس الحديث: "ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة". وقد زاد (القرطبي) هذا المعنى بياناً في كتاب الأسماء والصفات من الكتاب الأسنى والحمد لله. وقال النضر بن شُمَيل في معنى قوله عليه السلام: "حتى يضع الجبَّار فيها قَدَمَه" أي من سبق في علمه أنَّه من أهل النار.
فأين القدم التي يُمشى عليها في هذا السياق المبين ؟ إن العقائد لا تُخترع ولا تُفْتعل على هذا النحو المضحك ! عقيدة رِجْل لله !! ما هذا ؟
قلت: إن أركان الإيمان تؤخذ من نص قطعيِّ الثبوت أي متواتر، قطعي الدلالة أي لا يحتمل معنى آخر ..
وإذا كان الأحناف يرون أن خبر الواحد لا يثبت فريضة في الفروع العملية، لأن الفرض عندهم يثبت بدليل قطعي لا شبهة فيه، فكيف نتصور نحن إثباته لعقيدة يكفر منكرها ؟
ولكن الطالب السلفي قال: إن القرطبي أشعري المذهب وإنه أحد المفسرين الجانحين إلى التأويل، وإنه يشبه الرازي والغزالي، وإنهم جميعاً مبتدعة لا يؤخذ الإسلام منهم ...
وعلمت أن الغلام مملوء بالجهالة، وأنه -مثل غيره من أدعياء السلفية- لا تصلح الأرض معهم ولا بهم ...