مالك بن نبي وشروط النهضة
22-03-2013, 03:41 PM
مالك بن نبي وشروط النهضة..


"إنّ الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة ولكن منطق العمل والحركة ، فهو لا يفكّر ليعمل بل ليقول... "
مالك بن نبي
سمعت عن مالك بن نبي[1] وأنا في مرحلة الثانوي وكان أستاذنا عمر بوستة يحدّثنا عنه بكلّ افتخار، ويقول أنّ مالك بن نبي يحدّد للنهضة ثلاث شروط وهي ( الإنسان والتراب والزمن )، ويقول أستاذنا أيضا أنّ مالك بن نبي من أعظم مفكري الجزائر في العصر الحديث..
وطبعا قرأت الكثير من كتبه فيما بعد عندما انتقلت إلى المعهد التكنولوجي للتربية، وأذكر أنّ أحد الأصدقاء أعطاني كتابه ( شروط النهضة ) فرحت أقرأه في نهم، ولمّا كنت حريصا على القراءة المتواصلة، ولا أبدأ كتابا حتى أنهيه فإنّني كنت أحمل الكتاب معي في محفظتي، وأقرأ فيه حيثما أتيحت لي الفرصة أن أقرأ، وكانت عندنا في أحد الأيّام حصة رسم، ولم أكن موهوبا فيه، ولا تميل نفسي إليه، فأخرجت كتاب (شروط النهضة ) ووضعته على الطاولة لأقرأ منه، لكن شدّتني صورة مالك بن النبي على الغلاف فرأيت أن أحاول رسمها، وفعلت ذلك بعناية فائقة، وصادف أن مرّ أستاذ الرسم ( الأستاذ بوالرّمل) بين الصفوف فرأى ما رسمته فأُعجب به..
وبهذه المناسبة أذكر أنّ الأستاذ بوالرمل شرح لنا ذات يوم الهدف من الفنّ، فقال أنّ الفنّ الحقيقي والأصيل، هو الذي يكون للفنّ أي الفنّ للفنّ، وهي نظريّة غربيّة مشهورة تكاد تُقدِّس الفنّ وتجعل منه إلها يُعبد، وأردت مناقشة الأستاذ بوالرّمل في ذلك لأبيّن له فساد هذه النظريّة وبطلانها وأخذتني فورة الشباب وحماسته، لكنّه لم يعطني فرصةً وحوّل النقاش إلى أمر آخر في المادة، وشعرت بالحرج فسكتُّ، وأنا أعلم يقينا أنّ الأستاذ بوالرمل لا يعني المفهوم الغربي للنظريّة، ولكنّه يقصد التجرّد في فنّ الرسم والتصوير، والإخلاص فيه دون أغراض أخرى ماديّة تضع من قيمته وتذهب برسالته الإبداعيّة، وإن كنت أنا اليوم جدّ متحفظٍ حول فنّ الرّسم، لما ورد في ذلك من أحاديثَ نبويّة تَنهَى عنه، ولا أحبّ التوسّع فيه أو التفرّغ له حتى يكون هو الهدف الأكبر لمن وهبه الله موهبةً فيه احتياطا وابتعادا عن كلّ شبهة قد تمسّ دين المرء ( فاتقوا الشبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه )[2]..
لم تعجبني العناصر الثلاثة التي حدّدها مالك بن نبي للحضارة ( الإنسان والتراب والزمن )، أو بالأحرى أشعر أنّ هذه العناصر ناقصةٌ تحتاج إلى شيء غير التراب ولعلّ مالك بن نبي يقصد بالتراب ضرورة توفّر المكان، لقوله تعالى ( إنّي جاعل في الأرض خليفة )، فجعل خلافة الإنسان في الأرض وهي تراب وخَلْقه من الأرض وهو تراب ونشاطه كلّه نابع من الأرض وهي تراب، ولكن شعوري حينذاك – ولا يزال حتى اليوم – أنّ هناك شيئا ناقصا لست أدريه بعد، وأنا لست ندّا لمالك بن نبي ولا عشرَ معشاره، غير أنّي إنسانٌ أيضا أفكر بعض التفكير وتعجبني أشياء ولا تعجبني أشياء أخرى، كأنّما أرى في تحديد مالك بن نبي لهذه العناصر؛ تحديدا ماديّا صرفا لا يرى من الحضارة إلاّ جانبها المحسوس، ولا تكون بذلك إلاّ حضارة متوحّشة كما هي عليه الآن. ولعلّ مالك بن نبي يتحدّث عن مفهوم الحضارة العام، سواء كانت حضارة راقية أو منحطّة مستنيرة أو تائهة في ظلمات الطّين الصّرفة..
قرأت لمالك بن نبي ( شروط النهضة ) و( مذكرات شاهد القرن و(الظاهرة القرآنية ) و( المسلم في عالم الاقتصاد ) و( الفكرة الإفريقيّة الآسيويّة ) و( بين الرّشاد والتيه ) وربّما كتبا أخرى غابت عن الذاكرة الآن، وهو مفكّر كبير وعظيم بلا شك، إلاّ أنّ فكره يحتاج إلى تبسيط أكثر وإلى تقريبه من الجماهير ليتحوّل إلى أعمال حيّة في واقع النّاس، تسهم في تغيير وضع العالم الإسلامي، والمسارعة به إلى إدراك ركب الحضارة وتبوّئه منها مكانته المستحقة..
وقد حيّرني كتابه ( مذكرات شاهد القرن)، ورأيت فيه لغزا لم أجد له حلاّ مقنعا حتى الآن.. فقد قال مالك بن نبي في مقدّمة الكتاب أنّه كان يصلي في أحد المساجد وإذا بشخص يضع ظرفا فيه أوراق، فلمّا أنهى صلاته فتح الظرف وقرأ ما فيه من أوراق فوجد هذا الكتاب ( مذكرات شاهد القرن ). لا أعرف أنّ مالك بن نبي أديبا يبدع الصور البيانيّة، ولذلك استغربت أن يكتب أنّ أحدا وضع له تلك الأوراق بقربه وهو يصلي ثمّ نجد فيها مذكراته[3]..
لقد قام الدكتور عبد الصبور شاهين جزاه الله خيرا بترجمة كتب مالك بن نبيّ من الفرنسيّة إلى العربيّة، وهو بذلك يكون قد قدّم خدمة عظيمة للعالم الإسلامي عموما وللجزائر بالخصوص، لأنّه عرّف بمفكّر عبقريّ جزائري من خلال بوابة العالم العربي أمّ الدنيا مصر، وربّما لولا ذلك لظلّ مالك بن نبي نكرة من النكرات، لا يكاد يَسمع به أحد مثلما هو الحال مع كثير من عباقرتنا ومبدعينا الذين ما يزالون في ظلمة التجاهل والنسيان، إلاّ أن يرحلوا إلى المشرق أو يكتشفهم مشرقيّ، وتلك سنّة تكاد تكون مطّردة منذ العهد الأندلسيّ.
وأذكر أيضا أنّ الدكتور فضيل بومالة شارك في عدد خاص من أسبوعيّة الشروق الثقافي خصّص للحديث عن شخصيّة مالك بن نبي؛ ذكر في أثناء حديثه عن مالك بن نبي و فكره وكتبه، أنّ الدكتور عبد الصبور شهين لم يترجم كتب مالك بن نبي ترجمة دقيقة، وقال أنّه عاكف على القيّام بترجمة أكثر دقة وأكثر فهما لفكر مالك بن نبي وأنّها ستخرج قريبا للنّاس، ولكن ما يعاب عليه أن يجحد فضل السابقين وأن يقول هذا الكلام بعد أن عرف النّاس كتب مالك بن نبي وفكره؛ من خلال ترجمة الدكتور عبد الصبور شاهين، فيأتي هو بعدُ ويزعم أنّ ترجمته غير دقيقة ويدّعي لنفسه القدرة على القيام بترجمة أكثر دقّة وما رأينا منها شيئا حتى اليوم، ولا ندري أخرجت للنّاس أم زالت أمنيّة مرتقبة.. وقد مضى على ذلك ما يقارب العشرين سنة ؟ !
قرأت لمالك بن نبي وقرأت عن مالك بن نبي الكثير من الدّراسات والمقالات، كما سمعت عنه الكثير فزاد قدره في نفسي وتغلغل حبّه في وجداني، لكن عجبت له كيف لم تتصل بينه وبين جمعيّة العلماء المسلمين حبال الودّ وروابط التعاون، لاسيما أثناء حقبة الاستعمار الفرنسي، وكيف انعزل عن الجمعيّة وناء بنفسه عنها، وهو معدود في علماء المسلمين ودعاتهم.. لا أدري لذلك سببا وجيها ولا حجّة مقنعة[4].
كان لمالك بن نبي نشاط فكريّ ثقافي إسلامي مميّز بعد الاستقلال، وكان عنصرا فاعلا في بناء الأساس الحديث للحركة الإسلاميّة، وكانت له ندوة ثابتة حضرها كثير من أقطاب الحركة الإسلاميّة في السبعينيّات، ولعلّه تحوّل في هذه المرحلة من التنظير إلى التطبيق وأراد أن يجسّد أفكاره في واقع النّاس بدلا من أن تبقى حبيسة الكتب والأسفار، وقد ترك عددا من التلاميذ يسيرون على أثره وينهجون نهجه، ولا تزال كتبه تحتاج إلى من يحوّلها إلى عمل يسعى على قدمين ويقول للنّاس الطريق من هنا..

[1] - ولد مالك بن نبي في 1905 وتوفي في 1973 م.



[2] - رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير


[3] - في حوار لي منذ أيّام مع الصّديق الأستاذ عبد القادر صيد ذكرت له هذا الأمر وحيرتي فيه، فقال أنا أيضا فكّرت فيه من قريب فقط، ورأيت أنّ مالكا بن نبي كتبه على نهج الأدب الفرنسي الذي كانت ثقافته الأولى منه، إذ يعبّر الكاتب عن نفسه بصيغة المخاطب كأنّه شخص آخر، وذلك من أساليب الفرنسيين في الكتابة.



[4] - كتبت هذا الكلام قبل أن أطلع – أو لعلّي اطلعت ونسيت – على كلام مالك بن نبي حول هذا الأمر حيث قال: " كانت نظراتي تتبعه ( يقصد الشيخ عبد الحميد بن باديس ) بعطف وحنان كلما مَرَّ أمام مقهى بن يمينة، فهذا الرجل الأنيق المرفّه ذو المنبت الصنهاجيّ كان يحسن معاملة الناس، لم أكن قد جالسته في حديث، ولكنه كان في نظري لا يمثل الإصلاح، ولم أعترف بخطئي حول هذه النقطة إلا بعد ربع قرن حين تبيّن لي أن السبب يكمن في أحكام اجتماعية مُسبَقة، في تنشئة غير كافية في الروح الإسلامي، وأحكامي المسبقة أورثتنيها طفولتي في عائلة فقيرة زرعت لا شعوريًا في نفسي الغيرة والحسد حيال العائلات الكبيرة ." وهذا كلام جريء ومنصف للغاية من مالك بن نبي رحمه الله.