من عوائقِِ الطلبْ أخذُ العلم عنِ الأصاغر...
22-06-2009, 09:14 PM
الحمد لله و كفى و سلامٌ على عِبادهِ الذين اصطفى و بعد..
قال الشيخ عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم :

و العائقُ الخامس من عوائقِ الطلب
أخذُ العِلمِ عنِ الأصاغر
...

لقد فشت ظاهرة أخذ العلم عن صغار الأسنان بين طلاب العلم في هذا الزمن ، وهذه الظاهرة – في الحقيقة – داءٌ عُضَال ، ومرضٌ مزمن يعيق الطالب عن مُراده ، ويعوج به عن الطريق السليم الموصل إلى العلم ، وذلك لأن أخذ العِلمِ عن صغار الأسنان ، الذين لم ترسخ قدمهم ، ولم تشبّ لحاهم في وجود من هو أكبر منهم سناً ، وأرسخ قدماً ، يضعف أساس المبتدئ ، ويحرمه الإستفادة من خبرة العلماء الكبار ، واكتساب أخلاقهم التي قومها العلم والزمن ... إلي غير ذلك من التعليلات التي يوحي بها أثر ابن مسعود – رضي الله عنه – حيث يقول :( ولا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم ، وعن أمنائهم ، وعلمائهم ، فإذا أخذوه عن صغارهم ، وشرارهم هلكوا ) وثبت الحديث عن أبي أمية الجمحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(( إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر )).
وقد اختلف الناس في تفسير : (( الصغار )) هنا على أقوال ذكرها ابن عبد البر في (( الجامع )) ( 1/157 ) ، والشاطبي في (( الاعتصام )) ( 2/93 )
وقد ذهب ابن قتيبة – رحمه الله تعالى – إلى أن الصغار هم صغار الاسنان ، فقال على أثر ابن مسعود الآنف الذكر : ( يريد لا يزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ ، ولم يكن علماؤهم الأحداث ، لأن الشيخ قد زالت عنه مُتعة الشباب ، وحِدَّته وعجلته ، وسفهه ، واستصحب التجربة والخبرة ، ولا يدخل عليه في علمه الشبهة ، ولا يغلب عليه الهوى ، ولا يميل به الطمع ، ولا يستزله الشيطان استزلال الحدث ، فمع السن : الوقار ، والجلالة ، والهيبة ، والحدث قد تدخل عليه هذه الأمور التي أمنت علي الشيخ ، فإذا دخلت عليه ،وأفتى هلك وأهلك ) . ا هـ. [نصيحة أهل الحديث ، للخطيب البغدادي ، ص 16 .]
وقد روى ابن عبد البر عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال : (( قد علمت متى صلاح الناس ، ومتى فسادهم : إذا جاء الفقه من قبل الصغير استعصى عليه الكبير ، وإذا جاء الفقه من الكبير تابعه الصغير فاهتديا ))
وروى ابن عبد البر – أيضاً – عن أبي الأحوص عن عبد الله قال ( إنكم لن تزالوا بخير ما دام العلم في كباركم ، فإن كان العلم في صغاركم سفه الصغير الكبير )
ففي هذين الأثرين تعليل لعدم الأخذ عن (( الصغير )) آخر غير الذي ذكره ابن قتيبة . وهو : خشية رد العلم إذا جاء من الصغير .
وعلى كلٍّ فإن لفظةَ (( الصغير )) عامة تتناول الصغير حِساً ومعنىً ، وهذا الحكم ليس علي إطلاقه في (( صغير السن ))فقد أفتى ودرس جماعة من الصحابة والتابعين في صغرهم بحضرة الأكابر . إلا أن هؤلاء يندر وجود مثلهم فيمن بعدهم ، فإن وجدوا وعلم صلاحهم ، وسبر علمهم فظهرت رصانته ، ولم يوجد من الكبار أحد يؤخذ عنه العلوم التي معهم ، وأمنت الفتنة ، فليؤخذ عنهم .
وليس المراد أن يهجر علم الحَدَث مع وجود الأكابر كلاَّ ،وإنما المراد إنزالُ الناس منازلهم ، فحقُّ الحدَثِ النابغِ أن ينتفع به في المدارسة والمذاكرة ، والمباحثة ... أما أن يصدر للفتوى ، ويكتب عليه بالأسئلة ، فلا وألف لا ، لأن ذلك قتْلٌ له ، وفتنةٌ ، وتغرير .
قال الفضيل ابن عياض – رحمه الله – ( لو رأيت رجلاً اجتمع الناس حوله لقلت : هذا مجنون ، من الذي اجتمع الناس حوله لا يحب أن يجود كلامه لهم ) .
وقال أيضاً : ( بلغني أن العلماء فيما مضى كانوا إذا تعلموا عملوا ،وإذا عملوا شغلوا ، وإذا شغلوا فقدوا وطلبوا ، فإذا طلبوا هربوا ) [السير ( 8/434 ) ].
فيا أيها الطلاَّبُ إن أردتم العلم من منابعه فهاؤهُمُ العلماء الكبار الذين شابت لحاهم ، ونحلت جسومهم وذبلت قواهم في العلم والتعليم ، الزموهم قبل أن تفقدوهم ، واستخرجوا كنوزهم قبل أن تواري معهم ، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر .
تنبيه : في هذا الزمان اختل معيار كثير من العامة في تقييم العلماء ، فجعلوا كل من وعظ موعظة بليغة ، أو ألقي محاضرات هادفة ، أو خطب الجمعة مرتجلاً ... عالماً يرجع إليه في الإفتاء ويؤخذ العلم عنه ، وهذه رزية مؤلمة ، وظاهرة مرزية ، تطاير شررها وعم ضررها ، إذ هي في إسناد العلم إلى غير أهله فانتظر الساعة .
فليحذر الطالب في أخذ العلم عن هؤلاء ، إلا إذا كانوا من أهل العلم المعروفين ، فما كل من أجاد التعبير كان عالماً ولا كل من حرف وجوه الناس إليه بالوقيعة في ولاة أمور المسلمين ، أو بذكر النسب لوفيات الإيدز ونحوها يكون عالماً .
وليس معنى ما تقدم – كما يفهم البعض – عدم الاستماع إليهم ، أو الإنتفاع بمواعظهم ، كلا إنما المراد عدم أخذ العلم الشرعي عنهم وعدم رفعهم إلي منازل العلماء ، والله الموفق ...
كتبه الشيخ عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم - رحمه الله تعالى - 25 رجب 1412 هـ في رسالته[عوائقُ الطَّلَبْ]...
التعديل الأخير تم بواسطة ابوانس السايح ; 22-06-2009 الساعة 09:41 PM