تحديد الصلة بين المدنية الحديثة والإسلام وبيان أن العلم الحديث قرآني في موضوعه
17-09-2018, 09:48 AM
تحديد الصلة بين المدنية الحديثة والإسلام وبيان أن العلم الحديث قرآني في موضوعه
محمد بن سعيد
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّم.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
ففي معرض الرد على الملحدين مر ذكر بعض المقدمات، وهي مقدمات ونتائج في الوقت عينه، ولا بد من التعريض مع التعريج على صنم العصر الحديث، الذي يعبده الماديون الملحدون، وهو:«الطبيعة»، ولَكِن هذه المدنية الْحَدِيثة التي غرت كثيرًا من الناس حتى جعلتهم يتشككون فِي الأديان؛ بل ويشكون فِي وُجُود الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ بل وصل الأمر بهم إِلَى حد إنكار وُجُوده جَلَّ وَعَلَا؛ هذه المدنية الْحَدِيثة؛ يظن كثير من الخلق: أَنَّهُا غاية عليا ونظام كامل!!؟، وليست كذَلِكَ.
قال الغبراوي رحمه الله:
" قد يسبق إِلَى النفس: أن المدنية الْحَدِيثة غاية عليا ونظام كامل نشأ من عدة عوامل، أحدها: الدين.
ونحن نحاول أن نحدد الصلة بين المدنية القائمة وبين الإسلام، أو بالأحرى: تحديد ما هُنَالِكَ من توافق وتفاوت بين المدنية الواقعة، كما نراها اليوم، ويبصرها الناس ويعرفونها، والمدنية الغائبة كما جاء بها الإسلام، وفي الْحَقّ: أن هذه المدنية الْحَدِيثة بعيدة جدًا عَنْ أن تكون مثلًا أعلى للمدنيات التي تحقق وُجُودها على مر الزمان؛ فإن المدنية الكاملة يجب أن يكون بينها وبين الفطرة من الاتفاق ما يجعلها فِي الواقع جزءًا من الفطرة التي فطر الله عليها الكون.
وآية ذَلِكَ: أن يكون فِيها ما فِي سائر النظم الكونية من الاتساق والانسجام والتوافق والتماسك والاتزان والهدوء، وهذا لا يتحقق لأي مدنية من المدنيات؛ إلا إِذَا قامت على الْحَقّ فِي جميع نواحيها، وكانت نظمها النافذة منطبقة على قوانين الفطرة التي فطر الله عليها الناس؛ أفرادًا وجماعات.
وشيوع الخلل والاضطراب فِي النواحي الاجتماعية من هذه المدنية هو: دليل شيوع الباطل فِي هذه النواحي، ودليل بعد هذه النواحي عَن الفطرة.
وحسن جدًا أَنَّهُ يتكلم عَن المدنية، ولا يتكلم عَنْ الحضارة؛ لأن كثيرًا من الناس يخلط بين الأمرين، مع أن الغرب فرق بينهما، كما فعل:(شْبِنْجِلَرْ)، الَّذِي يقال له:( فيلسوف الحضارة)، فإنه فرق بين المدنية والحضارة.
الحضارة:" مجموعة القيم والمثل التي ترقي الروح، وتأخذ بها إِلَى مدارج الكمال".
وأما المدنية؛ فما يتعلق بالتقدم المادي فِي جوانب الحياة بلون من ألوان التبسيط؛ لَكِن إِذَا كَانَ الباطل قد شاع فِي أكثر نواحي هذه المدنية؛ فإن هُنَاكَ ناحية واحدة قد عَزَّتْ على الباطل أن يكون له فِيها مقام، -يعني فِي هذه المدنية الحاضرة الْحَدِيثة -، ودانت للحق، فهو فِيها الحاكم المطاع، تلك هي الناحية الْعِلْمية التي أثمرت للمدنية هذه القوى المادية التي فتن بها الناس، فظنوا هذه المدنية المعاصرة: أفضل المدنيات حين قدرت على ما لم يقدر عليه المدنيات قبلها؛ من طيران فِي الهواء، وغوص فِي الماء، وتسخير للبخار والكهرباء، وغفلوا عَنْ أن تفاضل المدنيات ليس أساسه:( القوة)، ولَكِن:( إحسانَ استعمال القوة فِي سبيل الْحَقّ).
فهذا ما تتفاضل به المدنيات؛( إحسانَ استعمال القوة فِي سبيل الْحَقّ، في سبيل الله)؛ وإلا انقلبت تلك القوى على المدنية المغترة، فزلزلتها وصيرتها إِلَى ما يصير إِلَيْهِ الباطل من الزوال.
هذه الناحية الْعِلْمية التي عز على الباطل أن يخترقها فِي هذه المدنية المعاصرة؛ هذه الناحية الْعِلْمية هي: فخر هذه المدنية الْحَدِيثة، بها ستذكر فِي المدنيات إِذَا ذكرت المدنيات بأنبل ما فِيها، وأفضله وأصدقه، بعد أن تصبح كما أصبحت المدنيات قبلها أحاديث، ثم هي الناحية الوحيدة التي اتحدت فِيها هذه المدنية الْحَدِيثة بالفطرة، وإذ كَانَ الإسلام دين الفطرة؛ فهي الناحية الوحيدة التي تم فِيها الاتصال بين المدنية الْحَدِيثة وبين الإسلام.
أما أن الإسلام يؤيد الْعِلْم، ويحرص عليه، ويكبر منه؛ فأمر يعرفه كل من له إلمام؛ ولو ببعض الآيات والأحاديث الواردة فِي الْعِلْم، فالذي يقرأ في الحديث الصحيح الذي أخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني، يقرأ مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم:" طلب العلم فريضة على كل مسلم".
ويقرأ قوله صلى الله عليه وسلم:" إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع".أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والترمذي، وصححه الألباني في:(صحيح سنن الترمذي).
والذي يعرف ما فعله الرسول – صلوات الله وسلامه عليه – بعد غزوة بدر، من جعله فداء بعض فقراء الأسرى من المشركين: تعليم عشرة من أولاد المسلمين: الكتابة؛ الذي يعرف ذلك؛ يعرف من غير شك: أن الإسلام هو دين العلم والتعلم، فإذا تلا من كتاب الله مع ذلك مثل قوله تعالى:«قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ»، ومثل قوله تعالى: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْم قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18»)، والآياتِ الكثيرةَ التي جعل الله سبحانه الْعِلْم فِيها حكمًا بين النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ومجادليه؛ كقوله تعالى على لسان نبيه: «ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4»).
إن تدبر الإنسان هذه الآيات الكريمة وأمثالها بعد تلك الأحاديث؛ أدرك أن الْعِلْم على إطلاقه لم يُكْبَرْ فِي دين من الأديان كما أكبر فِي الإسلام، وأن دينًا لم يلزم أهله بالْعِلْم والتعلم كما ألزم الإسلام المسلمين.
هذا التأييد التام للعلم على إطلاقه يشمل - طبعًا - التأييدَ التام للْعِلْم بمعناه الخاص، معناه الطبيعي المستعملِ فِيه اللفظ اليوم؛ لَكِن ليس هُنَاكَ من حاجة إِلَى مثل هذه الحجة على قوتها فِي إثبات أن الْعِلْم بمعناه الْحَدِيث مطلوب، ومأمور به فِي الإسلام؛ فإن الآيات القرآنية الكثيرة الواردة فِي الحض على تطلب آيات الله فِي الكون، وتعرف أسرار الخلق؛ هي فِي الواقع: توجيه للعقل إِلَى مجالات الْعِلْم الَّذِي يسميه الناس اليوم: «الْعِلْم الطبيعي»؛ بل هي أوامر من الله بطلبه؛ لأن آيات الله فِي الكون التي ندبت تلك الآياتُ القرآنيةُ الكريمة إِلَى طلبها: ليست بأكثر ولا أقل من أسرار الفطرة التي هي مطمع الْعِلْم ومرماه.
فأنت إِذَا قرأت مثل قوله جَلَّ وَعَلَا: «وهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْض قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4»)، وقوله تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12»)، وقرأتَ قوله تعالى :«قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْض فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ»، وقوله تعالى: «قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»، إِذَا قرأت هذا وأمثاله فِي القرآن؛ لم تشك فِي أن الْعِلْم الْحَدِيث قرآني فِي موضوعه، يعني: هو يسير على القواعد القرآنية، أراد أم أبى؛ لأن القرآن الْعَظِيم وضع أسس المنهج الْعِلْمي الَّذِي يسير عليه أُولَئِكَ القوم، صادفوه بقدر الله رب العالمين من غير أن يعرفوه، أو عرفوه.
فهذه العلوم الطبيعية إنما تبحث عَنْ أسرار هذه الظواهر الكونية التي نبه إِلَيْهِا، وأمر بالبحث فِيها القرآنُ الكريم، فإذا أنت استقريت الآيات القرآنية الكونية لترى؛ هل ورد فِي بعضها مادة:«العين، واللام، والميم» اللغويةُ؛ وجدت أن هُنَاكَ أكثر من آية وردت فِيها هذه الآية إن لم تكن فِي صيغة المصدر «عِلْم»، ففي صيغة مشتقاته؛ كقوله تعالى فِي سورة الأنعام: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُوم لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97»)، تعالى فِي سورة الروم:«وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22»)، وكذَلِكَ من سورة فاطر:«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعِلْماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28»).
فواضح من السياق أن المراد بالْعِلْماء هنا: هم العالمون بالآيات وأسرار الخلق التي أودعها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيما أشارت إِلَيْهِ هذه الآيات الكونية، هَؤُلَاءِ الْعِلْماء إِذَا كَانَوا مؤمنين؛ حملهم علمهم بأسرار الفطرة على خشية الله فاطر الفطرة؛ لِأَنَّهُم يكونون بعلمهم أبصر بعظمة الله سبحانه، وجلالِه وقدرتِه المتجلية فِي آيات صنعه.
وهذا فِي الواقع هو: الحكمة الكبرى التي من أجلها أمر الله الإنسان فِي كثير من آيات القرآن بالنظر فِيما خلق الله فِي السماوات والأرض من خلق، وهُنَاكَ طبعًا إِلَى هذه الحكمة الكبرى حكم أخرى، هي: ما يتبع طلب هذه العلوم الكونية من منافع مادية، آتية من استخدام حقائق الْعِلْم فِي شؤون الإنسان؛ كالانتفاع – مثلًا – بخواص الكهرباء والبخار والحديد فِي هذه القطارات والسفن التجارية البخارية، وهذه المركبات والمصابيح الكهربائية، والحكم كلها مرادة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حين أمر الإنسان بالنظر فِي ملكوت السماوات والأرض، إلا أن الحكمة الأولى – وهي: حكمة خشية الله التي أشار إِلَيْهِا فِي قوله: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعِلْماءُ» – هذه الحكمة هي: الحكمة الكبرى؛ إذ عبادة الله وخشيته هي: الغاية الأولى والأخيرة من وُجُود الإنسان.
وفي الْحَقّ: أن الإنسان ليأخذه العجب من كثرة ما لقيت هذه الناحية من التوكيد فِي القرآن، ثم من تراخي المسلمين فِي الوقت عينه برغم ذَلِكَ فِي طلب هذا الْعِلْم، ولو للانتفاع به فِي تفسير ذَلِكَ الجزء من القرآن.
إن الآياتِ الواردةَ لِتَلْفِتَ الإنسانَ إِلَى أسرار الفطرة، وتَحُثَّهُ على تفقهها، لا تكاد تقل عَنْ سُبُعِ آيات القرآن، فسبع آيات القرآن فِيما يتعلق بالآيات التي وردت لتلفت الإنسان إِلَى أسرار الفطرة، ولتحث الناس على تفقهها، هذه لا تكاد تقل عَنْ سبع آيات القرآن، ولم تلق ناحية من نواحي المدنية مثل هذا التوكيد فِي الإسلام؛ إلا ناحية الأخذ بالعدل والإحسان فِي المعاملة.
فكأن المدنية فِي الإسلام شطران: شطر يقوم على الْعِلْم، وشطر يقوم على العدل، ومن وراء ذَلِكَ كله: مخافة الله ومحبته.
لا غنى لأهل المدنية عَنْ هذين إن أرادوا لها البقاء.
وعلى كل حال؛ فإن حث الإنسان فِي نحو سبع القرآن على دراسة الفطرة أريد به على الأخص:" حثه على عبادة الله عَنْ طريق تلك الدراسة، وعن طريق شكره سبحانه على ما ستثمر تلك الدراسات عَنْه من ثمرات"، وهذا لا يقلل شيئًا من شأن الْعِلْم فِي الإسلام؛ بل يزيده، ثم هو أبلغ فِي الدلالة على أن الْعِلْم فِي الإسلام جزء من الدين، على أن أمر التوافق بين الْعِلْم والإسلام قد جاوز الإجمال إِلَى التفصيل، جاوز قرآنية الموضوع والاسم إِلَى قرآنية الروح والطريقة، فروح الْعِلْم وطريقته منطبقة تمامًا على ما جاء به القرآن؛ فإن روح الْعِلْم التي هي فِي صميمها:" التجرد للحق، والصدق فِيه، والاستمساك به، والتعاون عليه"؛ هي من روح الإسلام من غير شيء؛ إذ الإسلام كله ليس إلا أمرًا بالحق، وتجردًا له، وجهادًا من أجله.
وما لقيه الْحَقّ من الإكبار فِي الْعِلْم لا يزيد شيئًا عما لقيه الْحَقّ من الإكبار فِي القرآن، وإذا كَانَ هُنَاكَ فرق بين الاثنين؛ فهو لا يتعلق بذاتهما؛ ولَكِن بامتداد سلطانهما، فروح الْعِلْم مقصورة طبعًا على الميادين التجريبية التي قصر الْعِلْم عليها نفسه؛ لَكِن روح الإسلام تشمل بسلطانها كل ميادين حياة الإنسان، الْعِلْميَّ منها والاجتماعي، ما يمكن إخضاعه للتجارب الْعِلْمية منها، وما لا يمكن، إذًا؛ الْعِلْم قرآني بطريقته، العلم قرآني بطبعه.
أما أن طريقة الْعِلْم فِي طلب أسرار الفطرة هي: نفس الطريقة التي أمر بها القرآن؛ فيتبين من الآتي:
أن الْعِلْم لا يَقُول عَنْ شيء أَنَّهُ حق؛ إلا إِذَا قام عليه البرهان اليقيني القاطع،
فهذا من قوانين الْعِلْم المادي؛ أنه لا يَقُول عَنْ شيء أَنَّهُ حق؛ إلا إِذَا قام عليه البرهان اليقيني القاطع.
القرآن الكريم يأمر كذَلِكَ بألا يقبل الإنسان شيئًا على أَنَّهُ حق إلا إِذَا قام عليه البرهان، يتمثل ذَلِكَ فِي مثل قوله تعالى:«وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111»).
«سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عَنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148»).
والْعِلْم المقصود هنا هو: الْعِلْم اليقيني الثابت بالحجة القاطعة؛ بدليل عيبه عليهم إنزالهم الظن والتخمين منزلة الحجة واليقين فِي قوله:«إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ».
فكما ترى: هذا القانون، هذه الركيزة، هذا الأساس من قوانين، من ركائز، من أسس الْعِلْم الَّذِي يبحث فِي الفطرة، يبحث في أسرار المادة هو قرآني بطبعه؛ أَنَّهُ لا يقبل شيئًا على أَنَّهُ حق إلا إِذَا قام عليه البرهان اليقيني القاطع، فهذا دل عليه القرآن؛ بل أمر به، وهو بعينه ما يرتكز عليه الْعِلْم أول ما يرتكز عَنْد بحثه عَنْ أسرار الفطرة.
* ومما يتبين به أن طريقة الْعِلْم فِي طلب أسرار الفطرة هي: طريقة القرآن المجيد:
أن الْعِلْم يحاذر كل المحاذرة: أن يجعل يقينًا ما ليس بيقيني، وأن ينزل الظن منزلة اليقين، أو أن ينزل الفرض والتخمين منزلة الظن والترجيح، فهو يقيس مقدار اقتراب القضية من الْحَقّ بمقدار مكانة الحجة التي تشهد له، فإذا كَانَت الحجة قاطعة؛ فالقضية حق، وإذا كَانَت غير قاطعة؛ فالقضية ظن، ويسميها الْعِلْم فِي هذه الحال «نظريةً» إِذَا كَانَت أرجحيتها كبيرة؛ إذ الواضح أن هُنَاكَ فِي الرجحان مراتب، بعضها أرقى من بعض.
أما إِذَا تساوى ما يشهد للقضية وما يشهد عليها؛ فتلك هي القضية المجهولة التي وقعت موقعًا وسطًا بين الْحَقّ والباطل؛ لا يدرى إِلَى أيهما هي أقرب!!؟.
وأمثال هذه القضية وما قبلها من القضايا الواقعة فِي منطقة الرجحان؛ قل حظها منه أو كثر، هي: موضع النظر الْعِلْمي والبحث، لا يزال الْعِلْم يبحث عَنْها ويمحصها، حتى ينتهي فِيها إِلَى حكم بادية، وحكم قاض قاطع، فيلحقها؛ إما بالحق اليقيني، وإما بالباطل اليقيني.
هذا التفريق من الْعِلْم فِي المنزلة بين ما هو حق وما هو دون الراجح؛ يتفق تمامًا مع روح القرآن الكريم فِي النظر، ومع طريقته المتجلية فِي آياته كلها؛ خصوصًا تلك الآيات التي من قبيل ما ذكر قبل، وكقوله تعالى فِي سورة النجم:«أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذَا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23»)، وكقوله تعالى فِي سورة الجاثية: «وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلَكِنا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24»)، وكقوله تعالى: «وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36»).
فهذا التفريق القرآني هو: ما وصل إِلَيْهِ الباحثون فِي أسرار المادة، الَّذِينَ يتعاملون مع الفطرة.
الفطرة هاهنا يراد بها:" ما خلقه الله رب العالمين فِي هذا الكون من المادة بأسرارها وذخائرها".
فكما ترى؛ الأدلة قاطعة على أن الْعِلْم قرآني بطبيعته، على أن البحث العلمي، وأن المنهج العلمي المنضبط هو: قرآني بطبيعته، قرآني بطريقته.
* ومما يتبين به أن طريقة الْعِلْم فِي طلب أسرار الفطرة هي: طريقة القرآن، وهو ملتحق بالأصلين السابقين:
أن الْعِلْم يمنع التقليد فِي النظر من غير وقوف على الدليل واقتناع به. والْعِلْم الْحَدِيث يخالف الْعِلْم القديم فِي هذا؛ لأن الْعِلْماء قديمًا – خصوصًا فِي القرون الوسطى – كَانَوا كثيرًا ما يقنعون فِي الاستدلال على الصحة أو البطلان بإثبات أن القضية توافق أو تخالف رأي فلان أو رأي علان من المشاهير، فكان ما يثبت عَنْ أَرِسْطُو – مثلًا - يتخذ حجة قاطعة فِي موضعه من غير أن ينظر فِي رأي أَرِسْطُو هذا فِي ذاته، ومن غير أن يسأل: ما هو دليله!!؟.
هذا كَانَ عليه الْعِلْم القديم، وكان هذا منبع شر كبير، ولعله كَانَ سَبَبَا كثير من الشبه الكلامية التي قامت بين علماء المسلمين بعد أن ترجمت كتب اليونان فِي العصر العباسي، فِيما يتعلق بالعلاقة بين الشريعة، وبين ما كَانَوا يسمونه: «الحكمة»، يريدون بالحكمة غالبًا:" ما أخذوه عَنْ حكماء اليونان؛ مثلَ: أَفْلَاطُونْ وَأَرِسْطُو وأَضْرَابِهِمَا"، حتى جاء أمثال الغزالي من المسلمين عَنْد البحث فِي أمثال هذه الأمور، فأرجعوا الأمر إِلَى نصابه، وحملوا على الفلسفة، وسفهوا كثيرًا من الْفَلَاسِفَة فِي أقوالهم ومذاهبهم.
الْعِلْم فِي منعه التقليدَ الأعمى يتفق تمام الاتفاق مع القرآن الكريم الَّذِي شدد النكير على أناس كَانوا يستمسكون بالرأي، لا: لِأَنَّهُم عقلوه وفهموه؛ ولَكِن لأن آباءهم فعلوه!!؟.
ترى ذَلِكَ فِي مثل قوله تعالى:«وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالَوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170»).
«وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قَالَوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104»)، إِلَى غير ذَلِكَ من الآيات التي سفهت أحلام هَؤُلَاءِ وطريقتَهم؛ لِأَنَّهُم كَانوا فِيها مقلدين هذا التقليد الأعمى، من غير ما نظر فِي دليل قَالَه قائل، أو رأيٍ ارْتَآَهُ إنسان.
فالتقليد الأعمى، أي: الأخذ بالرأي من غير دليل أو رغم الدليل، فيأخذ بالرأي؛ ولو قام الدليل على ضده!!؟، هذا كله هو التقليد الأعمى، يتابع زيدًا أو بكرًا من الناس؛ هذا محرم على أهل النظر فِي حكم الْعِلْم وفي حكم القرآن.
فالمنهج العلمي يرد هذا التقليد، وهذا هو المنهج القرآني الَّذِي أسسته الآيات، وعمل عليه الْعلماء رحمهم الله تعالى فِي صدر هذه الأمة.
يتبع إن شاء الله.