رد: ــ هـل تَـجـوز كـتـابـة المـصـحـف بـغـيـر الخـطّ العُـثـمـانـي ؟
16-08-2018, 01:25 PM
عودةٌ إلى تدوين القرآن وترتيبه في العهد النبوي
نعود إلى ما كنَّا فيه من الكلام عن التدوين الكتابي للقرآن الكريم وترتيبه في العهد النبوي، وبحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، حيثُ خلط أكثرُ المستشرقين في هذا الموضع خلطًا عجيبًا جدًا، وكان على رأس هؤلاء المستشرقين:( جولدزيهر ونولدكه وجون جلكرايست وموراني وغيرهم) ممن لم يتمكن مِن دراسة الإسلام مِن منابعه الأصلية، أو بطرقِه الصحيحة،
حتى وصل الحال بنولدكه أن يزعم: أن القرآن قد وصلنا ناقصًا!!؟، بينما ذهب جولدزيهر وجلكرايست إلى أن القرآن قد جُمِع من الصحف والأكتاف ومن صدور الرجال، فاحتملا هنا دخول الخلل، وضياع بعض القرآن!!؟، ومن هنا: جاء نولدكه وموراني ليزعما ضرورة الدراسة المقارنة لنسخ المصحف بغرض تحقيق القرآن، للوقوف على الزيادة والنقص واختلاف الترتيب بين هذه النسخ!!؟.
وذهب بعض الباحثين الغربيين إلى أن القرآن قد وقع فيه التحريف؛ لأنه قد كُتِبَ من الصحف والأكتاف وغيرها من أدوات الكتابة، ولم يُكْتب ـ كما زعم ـ بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، حكى ذلك عنهم: جون جلكرايست في كتابه:(جمع القرآن) وردَّه وأَكَّد على أن القرآن لم يقع فيه أي تحريف، ولكنه في نظره لم يصل كاملاً!!؟، وعلل ذلك بعللٍ شتى، كان منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك القرآن مجموعًا، وأن جمع القرآن قد خضع لضوابط صارمة ورغبة صادقة قام بها الصحابة رضي الله عنهم، ولكن فاتهم الكثير من القرآن حسب زعمه، فلم يُدَوِّنُوه!!؟.
ويلاحظ هنا: وحدة الأفكار مع اختلاف الأشخاص والأزمنة، واختلاف عباراتهم في التعبير عن نفس الأفكار: لا يعني اختلاف الفكرة أو تغيُّرها.
وهذا كله يؤكد ما سبق لموراني: أن ردده حين قال في كلامه عن إدوارد سعيد:" غير أنه قال كلمة حق، ولم يرد بها إلا الحق عندما زعم أنّ موقف المستشرقين لم يتغير في جوهره عن موقف أسلافهم , يعني بذلك في الدرجة الأولى: موقف المستشرقين من النبي ومن القرآن، إلاّ أنه أخطأ عندما زعم أن منهجية الأبحاث لم تتغير، إنه كان عاجزا من أن يرى أن المنهجية والاقتراب من العلوم الإسلامية قد تغيّر كما تغيرت الأوضاع بظهور المصادر الجديدة التي لم يتناولها الأسلاف بسبب عدم وجودها في بداية القرن 20 م مثلا.
أما الموقف المبدئي من القرآن، فهو لم يتغير".[مستند رقم (5) السابق في المستندات].
وعلى كل حالٍ، فقد سبق رد هذه التخليطات في المداخلات السابقة، كما سبق إثبات: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دوَّنَ القرآن فور نزوله، وأمر بكتابته غضًّا طريًّا بمجرد نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن الكاتب موجودًا بعث في طلبِه، وأمرَهُ بإحضار أدوات الكتابة، ثم أَمْلَى عليه الوحي، فكتبه في الصحف والأكتاف، بجوار حفظه في الصدور.
ونتابع مسيرتنا في نفس الموضوع، فنزيده أدلةً وأطروحات جديدةً، مؤَكِّدَةً لما سبق تقريره في:" كتابة النبي صلى الله عليه وسلم للوحي فور نزوله، وأنه لم يَمُتْ صلى الله عليه وسلم إلا والقرآن محفوظ في الصدور، مكتوب في الألواح والأكتاف وغيرها من أدوات الكتابة".
مع الإشارة للاقتصار في ذلك كله على الثابت من الأدلة، وكذا الإيجاز في ذلك جدًّا، بعدَ ضمان السلامة مِن بَتْر المعاني والموضوعات، وذلك تأكيدًا على أمرين:
الأول: وصول القرآن الكريم كاملاً، عن طريق الكتابة، وبدء تدوينه وكتابته فور نزول الوحي، ثم تكرر عملية نسخ هذا المكتوب على مَرِّ الأجيال دون زيادة أو نقصان.
وفي كثرة النُّسَّاخ وتطاول الزمان مع ثبات المنسوخ: أكبر الدلالة على تحقُّقِ وعْدِ الله عز وجل بحفظ القرآن الكريم.
الثاني: التأكيد على ما سبق بيانه من أن الاعتماد في نقل القرآن على السماع والحفظ لا على الكتابة والمصاحف.
والضبط على قسمين:
ضبط صدرٍ، وهو: الحفظ، وضبط كتابة، وهو: التدوين الكتابي للعلوم.
وكلا الضبطين معتمدٌ ومعمولٌ به، بيدَ أن أعلى الحالات: ما اجتمع فيه الضبطان معًا، وتوازيا على حفظِ المنقول، وهذا عينه ما تحقق في القرآن الكريم.
فقد كان ولا زال الاعتماد فيه على الحفظ والسماع، لا على الكتابة والمصاحف، ومع هذا فقد كان ولا زال مكتوبًا محفوظًا مضبوطًا كتابةً ورسمًا في الصُّحُفِ.
والخلاصة عند البخاري:
وخلاصةُ ذلك كله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دَوَّنَ القرآن بأمرِه وحضرتِه، فأَمَرَ صلى الله عليه وسلم بكتابةِ القرآن في حياته، وتحت سمعه وبصره، فور نزول الوحي مباشرةً، ولم يَمُتْ صلى الله عليه وسلم حتى كان القرآن محفوظًا في الصدور، مكتوبًا في الألواح والأكتاف ونحوهما من أدوات الكتابة.
وقد لَخَّصَ لنا البخاري العظيم هذه القضية بقوله رحمة الله عليه: (بَاب مَنْ قَالَ لَمْ يَتْرُك النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ).
ثم أوردَ البخاري رحمه الله (5019): حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَشَدَّادُ بْنُ مَعْقِلٍ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقَالَ لَهُ شَدَّادُ بْنُ مَعْقِلٍ: أَتَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَيْءٍ؟. قَالَ: مَا تَرَكَ إِلَّا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، قَالَ: وَدَخَلْنَا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، فَسَأَلْنَاهُ؟، فَقَالَ: مَا تَرَكَ إِلَّا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ.
وفي رواية الإمام أحمد رحمه الله في هذا الحديث (1912): حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَشَدَّادُ بْنُ مَعْقِلٍ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَا بَيْنَ هَذَيْنِ اللَّوْحَيْنِ، وَدَخَلْنَا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ.
والحديث رواه البيهقي في كتابه:(شُعَبِ الإيمان:172) من وجهٍ آخر عن سفيان بن عيينة عن عبد العزيز بن رفيع قال: دخلت مع شداد بن معقل على ابن عباس، فسألناه: هل ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئًا سوى القرآن؟، قال: ما ترك سوى ما بين هذين اللوحين، ودخلنا على محمد بن الحنفية، فسألناه؟، فقال مثل ذلك.
وهذا الحديث يُلَخِّص لنا المعاني السابقة في روايات الباب وأحاديثه، ثم هو غنيٌّ بظهور لفظه، وجلاء معناه؛ عن كثيرٍ مِنْ تَجَشُّمِ شَرْحِه، وتَتَبُّعِ مفرداته.
وسواءٌ كان مراد السائل عن أمر الخلافة كما ذكَرَهُ بعضُ الشُّرَّاح، أو عن غيره من الأمور؛ فإنَّ مما لا خلاف عليه أنه صلى الله عليه وسلم:" لم يترك سوى ما بين اللوحين"، أو:" ما بين الدفّتين".
دلالةُ التَّرْتِيب
وهو حديثٌ ثابتٌ رواه ابن أبي شيبة والترمذي وابن حبان والحاكم وغيرهم.
وهو عند:( الترمذي:3954) من وجهٍ آخر عَنْ يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنْ الرِّقَاعِ... الحديث؛ بنحوه.
يقول البيهقي في كتابه:(شُعَبِ الإيمان:171):" وَإِنَّما أَرَادَ والله تعالى أعلم تَأْلِيف ما نزلَ مِن الآياتِ المتفرِّقَةِ في سُورَتِهَا وَجَمْعها فيها بإشارةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم".
وإطلاق التأليف على الترتيب معروفٌ في لغة العرب، ومن ذلك: ما في (لسان العرب، لابن منظور:3/496):" قال أَبو عبيد تأْويل الأَوراد أَنهم كانوا أَحْدثوا أَنْ جعلوا القرآن أَجزاء كل جزء منها فيه سُوَر مختلفة من القرآن على غير التأْليف جعلوا السورة الطويلة مع أُخرى دونها في الطول" إلى آخره.
فقوله:"على غير التأليف"، يعني به: على غير الترتيب.
وقد استخدم العلماء التأليف بمعنى الترتيب في كلامهم وعباراتهم أيضًا، ومن ذلك:
قول الإمام مسلم رحمة الله عليه في مقدمة:(صحيحه) أثناء كلامه عن منهجه في الصحيح وترتيب أحاديث كتابه:
" فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَإِنَّا نَتَوخَّى أَنْ نُقَدِّمَ الْأَخْبَارَ الَّتِي هِيَ أَسْلَمُ مِنْ الْعُيُوبِ مِنْ غَيْرِهَا...... فَإِذَا نَحْنُ تَقَصَّيْنَا أَخْبَارَ هَذَا الصِّنْفِ مِنْ النَّاسِ أَتْبَعْنَاهَا أَخْبَارًا يَقَعُ فِي أَسَانِيدِهَا بَعْضُ مَنْ لَيْسَ بِالْمَوْصُوفِ بِالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ كَالصِّنْفِ الْمُقَدَّمِ قَبْلَهُمْ ....... فَعَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ نُؤَلِّفُ مَا سَأَلْتَ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، يعني: يُرَتِّب الأخبار في كتابه.
إِلَهِيَّة الترتيبِ القرآني:
ويُستفاد من الحديث السابق:
أن الترتيب القرآني الكريم ليس اجتهاديًّا، بل هو توقيفي، صنعه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، بناءً على الوحي، ولم يتركه لاجتهاد المسلمين.
وقد حكى ابن تيمية وكذا الزركشي في:(البرهان) والسيوطي في:(الإتقان) وغيرهم؛ حكوا الإجماع على أن ترتيب الآيات توقيفي، وليس اجتهاديًّا.
واختلفوا في ترتيب السور، والذي رجحه ابن الأنباري وغيره: أنه توقيفي أيضًا، وهو: الراجح المؤيَّد بالأدلة الكثيرة.
وقد عقَدَ ابنُ كثيرٍ في كتابه:(فضائل القرآن:81) فصلاً في تأليف القرآن؛ يعني ترتيبه، وقال فيه:
" فأما ترتيب الآيات في السور، فليس في ذلك رخصة، بل هو أمر توقيفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقال ابن كثيرٍ أيضًا:" وقد حكى القرطبي عن أبي بكر بن الأنباري في كتاب الرد أنه قال : فمن أَخَّرَ سورةً مُقَدَّمَة أو قَدَّمَ أُخرى مُؤَخَّرَة: كان كمَن أَفْسَدَ نظمَ الآيات وَغَيَّرَ الحروفَ والكلماتَ، وكان مستنده اتّباع مصحف عثمان رضي الله عنه، فإنه مُرَتَّبٌ على هذا النحو المشهور".
وهذا هو الراجح المؤَيَّدِ بالأدلةِ، ومنها: الحديث السابق.
ومن الأدلة على ذلك أيضًا:
ما رواه البخاري في:(صحيحه:4530):" عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 240]؟ قَالَ: قَدْ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى، فَلِمَ تَكْتُبُهَا أَوْ تَدَعُهَا؟، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي: لا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ".
وفي روايةٍ:( للبخاري:4536):" عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ: هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} إِلَى قَوْلِهِ:{غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]، قَدْ نَسَخَتْهَا الْأُخْرَى، فَلِمَ تَكْتُبُهَا؟، قَالَ: تَدَعُهَا، يَا ابْنَ أَخِي لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ".
والحديث صريحٌ جدًّا في أَنَّ عثمان رضي الله عنه لم يُغَيِّر شيئًا مما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم في المصحف، ولا غَيَّرَ شيئًا مِنْ مكانه، وهذا عامٌّ في ترتيب السور والآيات، ولا فرق بين هذا وذاك.
" قال ابنُ وهبٍ: سمعت سليمان بن بلال يقول : سُئِلَ ربيعة لِمَ قُدِّمَت البقرة وآل عمران، وقد نَزَلَ قبلهما بضع وثمانون سورة؟، فقال : قُدِّمَتَا وأُلِّفَ القرآن على عِلْمٍ مِمَّن أَلَّفَهُ، وقد أجمعوا على العلم بذلك، فهذا مما يُنْتَهَى إليه، ولا يُسْئل عنه.
قال ابن وهب: وسمعتُ مالكًا يقول: إِنَّما أُلِّفَ القرآن على ما كانوا يسمعونه مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم".[فضائل القرآن لابن كثيرٍ:81].
وهذا الخبر الأخير عن مالكٍ: رواه أبو عمرو المقرئ في كتابه:(المقنع) (مخطوطة الأزهرية) [ق/5/أ] بإسناده عن ابن وهبٍ قال:" سمعتُ مالكًا يقول: إنما أُلِّفَ القرآن على ما كانوا يسمعون من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وما وَرَدَ عن عثمان رضي الله عنه يخالف هذا، فلا يصح، بل هو حديثٌ منكرٌ جدًّا، وقد ضعَّفَه القاضي الشرعي الْمُحَدِّث:" أحمد بن محمد شاكر"، والعلامة:" الألباني"، والشيخ:" شعيب الأرنؤوط" وغيرهم.
وهو حديث ٌ رواه الإمام أحمد:(401) واللفظ له، والترمذي:(3086)، والبزار في:(مسنده:344)، والحاكم في:(المستدرك:2/360)، والطبراني في (الأوسط:7638) من روايةِ يَزِيدَ الفَارِسِيِّ قَالَ:
" قَالَ لَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ، وَهِيَ مِنْ الْمَثَانِي، وَإِلَى بَرَاءَةٌ وَهِيَ مِن الْمِئِينَ، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرًا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ؛ مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟، قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ مِنْ السُّوَرِ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَكَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ يَدْعُو بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ عِنْدَهُ يَقُولُ: ضَعُوا هَذَا فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَيُنْزَلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ، فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَيُنْزَلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَتْ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ، فَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهًا بِقِصَّتِهَا، فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، وَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ ثَمَّ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرًا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ".
ويزيد الفارسي المذكور في الإسناد: رجلٌ آخر غير يزيد بن هُرْمُز المشهور، وقد فَرَّقَ بينهما يحيى بن سعيدٍ القطان، وأنكر أن يكونا واحدًا، وكذا فرَّقَ بينهما أبو حاتمٍ الرازي والترمذي والمزي وغيرهم.
وقد ضعَّفَ أبو زرعة يزيدًا الفارسيّ هذا، وذكر يحيى بن سعيدٍ القطان: أنه رجلٌ كان يكون مع الأمراء، يعني أنه لم يكن بصاحب حديثٍ، ولم يكن الحديث صَنْعَته وحِرْفَته، فمثل هذا لاشك في نكارة تفَرُّدِه، خاصةً إذا تفَرَّدَ بحكمٍ وتفصيلٍ مخالفٍ للمقطوع به، شهرةً وتواترًا.
ولذا قال الشيخ القاضي الشرعي:" أحمد بن محمد شاكر" رحمة الله عليه، وهو يتكلم عن يزيدٍ الفارسي هذا:" فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به، وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي، قراءة وسماعًا وكتابة في المصاحف، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور؛ كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأية، وحاشاه من ذلك، فلا علينا إذا قلنا: إِنَّه حديثٌ لا أصلَ له تطبيقًا للقواعدِ الصحيحةِ التي لا خلافَ فيها بينَ أئمةِ الحديثِ".
وقال الشيخ الألباني رحمه الله في:(ضعيف الترمذي):" ضعيف".
وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط رحمه الله في تحقيقه لمسند أحمد:" إسناده ضعيف ومتنه منكر"، ونقل كلام الشيخ أحمد شاكر السابق أيضًا.
وهذا هو الذي يقطع به مَن يعمل بالحديث، أو يشم رائحته؛ لأنَّ مَن ضَعَّفَه مثلُ: أبي زرعة الرازي إمام الجرح والتعديل، ولم تكن الرواية صنعته كما يفيد قول يحيى القطان إمام الحديث، حيثُ قال فيه:" كان يكون مع الأمراء".
أضف إلى هذا كلّه: أنه لم يشتهر بالرواية، ولم يذكر له المزي في ترجمته من:(تهذيب الكمال:32/287) في الكتب الستة سوى هذا الحديث، وهو عند أبي داود والترمذي والنسائي، وحديثًا آخر عند الترمذي في(الشمائل).
ورغم هذا كله: تَفَرَّد برواية هذا الحديث المخالف للمتواتر عن ابن عباس، دون سائر أصحاب ابن عباس الثقات الأثبات أمثال: سعيد بن جبير وغيره من أئمة القرآن والحديث.
فأين كان هؤلاء الأئمة عن هذا الحديث!!؟.
ولماذا لم يأتِ به سوى هذا الضعيف الذي لا يُعْرَف بالحديث ولا بالرواية!!؟.
فهذا كله: يؤكد ما ذكره المشايخ الكرام السابق ذِكْرهم هنا: من نكارة وضعف هذا الحديث.
وهذا الكلام يجري على سنن المسلمين في البحث العلمي، ولا يجري بطبيعة الحال على سنن وطريقة موراني في البحث والتصحيح والتضعيف، القائمة على تصحيح كافة ما ورد مكتوبًا في صحيفة لمجرد أنه ورد مكتوبًا وفقط، تمامًا كما لدى أصحاب الحفريات، وستأتي الإشارة لمناهجهم في ذلك بإذن الله تعالى.
لكن لا علينا من مخالفتهم لما يجهلونه ولا يعرفونه، وقديمًا قيل:" مَنْ جهل شيئًا: عاداه!!؟".
نعم؛ و:" مَن استعصى عليه أكل الموز قال: وجدتُه مالحًا!!؟".
يتبع إن شاء الله.