قطب الدين وصفحة من الحروب الصليبية
06-10-2015, 09:27 PM
قطب الدين وصفحة من الحروب الصليبية
(في ذكرى وفاته: 22 من ذي الحجة 565هـ)



شعر ملوك (أوروبا) من النصارى بالقلق تجاه تزايد قوة (دولة السلاجقة) في المشرق الإسلامي، واتساع نفوذ السلاجقة وتهديدهم للإمبراطورية البيزنطية وأوروبا، خاصة بعد تلك الهزيمة الساحقة التي لحقت بالإمبراطور البيزنطي (رومانس الرابع) على يد السلطان السلجوقي (ألب أرسلان) في معركة (ملاذكرد) الشهيرة سنة [463هـ = 1071م].

وتحرك عدد من ملوك (أوروبا) لتأليب المسيحيين في أوروبا للقيام بحرب صليبية ضد المسلمين في الشرق، وتخليص الأماكن المقدسة من قبضة المسلمين، وطرد السلاجقة من (آسيا الصغرى).

وسرعان ما تحركت جيوش (أوروبا) تحت شعار الصليب لتجتاح المشرق الإسلامي، وتقدموا نحو (بيت المقدس) فحاصروه حتى تمكنوا من الاستيلاء عليه سنة [492هـ = 1099م]، بعد أن ارتكبوا من المذابح والفظائع ما تقشعر له الأبدان؛ فقد أبادوا ما يربو على سبعين ألف مسلم، منهم كثير من العُبَّاد والزاهدين وأئمة المسلمين وعلمائهم.
ولم يستطع (السلاجقة) الذين مزَّق دولتهم الصراع والشقاق بعد وفاة (ملكشاه) التصدي لذلك الخطر الداهم، فوقفوا عاجزين أمام طوفان الصليبيين.

وظل المسلمون يقاسون ويلات الصليبيين وعدوانهم زمنا طويلا حتى قيض الله لهم بطلا من أبطال الجهاد، وفارسا من خيرة فرسان المسلمين، هو السلطان (عماد الدين زنكي)، الذي استطاع أن يبسط نفوذه على الجزيرة والشام، ويستولي على (حلب) و(حماة)، وتمكن من استرداد مدينة (الرها) من براثن الصليبيين سنة [539هـ = 1144م]، وبذل جهودا كبيرة لبناء دولة قوية، وتوحيد صفوف المسلمين وتقوية جبهتهم أمام الصليبيين.

جهاد أسرة (عماد الدين)


ونذر (عماد الدين) نفسه وأبناءه الثلاثة: (نور الدين محمود) و(سيف الدين غازي) (وقطب الدين مودود) لجهاد الصليبيين، وتحرير بلاد المسلمين من عدوانهم واحتلالهم.
وكان (نور الدين) أكثرهم تصديا للصليبيين، ولم يألُ أخوه (سيف الدين) و(قطب الدين) جهدا في مساندته، والوقوف إلى جانبه في جهاده لصد الصليبيين وعدوانهم، والسعي إلى تحرير بلاد المسلمين منهم.

ومرض (سيف الدين غازي) بمرض حادّ، واشتدت عليه وطأة المرض، فأرسل إلى (بغداد) يستدعي (أوحد الزمان) أشهر أطباء عصره، فحضر إليه ليعالجه من مرضه، ولكن ساءت حالته، وما لبث أن توفي متأثرا بعلته في [جمادي الآخرة 544هـ = أكتوبر 1149م] عن عمر بلغ أربعا وأربعين سنة.

فلما توفي (سيف الدين) كان أخوه قطب الدين مقيما عنده في الموصل، فاجتمع عدد من رجال الدولة منهم: الوزير (جمال الدين محمد بن علي الأصفهاني) والأمير زين الدين علي كوجلة صاحب (إربل) والمقدم على الجيوش، واتفقوا على تولية (قطب الدين) خلفا لأخيه، خاصة أنه لم يترك سوى ابن واحد صغير السن لا يصلح للقيام بأعباء الملك، والاضطلاع بمهمة تصريف شئون الدولة في تلك المرحلة الحرجة، التي شهدت العديد من الحملات الصليبية على الشرق.

فأحضروا (قطب الدين)، وحلفوا له بالولاء، وأركبوه إلى دار السلطنة، وسلموه مقاليد البلاد، وأصبح يحكم جميع ما كان بيد (سيف الدين) من البلاد.

صراع الأخوين

وسار (قطب الدين) إلى (سنجار) بعدما كاتبه جماعة من الأمراء للحضور لتسلمها، فلما علم أخوه (نور الدين) بذلك تقدم وأخذ (سنجار).

وكاد الشر يطير بين الأخوين لولا وساطة الوزير (جمال الدين محمد)، وكان رجلا عاقلا صالحا، فسعى بالتوفيق والإصلاح بين الأخوين حتى تراضيا، واستقر الأمر على أن تكون الموصل وسنجار لقطب الدين، وحمص والرحبة لنور الدين عوضا عن سنجار.
ورضي الأخوان بذلك حتى يقضيا على أية أسباب للشقاق والنزاع بينهما، خاصة في ظل تربص الصليبيين بالمسلمين وعدوانهم عليهم. وسلم (نور الدين) سنجار إلى أخيه قطب الدين وتسلم حمص وعاد إلى بلاد الشام، واتفقت كلمتهما واتحدت آراؤهما.

جهاد قطب الدين ضد الصليبين

وشارك قطب الدين مع أخيه نور الدين في كثير من حروبه ضد الصليبيين؛ ففي عام [559هـ = 1164م] بدأ نور الدين يستعد للثأر لهزيمة قواته في معركة (البقيعة) بالقرب من حصن الأكراد، وعمل على إعادة تنظيم قواته، وإعادة تسليحهم، وبث الثقة في نفوسهم حتى استطاع أن يمحو آثار تلك الهزيمة، وأخذ في الاستعداد للجهاد والأخذ بثأره.

وفي تلك الأثناء علم نور الدين بتحرك الصليبيين بقيادة (عموري الأول) ملك بيت المقدس إلى مصر لإخراج (أسد الدين شيركوه) منها واحتلالها، وأراد نور الدين أن يجبر الصليبيين على العودة إلى بلادهم، ففكر أن يغزو بلادهم ليرجعوا عن التقدم نحو (مصر).

وقبل أن يقدم على تلك الخطوة أرسل إلى أخيه قطب الدين مودود وعدد من حكام الأقاليم المجاورة، يستنجدهم، ويدعوهم إلى الجهاد؛ فكان (قطب الدين) أسرعهم إجابة؛ فجمع عسكره، وسار من فوره للانضمام إلى أخيه والجهاد معه ضد الصليبيين.
وفي عام [562هـ = 1167م] شارك مع أخيه في عملية عسكرية واسعة، تعد واحدة من أروع عمليات الردع للصليبيين، وإعادة الثقة إلى نفوس المسلمين؛ فقد جمع (نور الدين) جنوده، وحشد قواته للإغارة على الصليبيين بهدف استنزاف قوتهم، وتكبيدهم أكبر قدر من الخسائر، وزعزعة الأمن والاستقرار في صفوفهم، وسار إليه قطب الدين من الموصل في حشد كبير من قواته، فاجتمعت قواتهما في حمص، حيث أعادوا تنظيم صفوفهم، ثم تقدمت القوات إلى بلاد الصليبيين، فاقتحموا حصن الأكراد، ثم قصدوا (عرقة) فحاصروها حتى استولوا عليها، وتقدمت قوات المسلمين في البلاد يطيحون بكل من يقابلهم من الصليبيين ففتحوا (العزيمة) و(صافينا)، ثم هاجموا حصن (هنين)، وهدموا أسواره، وعادوا بعد ذلك إلى (حمص) بعدما نالوا من العدو، وكبدوا الصليبيين خسائر فادحة أعادت الثقة إلى المسلمين.

توحد الأمة في مواجهة الصليبيين


وقد اتسم قطب الدين مودود بقدر كبير من الوعي والتسامح؛ فبالرغم من الطابع الديني الذي غلب على الحملات الصليبية التي رفعت شعار الصليب، وأعلنت أنها جاءت لمساندة نصارى الشرق، وتحرير الأماكن المقدسة من أيدي المسلمين، وغير ذلك من الشعارت الزائفة التي كانت تخفي وراءها النوايا الاستعمارية الحقيقية لملوك أوربا، وأطماعهم في بلدان الشرق.

بالرغم من كل تلك الشبهات والأباطيل التي أحاطت بتلك الحروب الصليبية فإن (قطب الدين) وغيره من حكام الشرق لم تتغير معاملته تجاه النصارى من أبناء الشرق، ولم ينخدع عن النوايا الحقيقية لتلك الحملات التي استهدفت نهب خيرات الشرق، وبث الفرقة والشقاق بين أبناء الأمة، فقد حظي النصارى في عهده بقدر كبير من الأمن والحرية، ووصلوا إلى أعلى المناصب القيادية في الدولة، حتى إنه اختار واحدا منهم ليكون على قمة مؤسسة الحكم في بلاطه والقيم بأمور دولته والمقدم فيها، وهو (فخر الدين عبد المسيح).

فخر الدين وزير قطب الدين


وكان فخر الدين عند تلك الثقة التي وضعها فيه (قطب الدين مودود)؛ فسار سيرة سديدة، وأظهر سياسة وحنكة، وكان محبا للعمارة مهتما بالعمران؛ فأصلح العديد من القلاع التي كانت خرابا، وأعاد بناء ما انهار منها، وكان له تأثير كبير في مجريات الأمور، حتى تلك القرارات الخطيرة التي تتصل بالعرش لم تكن تتم بمنأى عنه، وبلغ من تأثيره على (قطب الدين) أنه استطاع أن يصرفه عن الوصاية بالملك من بعده –وهو في مرضه الأخير– لابنه الأكبر (عماد الدين)، وجعله يعدل عنه إلى ابنه الآخر (سيف الدين).


صفات قطب الدين وأخلاقه


وكان قطب الدين يجمع العديد من الصفات الحسنة والأخلاق النبيلة، وقد وصفه ابن الأثير؛ فقال: (كان قطب الدين من أحسن الملوك سيرة، وأعفهم عن أموال رعيته، محسنا إليهم، كثير الإنعام عليهم، محبوبا إلى كبيرهم وصغيرهم، عطوفا على شريفهم ووضيعهم كريم الأخلاق، حسن الصحبة لهم. وكان سريع الانفعال للخير، بطيئا عن الشر، جَمّ المناقب، قليل المعايب)

وقد توفي (قطب الدين) في [22 من ذي الحجة 565هـ = 7 من سبتمبر 1170م] عن عمر بلغ نحو أربعين سنة، بعد حكم دام نحو إحدى وعشرين سنة.
ـــــــــــــــــــــ
عن موقع بغداد الرشيد بتصرف