جزائريات يسافرن إلى الرقة لـ "جهاد النكاح" ثم يهربن إلى دمشق
21-01-2016, 12:19 AM

تحقيق: اهد زرواطي



كثيرا ما سمعنا أصوات الصواريخ التي تسقط داخل دمشق ونحن داخل الفندق، كنا نركض باتجاه النافذة لعلنا نرى شيئا، لكننا كنا نستغرب عندما نرى الحياة طبيعية والناس يمشون وكأن شيئا لم يحدث، ربما اعتاد هؤلاء بل تعايشوا مع واقع لازمهم لخمس سنوات.

أخبرني محمد، وهو أحد الشباب المرافق لنا، أنهم ينتظرون الأسوأ "لقد عشتم في الجزائر عشرية سوداء قاربت العشر سنوات، نحن أيضا في سوريا نتوقع تجربة مماثلة للتجربة الجزائرية؛ فقد دخلنا في حرب وأزمة اقتصادية وحصار غذائي وغلاء في المعيشة ونقص في الكهرباء، هل تعلمين أن الكهرباء لا تأتي إلا أربع ساعات في 24 ساعة؟ ربما أنت في فندق ولا تحسين، ولكن الناس يموتون بردا في بلد تصل درجة حرارته في فصل الشتاء إلى ما تحت الصفر " .
كلام محمد كان مطابقا لما رأيناه ليلا، فقلب العاصمة دمشق يتحول مساء إلى سكون مخيف وظلمة حالكة ومحلات مغلقة في بلد كان يعتبر سياحيا إلى ساعات متأخرة، والسبب ليس الخوف من الخلايا النائمة التي قد تستهدف موكبا أو مواطنا، إنما الخوف حتى من اعتقالات عشوائية قد تطال المواطن البسيط ليلا، وما أثار استغرابي هو هذه المحلات المطلية كلها بالعلم السوري إذ لا يمكن أن تمر على هيئة أو محل، بل إن كل دمشق مصبوغة بالعلم السوري، وهنا رد عليّ أحدُ التجار قائلاً: "النظام أجبر أصحاب كل المحلات على طلائها بلون العلم السوري خوفا من تمدد أو انتشار العلم الجديد الذي أخذته المعارضة، وربما لتوضح للعالم الخارجي أن كل السوريين في قلب العاصمة مع نظام بشار، الأمن السوري قد يأتينا في أي لحظة وقد يقفل نهائيا المحل الذي لا يمتثل صاحبه لهذه الأوامر، لهذا تجدين كل المحلات بهذا اللون شاء من شاء وكره من كره، المهم قول كلمة نعم لأي أمر " .
وما زاد استغرابي وأنا أمشي داخل قلب العاصمة هو التفتيش الأمني للسيارات والحافلات، ففي كل نقاط التفتيش التي مررت بها لا توجد أجهزة متطورة لكشف المتفجرات، الأمر الذي زاد ربما من كثرة العمليات لانتحارية التي باتت تستهدف قلب العاصمة، بل وباتت قريبة من مكتب الرئيس والمكاتب المهمة، فقد يكتفي كل عنصر أمن تابع لأي جهة أمنية بفتح الصندوق الخلفي للسيارة ورؤية ما فيها فقط وترك صاحبها يمرّ، يعني بإمكان أي انتحاري أن يمرر المتفجرات ما بين رجليه أو تحت مقعد السيارة أو حتى داخل أبواب السيارة بما أن الأمن لا يفتح الأبواب، وهنا رد مرافقي: "النظام لا يمتلك للأسف الأجهزة المتطورة والتي يكون معظمها مخصصا لقصر الرئيس وحاشيته والمكاتب الحساسة مثل المحافظة والمديريات الأمنية، أما باقي نقاط التفتيش فإجراؤها يكون بسيطا كما رأيتِ " .
وما استغربت له أكثر واستوقفني ورفض كل من رافقني الحديث أو الخوض فيه، هو مرور المرْكبات والسيارات التي تدفع مبالغ مالية دون تفتيشها، شيءٌ يسمّيه السوريون "الإكرامية" ونسمّيه نحن الرشوة، فكثيرا ما كانت سيارات عائلية تمرّ قبلنا وتصل إلى عنصر الأمن يخرج صاحبها ويقدّم شيئاً في يد العنصر، ليقوم هذا الأخير بتحريك يده حتى تمر السيارة دون أي تفتيش، عملية تتكرر عند كل نقطة أمنية، أمر قد يجعل صاحبها يمرر صواريخ وقنابل عنقودية دون أن يحرك أي جهاز أو أي عنصر ساكنا لذلك.

جزائريون مجنّدون مع الجيش السوري
أتذكر جيدا يوم الشهيد الذي حضرته والذي كان منظما من قبل جهاز الحرس القومي العربي، كان بمدينة صحنايا على مشارف العاصمة دمشق، سمح لهذا الجهاز ولأول مرة بتنظيم عرض عسكري، كان الجهاز التابع للعميد ماهر الأسد مشكلا من جنسيات عربية مختلفة تؤمن حسبهم بلغة الضاد والقومية العربية، لكنه كان في الحقيقة أيضا داعماً للجيش السوري الذي انهار بسبب القتال المتواصل منذ خمس سنوات، داخل العرض اقترب مني أحدهم مصافحا وهو يقول صباح الخير "واش راكي"؟ شدت انتباهي الكلمة فهو يتكلم باللهجة الجزائرية، لم أكشف ملامح وجهه فمعظمهم يلبسون الأقنعة ويمتنعون عن إظهار أنفسهم، تبسم وأخبرني أنه من الجزائر وأنه قدم رفقة شباب آخرين للقتال في سوريا، وهذا عن طريق المرور عبر تركيا والدخول بطريقة سرية إلى قلب العاصمة، لم أستغرب دخول الجزائريين للقتال في سوريا بقدر ما استغربت تمكنهم خلال العرض العسكري الذي أقيم، فقد أوكلت لهم مهمة القفز عن طريق الحبال من المرتفعات وقد كانوا من أصحاب الخبرات والمهارات حتى في استعمال السلاح وتدريب البنات، وهو ما وقفت عليه ليلا عندما زرت معسكر تدريبهم.
كان معسكرا بعيدا عن العاصمة دمشق بنحو 20 كلم، عندما وصلت استقبلني قيادي تونسي، أخبرني أنه كان يقطن في العاصمة تونس وأنه محام قبل أن يترك عمله ويلتحق بـ"الجهاد" في سوريا رفقة شباب بلده، داخل مقر القيادة كان رئيس الجهاز الحاج أسعد ذو الفقار، شخصا في الأربعين من العمر، كان صارما لا يتكلم أحد أمامه ولا يتجرأ على أن يجادله آخر، تعليماته أوامر لا تعاد مرتين، لاحظت أنه ربما مدعوم مباشرة من العميد ماهر الأسد، وكثيرا ما تلقى اتصالات من ايرانيين يطلب منهم التحدث معه لاحقا، لا يمشي الحاج ذو الفقار أو هو اسمه المستعار، إلا بحراسة مشددة قد تتبعه إلى المرحاض، ومن بين حراساته الشخصية جد المقربة الجزائريون.
دخلت الغرفة الثانية لأجد بنات في مقتبل العمر، اقتربت منهن لأكتشف أن منهن من هربت من معسكرات منطقة الرقة أو "إمارة" الرقة التي يسيطر عليها تنظيم "داعش" اليوم في سوريا، كانت حنان صاحبة الـ20 سنة من تلك المنطقة، تأثرت كثيرا وهي تعود إلى الوراء قليلا لتعود إلى ذاكرتها صورة الورقة التي وصلت عائلتها والتي كانت تزف لهم خبر التحاق ابنتهم بـ"جهاد النكاح" الخاص بـ"الأمراء"، سكتت حنان قليلا وواصلت الحديث: "وجدت أهلي في حالة ذهول، أبي كان رجلا فقيرا لا حول له ولا قوة مع هؤلاء، لم أكن الوحيدة، فقد وجدت أن معظم بنات الحي طلبن لـ"جهاد النكاح" وطُلب منهن تحضير أنفسهن، في تلك الليلة عزم أبي رفقة كل رجال الحي على تأمين حافلة لنا، دفعوا لصاحبها مبلغا محترما من المال حتى يقوم بتهريبنا عبر طرق سرية إلى خارج منطقة الرقة، كان الموضوع رهان حياة أو موت، لكن نهايتنا في كلتا الحالتين كانت مأساوية، لقد ذهلت عندما ركبت الحافلة ووجدت أن من كانت جنبي هي ابنة أختي التي لم أعرفها ولم تعرفني لأننا كنا منقبات، فنظام الرقة يقتضي ذلك"، أخبرتنا حنان أنهم كنّ 10 بنات تم إخراجهن أو تهريبهن من منطقة الرقة حتى وصلن إلى أقرب نقطة للجيش حيث تسلمهن هذا الأخير وأدخلهن إلى العاصمة دمشق، هنا بدأ مشوار حنان مع الحرس القومي العربي، فمن وجهة نظرها هو الغطاء الذي يحميها من أطماع البعض.
قصة حنان شبيهة بمعظم البنات اللاتي التقيت بهن داخل معسكر التدريب، تدريب تخضع له كل واحدة حتى تتمكن من فنون القتال والرماية، ورغم أن الأمر يبدو صعبا نوعا ما عليهن، إلا أنهن تأقلمن مع الظرف الجديد، ظرف الدعم والمساندة حتى داخل الجبهات.

الإعلام الحربي
عندما انتهى العرض العسكري الذي قام به الحرس القومي العربي، والذي حضرته شخصيات ايرانية وممثل لحزب الله اللبناني، وممثلون عن أحزاب لبنانية، وشخصيات من الأردن وتونس وفلسطين وغيرها من البلدان الداعمة لهم، طلب منا الركوب في الحافلات وانتظار موعد المغادرة لحمايتنا طبعا، فالأجانب هم المستهدفون رقم واحد في دمشق، صعد معي إلى الحافلة مراسل ومصور القناة السورية الحكومية، طلبوا من السائق المغادرة فورا وايصالهم إلى المحطة لتقديم المادة.
وبعد أن أخذ السائق الموافقة من القيادة تحرك بنا، كان المراسل يتباهى بأنه مراسل حربي يدخل قلب الجبهات مع الجيش، سألته إن كان أي صحفي لديهم يمكن أن يعمل مع الجيش؟ فرد أن الأمر يقتصر على من يتم تزكيتهم من قبل القيادة فقط، ولم أفهم أي "قيادة" يتحدث عنها إلا لاحقا، أكملنا طريقنا نحو ساحة الأمويين، الدخول إلى هذه الساحة يشبه الدخول إلى قصر الرئاسة، إذ علينا أن نمر على حواجز تمنع أي مركبة من الدخول، لكن صديقنا المراسل كان بطاقة مرورنا، فبمجرد وصولنا إلى أي نقطة تفتيش يخرج رأسه من النافذة ويقول "أبو أحمد هذا أنا"، ليرد عليه الثاني "تحياتي تفضلوا"، سأل المراسل إن كان مرافقونا الأمنيون يمتلكون أسلحة معهم حتى ينزلوها في نقاط التفتيش لأن مرورها إلى المقر ممنوع؟ فرد هؤلاء بالنفي، وهكذا استمررنا في مسلسل الدخول إلى هذا المقر الذي لم أفهم ما هو خاصة وأن كل الطرق المؤدية له مغلقة وعليها حواجز أمن كثيرة، لاحظت ونحن ندخل أنه حتى المجمعات السكنية محمية، أخبرني أحد المرافقين أنها للشخصيات المهمة والفنانين الموالين لنظام بشار الأسد والذين طلبوا الحماية فكان لهم ذلك.
بعد عشرين دقيقة من المرور على الحواجز وصلنا أخيرا إلى مقر هذا المراسل، مقر ليس مكتوب عليه أي شيء، نزل مع المصور شاكرا، وبعد أن ابتعدنا عنهما بخطوتين باشر المرافقون بالضحك الهستيري المستمر، سألت عن السبب فكسر فضولي أحدهم "هل رأيت كل تلك الحواجز الأمنية المشددة والأجهزة الخاصة بكشف المتفجرات والسلاح والتي كانوا يفتشون بها؟"، وكم تفاجأت بعد أن أخرج لي المرافق أسلحتهم التي كانت تحت المقاعد من رشاشات ومسدسات صغيرة "كل تلك الأجهزة هي للتمويه فقط ولا واحد فيها يعمل يا أختي، والدليل أننا وصلنا إلى مقر المخابرات السورية في قلب العاصمة ولم يكتشف أحدٌ أننا مرّرنا السلاح".
كانت الصورة فعلا صادمة بالنسبة لي خاصة بعد أن اكتشفت أن المراسل والمصور مخبران، يعني عبارة "الإعلام الحربي" تعني أنها تابعة لجهاز المخابرات السوري الذي يشرف على تدريب مراسلين ومصورين يشرفون هم في الأخير على تنقية مادتهم والسماح لها بالمرور في القناة الحكومية السورية، والتي باتت تتبع بشكل مباشر إلى قيادة المخابرات، وزادت دهشتي عندما اكتشفت أن كل تلك الحواجز لا حاجة لهم بها مادامت كل أنواع الأسلحة تمر دون أن تطلق إنذارا بذلك.

أصحاب المال والأعمال
بقيت في دمشق لأيام تجولت خلالها في أرقى شوارعها وأحيائها السكنية وأفقرها أيضاً، يستنتج من يقصد قلب العاصمة شيئا واحدا، وهو أنها باتت تحمل أصحاب المال والأعمال والنفوذ، خاصة عندما تجد داخل المقاهي والمطاعم شبابا في مقتبل العمر يركبون سيارات فخمة ويصطحبون معهم بنات للتبجح لا أكثر، همس أحد المرافقين في أذني داخل أحد المطاعم: "هل ترين ذلك الشاب؟ إنه ابن أخت عقيد في جهاز المخابرات، هل تعلمين أنني وحيد أمي ومع ذلك تطوعت للقتال بينما هم أصحاب النفوذ يتم حمايتهم عن طريق وساطات، بل لا يستطيع أحد الحديث معهم؟
يمكنك التقدم نحوه الآن وسؤاله عن سنه ستجدين أنه في سن الخدمة الوطنية، لقد تطورت الأحداث لدينا بعد سنة 2011 وصار أي شاب منا مجبرا على التقدم للخدمة نحو الجبهات، منا من لم ير أهله منذ 3 سنوات أو أكثر، لا يهم إن كنا صغارا في السن أو لدينا إخوة استشهدوا، المهم لدينا النظام أمرنا أن نتوجه للقتال وأن نلتحق بالجبهات، وفي كل نقطة تفتيش ستجدين عناصر الأمن يدققون على الشباب أكثر من أي وقت مضى، فكل همهم التحاق أكبر عدد من الشباب حتى الذين استفادوا من الإعفاء، ربما انهارت الجبهات أو انهار الشباب الذي ظل يقاتل لـ5 سنوات".
كلام المرافق الأمني كان كله حسرة على التمييز بينهم وبين أصحاب المال والنفوذ رغم أنني أخبرته أنه السيناريو المتبع في كل الدول والأنظمة العربية التي يحمي فيها أصحاب النفوذ أبناءهم حتى من نسمة الهواء، لكن ربما الوضع يختلف في سوريا لكون شبابها يرون أنفسهم في قلب التهكلة والنار، ففي الوقت الذي يكون نار قلب أمه مشتعلة عليه يكون قلب الأم الثانية مطمئنا لأن ولدها مدعوم من قبل العقيد وحاشية العقيد في نظام الأب والابن.
خرجنا من المطعم ليلا فقابلتني حديقة أمامها بيت جاهز "شاليه" يقبع داخله رجال الأمن، سألت مرافقي عن السبب فرد أنه حماية لتمثال حافظ الأسد الموجود داخل الحديقة، كان الأمر غريبا فعلا خاصة بعدما اقتربت من التمثال ووجدت به رصاصات عدة، والحمد لله أن المرافق قتل فضولي ليخبرني أن الخلايا موجودة بكثرة اليوم في قلب العاصمة دمشق وتستعد لساعة الصفر للانطلاق في الانقلاب المخطط له والذي اكتشفته واستشعرته الأجهزة الأمنية، ما جعلها تشد الخناق داخل العاصمة، الخلايا النائمة التي تحدّث عنها المرافق وصلت حتى إلى تمثال الرئيس الأب حافظ الأسد الذي استهدف منذ مدة زمنية بسيطة برشاش ومحاولة لإسقاطه لولا تدخل الأمن الذي أفشل المحاولة..
حديث المرافق عن الوضع في دمشق أحسست به قبل أن أسمعه، فمعظم المواطنين الذين تحدثت معهم والتجار وحتى أصحاب سيارات الأجرة كان كل سخطهم على النظام المخابراتي الذي حرمهم من استنشاق هواء نقي لا يدخل منه مُخبر، حتى أن أصحاب سيارات الأجرة باتوا مجبرين على كتابة تقرير عن أي أجنبي يركب معهم أو يشكون به، التجار مجبرون اليوم على طلاء محلاتهم بلون العلم السوري خوفا من سحب الدفتر التجاري منهم، وأمهات يقدمن أولادهن الشهيد تلو الآخر دون مقابل مادي أو جنازة تليق بهم، بل كثيرا ما يكتب لأم أن تلقب بأم الشهيد المخطوف أو المفقود، أما داخل الجبهات أو داخل سجون النظام وليس لك أن تسأل عن التهمة فقد قرر القاضي والجلاد، والمضحك في الموضوع أنني كثيرا ما ركبت مع أصحاب سيارات الأجرة الذين يشغِّلون الأغاني الخاصة ببشار فور وصولنا إلى أي نقطة تفتيش، ربما هي رخصة المرور أو رخصة المبايعة....