العاصمة سلال وجلسة العصف الذهني
22-09-2014, 07:24 AM

كنت أعتقد بأن اللقاء سيكون تقليديا، كلمة افتتاح ثم عرض للموضوع، ينتهي بإعطاء توجيهات مع التركيز على ضرورة تنفيذ التعليمات، ولكن الأمر كان مختلفا تماما في اجتماع الحكومة بالسلطات، حيث كان اللقاء أقرب إلى جلسة عصف ذهني، وهي طريقة جماعية وعملية للتفكير الإبداعي واستمطار الأفكار، تحاول المجموعة من خلالها إيجاد حلول لمشكلة محددة من خلال توليد أكبر كمّ من الأفكار المبتكرة والمقترحات عبر الحوار التفاعلي والتشاركي، ومن ثم تحليلها بهدف اختيار البديل الأنسب، وانتهاء باتخاذ القرار وتنفيذه بواسطة فرق عمل يؤطرها برنامج للحكامة والابتكار، ومن ثم كان التفاعل والمواجهة أيضا، مواجهة الذات قبل كل شيء، حيث يكتشف كل مشارك ما الذي يمتلكه من أفكار وما مدى قدرته على الإبداع والابتكار، وأين مكمن الخلل في رؤيته وتصوره أو في عمل مؤسسته أو في غيره، إنها خطوة غير تقليدية واستراتيجية، نتمنى أن تصبح نموذجا للقاءات ذات العلاقة بمشاريع التمدن والعمران.

وفي هذا السياق يمكن القول بأن الاهتمام بالوجه العام للعاصمة ذو علاقة عميقة بمفاهيم التمدن والعمران والحضارة، حيث أن التهيئة العمرانية بمختلف أبعادها وتفرعاتها الخاصة نالت حظها من التشخيص الاستراتيجي والاقتراحات، ابتداء من النسق والطراز المعماري للمدينة وشبكة طرقاتها ومنظومة إشاراتها الضوئية وبنيتها التحتية، ولكن التمدّن ليس مجرد مرافق وقوالب إسمنت تعلوها مسحة جمال، إنما هي علاقة انعكاسية بين العمران والاجتماع والذوق العام، فعلاقة المرأة في مدننا بالفضاء العام مثلا مؤشر قوي على درجة التمدن التي تبلغها المدينة، ففي الفضاء العام الذكوري بامتياز مثلا، تجبر المرأة في المدينة على التخفي والتواري خشية أن يخدش حيائها بكلمة نابية أو يمارس ضدها عنف معنوي أو مادي مجانا، فقط بسبب أن جسدها مصدر الخطيئة والغواية، الأمر الذي يؤكد أن حس المدينة لا يزال غريزيا غير حضاري، فضلا على أن مدينتنا هي من المدن النادرة التي لا تستطيع المرأة فيها أن تضع حلقا أو عقدا في الشوارع العامة دون أن تتعرض للأذى، بل قد تتعرض للأذى لمجرد ردها على أي نوع من التحرش، ويقع ذلك على مرأى ومسمع الشارع، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل عن المفهوم الحقيقي لذكورية الفضاء؟

ظاهرة أخرى، لازلت أتساءل عن أسبابها، إنها ظاهرة البصاق التي شغلتني منذ طفولتي المبكرة، حيث كنت أتساءل باستمرار لماذا يغيب الذوق تماما وينحدر الإنسان عندنا إلى هذا الفعل المشين دون أن يشعر بقذارة ما يفعل، وبأنه لا يلطخ الرصيف فقط ولكنه يلطخ الروح والجو والمنظر وكل شيئ ...

كما أتساءل دوما عن غياب مقاهي في عاصمتنا تحمل أسماء أدبائنا وشعرائنا وكبار مفكرينا، كما هو الحال في مقهى سارتر –مقهى فلور أو –لي دو ماغو- في باريس أو مقهى –انتليجنسيا –بالولايات المتحدة أو “كافيه ريش” و«الفيشاوي” في القاهرة، وكذا حدائق الشعراء التي يوجد إلى جانب كل زهرة أو زرع فيها حجر نقشت عليه الأبيات التي قيلت في تلك الزهور واسم الشاعر الذي نظم القصيدة، كما أتساءل لماذا لا تكون بيوت العظماء مزارا كبيت أوغست كونت وفيكتور هيغو وغيرهم في أنحاء العالم، بل إني أتساءل عن سبب عدم اهتمام شبابنا بالمتاحف التي تكاد تكون خالية من الزوار، فضلا عن غياب المعارض الفنية وغياب مواد الرسم والموسيقى وغيرها من الفنون في أغلب مدارسنا.

وأتساءل مرة أخرى لماذا تغيب مناظر القراءة عن حدائقنا ومقاهينا ووسائل نقلنا وفي كل مكان يمكن فيه قطع ديكتاتورية الزمن لتوسيع المدارك والثقافة، لماذا الكل مشغول بغيره في شوارعنا وفي المواقع العامة.

وفي مقابرنا، حيث يرتاح ويكّرم موتانا، وحيث هي أماكن للسكينة والطمأنينة والتذكر والذكرى، كيف تصيبها هذه اللوثة التي تمس بحرمة الميت وتؤذي الزائر.

ومساجدنا، البيوت التي نأخذ إليها زينتنا عندها متطهرين، حيث تنحني فيها أرواحنا قبل أجسادنا لله عز وجل وإذا بروائح السجاد تقطع علينا تواصلنا وتفسد علينا سجودنا، بدلا من نفحات تليق بقدسية المكان تهب علينا.

إن التمدن مفهوم مركب وشامل، وتحقيقه يحتاج تعميم عملية العصف الذهني في كل القطاعات وعلى رأسها التربية والثقافة والشؤون الدينية المرتبطة بالمعنى ترافقها في ذلك قطاعات المبنى، وبتناغم عمل المعنى والمبنى، يرتقي الذوق العام، وعندئذ يرتقي الإنسان ويحصل التمدّن.


أسماء بن قادة