الأدب الأندلسي وأثره على الحضارة الأوروبية
02-07-2019, 03:03 PM


بلغ صدق الأدب الأندلسي الباهر أنَّ تأثيره لم يقف عند الحدود السياسيَّة لدولة الإسلام في الأندلس، ولهذا لم يقتصر على المسلمين وحدهم؛ بل كان له أثرٌ بعيدٌ عند النصارى واليهود المستعربين، كما كان له أثرٌ على الممالك النصرانيَّة وأوروبَّا كلها..

أثر الأدب الأندلسي على اليهود

لم تكد أُسس الدراسات التلموديَّة تستقر في الأندلس -بفضل ذلك الجهد الوافر الذى بذله حسداي بن شبروط (334هـ=945م – 360هـ=970م)- حتى أخذ الشعر العبري الحديث يظهر إلى الوجود ويفصح عن نفسه مقلِّدًا النماذج من الشعر العربي، وحتى إنَّنا نجد أوائل كتب النحو العبري الرئيسة تظهر مكتوبة بالعربيَّة كما نجد في كتاب "ينبوع الحياة" الذى ألَّفه أوَّل فيلسوف يهودي باللغة العربيَّة وهو "ابن جبيرول"، بل إنَّنا نجد أنَّه كان يُقلِّد شعراء العرب فيما نَظَم من الشعر.

كذلك كتب يحيى بن فاقوذا ورسالته في الأخلاق والتصوُّف المسمَّاة "الهداية إلى فرائض القلوب"، وبها ألَّف أبو عمر يوسف بن صديق، وكتب يهودا هاليفي كتابه المسمى "الخزري" واستعملها إبراهيم بن داوود الطليطلي، وإبراهيم بن عزرا، وموسى بن ميمون، بل إنَّ الأفكار التى تدور حولها كتابات هؤلاء كلها عربية.

وظلَّ اليهود بعد زوال سلطان العرب عن البلاد بزمان طويل يتدارسون الكتب العربيَّة، ويترجمونها إلى العبرية في همَّةٍ يتجلَّى فيها إعزازهم العميق لها، فاستطاعوا بذلك الجهد أن يحتفظوا لنا في أحيانٍ كثيرة بترجماتٍ عبريَّةٍ للكثير ممَّا ضاعت أصوله من آثار الأندلسيِّين، بل إنَّ أُسَرًا يهوديَّة كبني طيِّبون اللونليِّين (نسبةً إلى لونل Lunel بلدةً في جنوب فرنسا) كرَّست جهودها كلها لذلك العمل المحمود، أَلَا وهو إذاعة الكتب العربيَّة بين الناس.

أثر الأدب الأندلسي على النصارى

وكان للأدب العربي الأندلسي في النصارى الأثر نفسه الذي كان له في اليهود؛ إذ كان أولئك النصارى جيرانًا للمسلمين الأندلسيِّين ربطتهم بهم الأسباب المتَّصلة زمانًا بعد زمان، ولم تقتصر علاقتهما على الحرب بل قامت بينهما صلات سلميَّة أيضًا، وعن طريق هذه العلاقات عرف نصارى الشمال ما كان للمسلمين في الجنوب من نُظم سياسيَّة وإداريَّة ودينيَّة وتجاريَّة وتنبَّهوا إلى قدرها، وكان من الطبيعي أنَّ يميلوا إلى النسج على منوالها.

وعندما كُتب للنصارى التوفيق في حربهم الطويلة مع المسلمين -والتي يُسمِّيها كتَّابهم بحرب الاسترداد “La Reconquista”- وتمكَّنوا من احتلال طليطلة عام (478هـ=1085م)، وتقرير مصير الجزيرة بذلك، أخذ ملوك قشتالة يعملون على رفع مستوى الثقافة بين شعبهم بنقل كنوز الثقافة الإسلاميَّة إلى لغاتهم، ومن ثَمَّ ظهرت في طليطلة "مدرسة المترجمين" المشهورة، التي نقلت العلوم الإغريقيَّة وما أضافه العرب إليها من شروحٍ وتعليقاتٍ إلى المدارس الأوروبِّيَّة.

وقد كان دافع النصارى إلى تدارس كتب العرب في بعض الأحيان هو الدفاع عن النصرانيَّة؛ أي رغبةً في التعرُّف على آراء خصومهم المسلمين لكي يستطيعوا مجادلتها وإظهار فضل عقيدتهم عليها.

ومن هذا الفريق من النصارى الذين اهتمُّوا بدراسة لغة العرب وعلومهم "رايموندو مارتين"، و"رايموندو لوليو"، و"القديس بدرو بشكوال"، وغيرهم كثيرون.

دانتي والكوميديا الإلهية

وفي أحيانٍ أخرى نجد أثر العرب عند كتَّاب النصارى أعمق وأوسع مدى؛ فنجد في كتاباتهم طابع الفكر العربي وروحه، ومن هذا الطراز "دانتي اللجييرى" الذي انتفع انتفاعًا عظيمًا بالقصص الإسلاميَّة المتعلِّقة بقيام الساعة وأوصاف الدار الأخرى في إنشاء الكوميديا الإلهية الخالدة.

ألفونسو العاشر “العالِم” واهتمامه بعلوم وآداب العرب

وبلغ الاهتمام بدراسة علوم العرب من الفلك والرياضيات والطب أوجَّه في إسبانيا النصرانيَّة في عهد ألفونسو العاشر، فترجموا “القرآن” و”التلمود” و”القبَّالة”.

وقد تداولت أيديهم كتبًا عربيَّةً في الحِكَم والألغاز نقل أصحابها فيها حشدًا من آراء فلاسفة العرب ومفكِّريهم، كما نجد في كتابي بونيوم وبوريدات.

ونقلت عن العربية كتب في الألعاب كالشطرنج، واستُعملت الموسيقى الأندلسيَّة في صياغة الأغاني الإسبانيَّة المعروفة بالكنتيجات، وذاعت بينهم ترجمات كتب عربيَّة مشرقيَّة في الحكمة مثل: (كليلة ودمنة)، والقصص مثل: (السندباد)، عرفها الناس عن طريق صورها العربيَّة، وأُنشئت مدرسةً للدراسات العليا في مُرسية ثم أخرى في إشبيلية، واجتمع في هاتين المدرستين أعلام العلماء من المسلمين والنصارى واليهود، وكان يُشرف على هذا العمل الضخم ذلك الملك الذي استحقَّ من التاريخ لقب "السَابْيوُ/ Sabio" أي العالِم.

أثر الأدب الاندلسي في أوروبا

انتشرت الأساطير والقصص الشرقيَّة في أوروبا بدرجةٍ كبيرة، فتجد إلى جانب "ألف ليلة وليلة" و"السندباد" كتاب "سلوك رجال الدين" لبيدرو ألفونسو، وصورًا مختلفة لقصَّة "بوذا"، وكلها انتشرت وذاعت في أوروبا عن طريق ترجماتها العربية.

وإنَّ أسماء مثل: (خوان مانويل، وإيموندو لوليو، وتورميدا)، لتشهد بأجلى بيانٍ على ما أسهم به العرب في تكوين القصص الإسباني.

ويكاد يكون من المحقَّق أنَّ مجموعة حكايات ألف ليلة وليلة العربيَّة قد أخذت سبيلها إلى الغرب عن طريق الأندلس، بدليل ما كان متدوالًا منها بين مسلمي الأندلس، وما أخذه النصارى عنهم منها.

وكانت هناك كذلك قصص عربيَّة فيَّاضة بالحيويَّة كقصة "حي بن يقظان" لابن الطفيل، التى تُعتبر نموذجًا للقصَّة الفلسفيَّة، وكالفصول الأولى من كتاب "الكريتيكون" لباتازار جراثيان.

ومن الثابت أنَّ المسلمين الأندلسيِّين تداولوا قصصًا ذات طابعٍ غنائيٍّ ضاع كلُّه، فكانت لهم أغنيَّاتٌ وأساطير لها أثرٌ ملحوظٌ في نشأة شعر الملاحم الإسبانى والفرنسي، بدليل ما نجده من شواهد على وجود ذلك القصص الأندلسي في بعض كتب التاريخ العربيَّة ككتاب "افتتاح الأندلس" لابن القوطية، وقد كشف المؤرخ الإسباني "ريبيرا" هذا القصص، ووصل إلى هذه الحقائق كلَّها وأذاعها.

وكذلك صيغت كل الأشعار الغنائيَّة التى نجدها في اللغات الرومانيَّة في العصور الوسطى في أوزانٍ وبحورٍ مشتقَّةٍ من أوزان فنٍّ شعريٍّ ابتكره الأندلسي "مُقدم القَبْرِي" في القرن العاشر الميلادي، وهو فنُّ الزجل والموشَّحة الذي انتقل مع الموسيقى الأندلسيَّة ذات الأصل العربي إلى فرنسا وإنجلترا وألمانيا، وطال بقاؤه في الأندلس بعد انقضاء عصر المسلمين، حتى لنجد نماذج منه في مطلع القرن السابع عشر.

خاتمة

بعد سقوط غرناطة، يتجلَّى لنا شقاء الموريسكيِّين الاجتماعي فيما خلَّفوه لنا من أدبٍ قليلٍ فقير، لا يحمل من العربية إلَّا أحرف هجائها؛ إذ إنَّهم جهلوا العربيَّة، ولم يعودوا يعرفون غير القشتاليَّة، فكتبوا بها ما عن لهم تدوينه، وسجَّلوه بحروفٍ عربيَّة، وهذا ما يُعرف بـ "الأدب الخميادي"، ومعظم ما لدينا من هذا الأدب مؤلَّفات دينيَّة، وكتب خرافات، وكتب في الشرع، ولم يخلُ هذا الأدب من شعرٍ مثل: "قصيدة يوسف"، و"تاريخ نسب الرسول"، ولكن أهمَّ عناصره كانت الأساطير والقصص المترجمة والمقتبسة من أصولٍ عربيَّة.
__________________________________________________ _
تاريخ الفكر الأندلسي، تأليف آنخل جنثالث، ترجمة الدكتور حسين مؤنس. (بتصرف) - موقع أندلسي.