هام جدا: ورطة العلمانية المعاصرة
29-07-2016, 04:39 PM
هام جدا: ورطة العلمانية المعاصرة!!؟
سمير السيد





الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:





الخِطاب العلماني يُعاني أزمةً في علاقتِه بالدين، ولستُ أقصد موقفه هو؛ فهذا أمرٌ محسومٌ منذ زمن، ولكنِّي أعني:" كيفيَّة إيصال هذه العلاقة إلى جَماهير النَّاس!!؟"؛ فالازدواجيَّة طافحة لِمن لديْه أدْنى اطِّلاع على أدبيَّات القوم وآرائِهم، فهم من جانب: يُحاوِلون إقْصاء الدِّين من حياة النَّاس، وإن وجد، ففي شكْل شعائرَ فرديَّة في زوايا منسيَّة!!؟، أمَّا أن يُهيمِن الدين - والكلام هنا على الإسلام خاصَّة - على مناحي الحياة المختلفة، فهذا ما تُحاول العلمانيَّة: القضاءَ عليْه بكل ما أوتِيَتْ من قوَّة!!؟.

فكلِمة العلمانية أصبحت تدلُّ في علم الاجتِماع السياسي على: معنى شامل يخصُّ بنية الثقافة ونظام القِيَم عامَّة، من ناحية اتِّجاهها إلى: فكِّ الارتِباط بالمرجعيَّة الدينيَّة، ونزْع القداسة عن العالم!!؟، مع الاحتِكام أكثر فأكثر إلى سُلْطة العِلم والعقْل، سواءٌ في تَحديد القِيم، أو في تفْسير الظَّواهر، أو في تَوجيه السُّلوك الفرْدي والجماعي، على حسابِ الدين وقيَمِه في الثَّقافة الإسلامية.

والمنهج الحداثي لم يُحاول التوقُّف عند حدود الفصْل بين الدين والدولة، بل تعدَّاه إلى الطَّعن في الإسلام ذاتِه، ومُحاولة القضاء على قداستِه في قلوب الملايِين من المسلمين، بتحويلِه إلى منتج ثقافي تتناولُه أيْدي النَّقْد وقتما شاءت، وكيفما شاءت!!!؟؟؟.

ونحنُ هُنا: نريد شرْحَ ثلاثة مصطلحاتٍ يستخدمها الحداثيُّون كثيرًا، ويريدون من ورائِها:" معانيَ لا تتَّفق مع الإسلام!!؟"، وهي:(
أرْخنةالنص، وعقْلنة النص، وأنْسنةالنص!!؟).

فما معنى هذه المصطلحات!!؟.

المقصود بالنصِّ هنا هو:( النَّصُّ الشَّرعي: القرآن و السُّنَّة).

أمَّا هذه المُصْطلحات الغامِضة - والغموض هنا: مقصودٌ؛ حتى ينبهر الناس، وكنوعٍ من الاستِعلاء أيضًا - فمعناها كالآتي:


فالأرْخنة، المقصودُ بها:" إخضاع النصوص الشرعيَّة للظروف التَّاريخيَّة التي نزلتْ فيها".
أي: إنَّها تكون خاصَّة بالعصْر الذي نزلت فيه!!؟، وهو هُنا: عصر النبوَّة، وليس لهذه النُّصوص دخل بالعصور التَّالية!!؟، فالآيات والأحاديث: إنَّما قيلتْ في وقائعَ خاصَّة، فتختصُّ بِها ولا تتعدَّاها!!؟، وهذا الكلام يؤدِّي إلى هدْم الإسلام، وتحويلِه إلى آثارٍ تاريخيَّة، كتلك الآثار التي نَراها في المتاحِف، تُحدِّثنا عن عصورٍ مضَتْ وانتهت؛ فهل بعد هذا الهدْم هدم!!؟.
ومن المعروف أنَّ القاعدة تقول:" العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوصِ السبب"، وهذا موضوع مبسوط في:" علوم القرآن": لِمن أراد أن يُراجعه.

أمَّا المقصود بعقْلنةالنَّصِّ، فهو:" إخْضاع النصوص الشرعيَّة للعقل البشري، فما وافق العقْل أخذنا به، وما خالفه أوَّلناه بِما يتناسب مع العقْل!!؟".

وهذه الدَّعْوى بدوْرها: دعوى مرفوضة؛ إذْ يُصْبِح العقْل حاكِمًا على النُّصوص الشرعيَّة!!؟، ثم تتفرَّع قضيَّة أُخْرى، وهي:
أنَّ العقل سيحكم على النَّصِّ الشَّرعي،( لكن عقل من: عقْل هذا أم عقْل ذاك أم عقل ذياك!!؟، فالعقول تتفاوتُ، والأفْهام تتباين، ومَن لديْه أدنى اطلاع على الشَّرع ونصوصِه يعلم أنَّه: لا تعارُض بين العقل السَّليم والنقل الصحيح)؛ فكل ما جاءتْ به الشَّريعة الغرَّاء: إنَّما جاء موافقًا لما تدلُّ عليْه العقول السليمة والأفْهام السويَّة.

أمَّا المقْصود بأنْسنة النَّصِّ، فهو:" إرْجاع النُّصوص الشرعيَّة إلى الإنسان، واعتبارها عملاً إنسانيًّا كأيِّ عمل إنساني!!؟، ومن ثَمَّ؛ يَخضع للنَّقد والتَّعديل والمناقشة، كما نناقش أي عمل أدبي!!؟".

يقول شكري عيَّاد: "الحداثة تستهدِف أنْسنة الدين؛ أيْ: إرْجاع الدين إلى الإنسان، وإحْلال الأساطير محلَّ الدين، وإرْجاع المقدَّسات والغيبيَّات إلى جسم الإنسان".

إذًا؛ المقصود من كلِّ هذا:" أن يُصبح الإسلام حرمًا مستباحًا لكل زاعق وناعق؛ فلا ثوابت تبقى، ولا عقائدَ تدوم، ومن ثَمَّ؛ يتفكَّك الإسلام وتتمزَّق أواصرُه وروابطه!!؟"، ومن المؤسف حقًّا: أنَّ كثيرًا من المتعصِّبين في العالم العربي قد تبنَّوا الدعوة إلى العلمانية، لا بمفهوم التخلُّص من سلطة رجال الدين، ولكن بمعنى: التخلص من الدين نفسه!!؟، وبدؤوا يخلعون على الإسلام ما خلعتْه أوروبا على الكنيسة في العصور الوسطى، دون أن يفْطِنوا إلى الفرْق بين حقيقة الإسلام وموقف الكنيسة، وصاروا يسمُّونه: "حداثةً وتنويرًا!!؟"، ناهيك عن أنَّه لا يوجد في الإسلام ما يسمَّى برجال الدين، ولم يوجد من بين عُلماء المسلمين: من وقَفَ ضدَّ العلم أو ناهضَ التقدُّم والمدنيَّة!!؟.

ما أريد قولَه: أنَّ الخطاب العلمانيَّ: خطابٌ متصادِم مع الإسلام وثوابته، وأنَّه: خطاب معادٍ له على طول الخطِّ، ولكنَّه يتعامل بازدواجية؛ فمن جهة أخرى: تُحاول بعض الأصوات العلمانيَّة: التخفيف من حدَّة تلك السياقات الفجَّة الصادمة للشعور العام، فتقول: ولم يكن تطوُّر العلمانيَّة في كلِّ تلك الحقب والمراحل معاديًا للأديان على الإطلاق؛ فوفقًا إلى أيِّ نظام علماني، فإنَّ العقيدة وحريَّة مُمارسة الشعائر الدينيَّة لأصحابِ أيِّ دِيانة هي من صميم الحقوق والحرِّيات المدنيَّة للأفْراد، التي يَجب أن تصونَها وتَحميها الدَّولة التي يُفْتَرض أن تظلَّ مُحايدة، لا تُمارس تَمييزًا مع أو ضد أي عقيدة دينيَّة، وهو: البند المتضمَّن في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فقط تَحول التدابيرُ العلمانيَّة دون تحويل الدين إلى سلطة أو السياسة إلى استِبْداد وقهر.

وفات العلمانيين - عن سهْو أو عمد -: أنَّ النصرانيَّة المحرَّفة يُمكنُها الانكِماش داخل الكنيسة، وستظلُّ كما هي، أمَّا الإسلام إذا انْحصر في الشعائر والعبادات وفقط؛ فماذا سيبقى منه!!؟.

والتناقض الصَّارخ لموقف العلمانيَّة من الإسلام تَجـده في علاقتهم بكِتاب "الإسْلام وأصـول الحكم" لمؤلِّفه:( علي عبد الرازق)، فبالرَّغْم من هجوم العلمانيَّة الحادِّ على الإسلام، إلاَّ أنَّها لا تجِدُ غضاضةً من الالتِجاء إلى هذا الكتاب – وهو: أحدُ الأساطير الدَّاعمة لفكرتهم - والاتِّكاء عليه في إثْبات أنَّه لا يوجد في الإسلام: حكومةٌ ولا نظام حُكْم!!؟، رغْم أنَّ كاتبَه أزهريٌّ، وصيغ بأسلوبٍ شرْعي، أليست مفارقة!!؟.

وصدق الله العظيم إذْ يقول: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

وهذا التَّناقض العلماني الواضح: أثارَ حفيظةَ بعض العلمانيِّين، وقد ساءه أن يكون الاعتِماد - عند الاستِشْهاد على فصْل الدين عن الدولة - على نصٍّ ديني آخَر، فيقول عادل ضاهر: "إنَّه ومع افتِراض وجود علاقةٍ في الإسلام بين الدِّين والدَّولة، فإثبات ذلك يعود لاعتِبارات منطقيَّة مفهومية، فتِلْك فقط هي التي يُمكن أن تبيِّن ما إذا كان بالإمكان الرَّبط على نحوٍ ضروري بين الإسلام والدَّولة، فإذا كان ثمَّة شيء في طبيعة الدين، أو في طبيعة القيَم، أو في طبيعة الألوهيَّة، يتنافى أو لا يتنافى مع الاعتِقاد بوجود رباط عضوي ضروري بين الإسلام والسياسة - فإنَّ هذا يمكن اكتِشافه عن طريق تَحليل الطبيعة المنطقيَّة للدين، وليس عن طريق اللجوء إلى نصٍّ دينيٍّ آخَر".

ومن العجيب حقًّا: أنَّه في الوقت الذي يحاول فيه العلمانيُّون: هدْم الإسلام، واتِّخاذ كافَّة الوسائل التي من شأنها: محاصرته وتقويضه - يشهد الغرب صحوة دينية متزايدة، وعودة مرَّة أُخْرى إلى الكنيسة، وتزايُد تدخُّلها في الشَّأن السياسي والاجتماعي، بل: واستِلْهام التُّراث النصراني من قبَل السَّاسة في مخاطبة الجماهير.

يقول أ. د. مصطفى حلمي: " فقد استطاعت الحركة الأصوليَّة البروتستانتيَّة أن تلعب دورًا مؤثرًا في الحياة السياسية الأمريكيَّة، واستعادة المفاهيم والتصوُّرات النقيَّة التي طرحتها الأصوليَّة في بدايات القرْن، وصبْغها بأبعاد سياسية، واستخدامِها في الواقع السياسي الأمريكي، بل وامتدادها لتشْمل السياسة الخارجيَّة الأمريكية، وكان المرشَّحون الثلاثة إبان انتخابات الرِّئاسة عام 1980م أندرسون وكارتر وريجان، كانوا يُعْلِنون جميعًا انتماءَهم إلى الإنجيليَّة".

وتقول كارين آرمسترونج - أستاذة الأدْيان المقارنة بجامعة أكسفورد -: "إنَّ الدين أصبحَ قوَّة يُعمل لها حساب، وانتشرتْ صحوة دينيَّة لَم تكُنْ تدور بِخلد الكثيرين في الخمسينيَّات والستينيَّات؛ إذْ كان العلمانيُّون يفترضون أنَّ الدينَ خُرافة تَجاوزها الإنسان المتحضِّر العقلاني، وأنَّه على أحسَنِ الفروض مجرَّد نشاطٍ فرْدي، عاجز عن التَّأثير في الأحْداث العالميَّة".

لقد جرجرت العلمانيَّة الشعوب الإسلاميَّة إلى متاهة حقيقية، فكانتْ سرابًا يَحسبه الظمآن ماء، حتَّى إذا جاءه لم يجده شيئًا، فكانوا كالمُنبَت؛ لا أرْضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى!!؟.


والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.