الابتلاء ومضامينه التربوية
09-08-2018, 01:28 PM
الابتلاءومضامينه التربوية
د. عبد الرحمن بن سعيد الحازمي


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

قال الله تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].
قال القرطبي رحمه الله:" والبلاء يكون حَسَنًا ويكون سيِّئًا، والمعنى: لنمتحنكم؛ لنعلمَ المجاهد والصابر حتى يقع عليه الجزاء بشيءٍ من هذا، وشيء من هذا، فأمَّا الخوف، فيأتي من خوف العدو، والفزع في القتال، والجوع يأتي من المجاعة والجدب والقَحْط، ونَقْص الأموال والأنفس والثمرات يكون بسبب الاشتغال بقتال الكفار، وقيل: بالجوائح المتلِفة، وبالقَتْل والمـوت في الجهاد، وموت الأولاد؛ لأن ولد الرجل ثمرةُ قلبه، وقيل: المراد قلة النبات، وانقطاع البركات.
وقوله تعالى:﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾؛ أي: بالثواب على الصبر، والصبر لا يكون إلَّا بالصبر عند الصدمة الأولى؛ كما جاء في الحديث: عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إنما الصبرُ عند الصَّدْمة الأولى"[1]؛ لأنه يدلُّ على قوة القلب وتثبُّته في مقام الصبر، وأما إذا بردت حرارة المصيبة، فكل أحد يَصبِر إذ ذاك، ويُضيف القرطبي رحمه الله تفصيلًا دقيقـًا وشاملًا ومفيدًا للآيتين المشار إليهما، ومن المناسب عرضه على النحو الآتي:

1- المصيبة: كلُّ ما يُؤذي المؤمن وإن صغُرت، وتُستعمَل في الشَّرِّ؛ روى عكرمة: أن مِصْباح رسول الله صلى الله عليه وسلم انطفأ ذات ليلة، فقال صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156]، فقيل: أمصيبة هي يا رسول الله؟، قال:" نعم، كل ما آذى المؤمن فهو مصيبة"، وهذا ثابت معناه في الصحيح عن أبي سعيد، وعن أبي هريرة رضي الله عنهما: أنهما سمِعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" ما يصيب المؤمن من وَصَبٍ، ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتى الهم يَهُمُّهُ، إلَّا كفَّر به مِن سيئاته"[2].

2- عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أُصيبَ بمصيبة، فذكر مصيبتَه، فأحدَث استرجاعًا، وإن تقادَمَ عَهْدُها، كتب اللهُ له من الأجر مثله يوم أُصيب"[3].

3- من أعظم المصائب: المصيبة في الدين؛ عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا أصاب أحدَكم مصيبةٌ، فليذكُرْ مُصابَه بي؛ فإنها من أعظم المصائب"[4]، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المصيبة به: أعظم من كل مصيبة، يُصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة.

4- قوله تعالى:﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156]، هذه الكلمات جعلها الله تعالى ملجأً لذوي المصائب، وعِصْمةً للممتحنين؛ لِما جمَعت من المعاني المباركة، فإن قوله:﴿ إِنَّا لِلَّهِ ﴾: توحيدٌ وإقرار بالعبودية والملك، وقوله:﴿ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾: إقرارٌ بالهلك على أنفسنا، والبعث من قبورنا، واليقين أن رجوع الأمر كلِّه إليه، كما هو له؛ قال سعيد بن جبير رحمه الله: " لم تُعْطَ هذه الكلمات نبيًّا قبل نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، ولو عرَفها يعقوبُ عليه السلام لما قال:﴿ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ﴾ [يوسف: 84].

5- عن أبي موسى رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا مات ولدُ العبد، قال الله لملائكته: أقبضْتُم ولَدَ عبدي؟، فيقولون: نعم، فيقول: أقبَضْتُم ثمرةَ فؤادِه؟، فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟، فيقولون: حمِدك واسترجِع، فيقول الله تعالى: ابنُوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسمُّوه بيت الحمد"[5].
وعن أُمِّ سلمة رضي الله عنها، قالت: سمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ما من مسلمٍ تُصيبُه مصيبةٌ، فيقول ما أمره الله عز وجل:﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156اللهم أجرني في مُصيبتي، وأخلُفْ لي خيرًا منها إلا أخْلَفَ الله له خيرًا منها"[6]، فهذا تنبيهٌ على قوله تعالى:﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾: إما بالخلف كما أخلف الله لأُمِّ سلمة رضي الله عنها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فإنه تزوَّجها لما مات أبو سلمة زوجُها رضي الله عنه، وإمَّا بالثواب الجزيل كما في حديث أبي موسى رضي الله عنه، وقد يكون بهما.

6- قوله تعالى:﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ [البقرة: 157]، هذه نِعَم من الله عز وجل على الصابرين المسترجعين، وصلاة الله على عبده: عَفْوُه ورحمتُه وبركتُه وتشريفُه إيَّاه في الدنيا والآخرة، وقيل: أراد بالرحمة: كشف الكُرْبة وقضاء الحاجة، وفي البخاري قال عمر رضي الله عنه:" نعم العِدْلان ونعم العـلاوة،﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 156، 157][7]، أراد بالعِدْلينِ: الصلاة والرحمة، وبالعلاوة: الاهتداء، قيل: إلى استحقاق الثواب وإجزال الأجر، وقيل: إلى تسهيل المصائب وتخفيف الحزن[8].

المضامين التربوية:
هذه الآيات الكريمات تحتوي على مضامين تربوية في غاية الأهمية؛ لكونها تمسُّ قضية من أهمِّ القضايا التي يدور الإنسان في نطاقها، تِلْكُمْ هي قضية الابتلاء؛ قـال تعالى:﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2]، ومن المضامين التربوية التي يمكن الإشارة إليها، ما يلي:

أولًا: أهمية ارتباط المسلم في كل أحواله بذِكْر الله تعالى في المنشَط والمكره، واليُسْر والعُسْر، فهو: الملجأ الوحيد في كل شؤون حياتنا، وبخاصة عند حلول المصائب والنكبات، وقد لمسنا توجيه الله تعالى لعباده في حالة وقوع البلاء أن يقول:﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، وهذا يُساعِد المسلم؛ ليطمئنَّ قلبُه وتستقرَّ سَرِيرتُه، فلا منجى من الله إلَّا إليه.

ثانيًا: ليس الابتلاء المقدَّر على العباد من أجل تعذيبهم وإلحاق الضرر بهم، وتنغيص حياتهم؛ بل لحِكَمٍ كثيرة؛ منها: ليعلم الله عز وجل الصادق من الكاذب، فيفوز الصادق بالجنة: جزاء صدقه وهي الحياة الأبدية، والتي يهون في سبيلها كلُّ مُصاب؛ قال تعالى:﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]، وقال تعالى:﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142]، أما الكاذب، فقد أعدَّ الله تعالى له ما يستحقُّه من العقوبات عدلًا منه سبحانه وتعالى، فهو العدل المطلق، ولا يظلم الناس شيئًا ولو مثقال ذرة؛ قال تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40]، وقال تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [يونس: 44].

ثالثًا: لا يسلم إنسان على وجه الأرض: أيًّا كانت مكانتُه من هذه المصائب، فالناس كُلُّهم في ذلك سواء، على اختلاف فقط في درجة الابتلاء، فمنهم من يكون ابتلاؤه عظيمًا، ومنهم من يكون أقل من ذلك، كُلٌّ بحسب إيمانه، وفي الحديث الشريف سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟، فقال صلى الله عليه وسلم:" الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فإذا كان الرجل صُلْب الدين يُبتلَى الرجل على قدر دينه، فمن ثَخُـنَ دينُه ثَخُنَ بلاؤه، ومن ضعُف دينُه ضعُف بلاؤه".[9]، [10].

رابعًا: حتى لا يكون المسلم عُرْضةً لوساوس الشيطان ومُنغِّصاته في حالة وقوع البلاء به، فعليه أن ينظُرَ إلى مَن هو دونه؛ ليعلَم أن غيره قد أُصيب بما هو أعظم بلاءً منه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إذا نظر أحَدُكم إلى مَنْ فُضِّل عليه في المال والخَلْقِ، فلينظر إلى مـن هـو أسفل منه ممن فُضِّل عليه".[11].
وجاء عند الصنعاني رحمه الله في (سُبُل السلام) بيانٌ شافٍ ووافٍ لهذا الحديث، فقال:" إن فيه إرشادًا للعبد إلى شُكْر النعمة؛ والمراد أن الناظر في الدنيا ينظُر إلى المبتلى بالأسقام، وما فُضِّل به عليه من العافية التي هي أصل كل إنعام، وينظُر إلى مـن في خَلْقِه نَقْصٌ من عمى أو صَمَم أو بَكَم، ويرى ما هو فيه من السلامة عن تلك العاهات التي تَجلِب الهمَّ والغَمَّ، وينظُر إلى من ابتُلِيَ بالدنيا وجمعها، وامتنع عمَّا يجب عليه فيها من الحقوق، ويعلم أنه فُضِّل بالإقلال، وأُنْعِمَ عليه بقِلة تَبعةِ الأموال في الحال والمآل، وينظُر إلى مَن ابتُلِيَ بالفقر المُدقع أو الدَّيْن المُفظع، ويعلم ما صار إليه من السلامة من الأمرين، وتَقَرُّ بما أعطاه ربُّه العينُ".
ويضيف أيضًا رحمه الله بقوله:" وبالجملة، فما مِن مبتلًى في الدنيا بخير أو شرٍّ، إلا ويجد من هو أعظم منه بليَّةً، فيتسلَّى به، ويشكُر الله تعالى على ما هو فيه ممَّا يرى غيره ابْتُلي به، وينظُر مَن هو فوقـه في الدين، فيعلَم أنه من المفرِّطين، فبالنظر الأول: يشكُر لله عز وجل على ما أنْعَم عليه من النِّعَم، وبالنظر الثاني: يستحيي من مولاه ويقرَع بابَ التوبة بأنامل النَّدَم، فهو في الأول: مسرورٌ بنعمة الله تعالى، وفي الثاني: منكسِرُ النفس حياءً من مولاه".[12].

خامسًا: في غَمرة الصحة ونَشوة العبادة، قد يطلُب بعضُنا أن يبتليَه الله تعالى بمصيبة ما؛ ظنًّا منه أنه سيصبِر عليها، ويحصُل له الأجر العظيم جرَّاء ذلك، وهذا نوعٌ من الإعجاب بالنفس، وهو أمر لا يُقِرُّه الشَّرْع؛ لأن فيه تَحدِّيًا وتعَدِّيًا مع الله عز وجل؛ ولذ قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
" لا تتمنَّوا لقاءَ العدوِّ، وسَلُوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبِروا".[13].
يقول النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث:" إنما نُهي عن تمنِّي لقاء العدوِّ؛ لِما فيه من صورة الإعجاب والاتِّكال على النفس، والوثوق بالقوة، وقلة الاهتمام بالعدوِّ واحتقاره، وهذا يُخالف الاحتياط والحَزْم؛ ولهذا تَمَّمَه صلى الله عليه وسلم بقوله:" واسألوا الله العافية"، وقد كثُرت الأحاديث في الأمر بسؤال العافية، وهي من الألفاظ العامة المتناولة لدَفْع جميع المكروهات في الدين والدنيا والآخرة[14].
ويضيف ابن تيمية رحمه الله: أنه مَن ابتُلي بغير تعرُّض منه: أُعِينَ، ومَنْ تَعرَّض للبلاء: خِيفَ عليه، ويشهد لذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سَمُرة رضي الله عنه:" لا تسأل الإمارة؛ فإنك أن أُعْطِيتَها عن مسألة وُكِلْتَ إليها، وإنْ أُعْطِيتَها عن غير مسألة أُعِنْتَ عليها".[15]، وجاء أيضًا:" من سأل القضاء، واستعان عليه بالشفعاء، وُكِّلَ إليه، ومَنْ لم يسأل القضاء، ولم يَسْتعِنْ عليه، أنزَل الله عليه مَلَكًا يُسدِّدُه".[16]،[17].

سادسًا: قد يظُنُّ البعض دائمًا: أن كثرة البلاء بسبب سَخَط الله تعالى على المبتلى، وأن قلة البلاء دائمًا بسبب الصلاح والتقوى، ولو كان الأمر كذلك لَما كان الأنبياء أشدَّ بَلاءً، والواقع أن الأمر كُلَّه لله تعالى، فهو الفعَّال لما يريد:﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]، فقد يكون البلاء جزاءً لمعصية، وقد يكون البلاء لزيادة قُرْب المبتلى من الله وتعظيم الأجر له، المهم في هذا الأمر هو: الرضا والتسليم بقضاء الله تعالى وقَدَره، والوثوق به، فما أصابهم لم يكن ليُخْطِئهم، وما أخطأهم لم يكن ليُصيبَهم.

سابعًا: إن دائرة الابتلاء لا تقتصر على الابتلاء بالشرِّ فحسب، بل تشمـل الابتلاء بالخير، ويكون الابتلاء بالخير أشدَّ، وقد أخبر الله تعالى عن ذلك؛ فقال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35].
ذلك لأن الابتلاء بالخير أشدُّ وطأةً، وإن خُيِّل للناس أنه دون الابتلاء بالشرِّ، وإن الكثيرين يَصمُدون للابتلاء بالشرِّ، ولكن القِلَّة القليلة هي التي تصمُد للابتلاء بالخير؛ لأن الابتلاء بالشدة قد يُثير الكبرياء، ويستحثُّ المقاومة ويُجنِّد الأعصاب، فتكون القوى كُلُّها مُعبَّأةً لاستقبال الشدَّة والصمود لها، أما الرخاء، فيُرخي الأعصاب ويُنَيِّمُها، ويُفقِدها القدرة على اليقظة والمقاومة؛ لذلك يجتاز الكثيرون الشدَّة بنجاح، حتى إذا جاءهم الرخاء سقطـوا في الابتلاء؛ ولذلك ينبغي للمسلم أن يتنبَّه لحاله، فهو في كلا الحالين مبتلًى، فما عليه إلَّا الصبر في الشدة، والحمد والشكر لله تعالى في الرخاء، بل المشروع: أن يحمَد الله تعالى في الحالين: الشدة والرخاء.

ثامنًا: حرَصت الشريعة الإسلامية على أخذ التدابير والاحتياطات؛ لوقاية العبد نفسَه من الابتلاءات، وخيرُ وقاية منها: ذِكْرُ الله تعالى؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من رأى مبتلًى، فقال: الحمد لله الذي عافاني ممَّا ابتلاكَ به، وفضَّلني على كثير ممَّن خَلَقَ تفضيلًا، لم يُصِبْه ذلك البلاء".[18].
كما أن هناك أوْرادًا شرعيةً صباحيةً ومسائية، ودُبَر كل صلاة مكتوبة، كلها ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الأوراد اعتنى بها العلماء، وطلاب العلم، ودُوِّنَتْ في كُتب خاصة بها، أو على شكل كتيِّبات صغيرة، يجب على المسلم أن يحرِصَ كلَّ الحرص عليها، وهي بإذن الله تعالى تحفَظه من المصائب والرزايا، ومن تلك الأوراد المهمة على سبيل المثال لا الحصر: قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
" ما من عبدٍ يقول في صباح كلِّ يومٍ ومساء كل ليلة: باسم الله الذي لا يضُرُّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، ثلاث مرات، فيَضُره شيءٌ".[19].

هوامش:
[1] (البخاري، صحيح البخاري، باب: زيارة القبور، حديث رقم 1240، ج 5، ص 154).
[2] (مسلم، صحيح مسلم، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، حديث رقم 2573، ج 4، ص 1992).
[3] (ابن ماجه، سنن ابن ماجه، باب: ما جاء في الصبر على المصيبة، حديث رقم 1600، ج 1، ص 510)، (ضعَّفَه الألباني في تعليقه).
[4] (وصحَّحه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير، حديث رقم 348، ج 1، ص 348).
[5] (الترمذي، سنن الترمذي، باب: فضل المصيبة إذا احتسب، حديث رقم 1021، ج3، ص 341)، (وحسَّنه الألباني في تعليقه).
[6] (مسلم، صحيح مسلم، باب: ما يقال عند المصيبة، حديث رقم 918، ج 2، ص 632).
[7] (البخاري، صحيح البخاري، باب: الصبر عند المصيبة الأولى، حديث رقم 42، ج 5، ص 183).
[8] (القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج2، ص 173-175).
[9] (الحاكم، المستدرك على الصحيحين، حديث رقم 120، ج1، ص 99)، (وصحَّحه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، حديث رقم 3402، ج3، ص 179).
[10] (لمزيد من التوسُّع حول هذا الموضوع، انظر تفسير ابن كثير للآيات (8384) من سورة الأنبياء التي ذكر الله تعالى فيها قصة النبي أيوب عليه السلام، وما أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده).
[11] (مسلم، صحيح مسلم، كتاب: الزهد والرقائق، حديث رقم 2963، ج 4، ص 2275).
[12] (الصنعاني، سبل السلام، ج4، ص151).
[13] (مسلم، صحيح مسلم، باب: كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء، حديث رقم: 1742، ج 3، ص 1362).
[14] (النووي، شرح صحيح مسلم، ج12، ص 45-46).
[15] (البخاري، صحيح البخاري، باب: من لم يسأل الإمارة أعانه الله، حديث رقم 7146، ج 9، ص 63).
[16] (الترمذي، سنن الترمذي، حـديث رقم 1324، ج 3، ص 614)، (ضعَّفه الألباني في تعليقه).
[17] (ابن تيمية، الفتاوي، ج 10، ص 521-522).
[18] (الترمذي، سنن الترمذي، باب: ما يقول إذا رأى مبتلى، حديث رقم 3432، ج 5، ص 493)، (وصحَّحه الألباني في تعليقه).
[19] (الحاكم، المستدرك على الصحيحين، حديث رقم 1895، ج 1، ص 695)، (الألباني، صحيح الترغيب والترهيب، حديث رقم 655، ج 1، ص 159).