كيف تسلل الشرك إلى القلوب؟
02-10-2018, 09:30 AM
كيف تسلل الشرك إلى القلوب؟
أبو زيد العتيبي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

إن الله –تعالى– خلق العباد لغاية عظيمة، وهي:(عبادته وحده لا شريك له).
كما قال –سبحانه-:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات: 56).
وخلق داراً يحققون فيها هذه الغايةابتلاء واختباراً- فيعبدون الله –تعالى– فيها، وهي: (الدار الدنيا)، ورتب ما في الكون من المنافع والنعم على هذه الغاية التي خلق لها العباد.
فخلق آدم –عليه السلام– وخلق منه زوجه، ثم بث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، فعبدوا الله –تعالى– وحده لا شريك له.
ولم يزل بنوه على هذا العهد مدة عشرة قرون –أي: ألف سنة – لا يعبدون إلا الله وحده لا شريك له، حتى كان زمان قوم نوح –عليه السلام-، أحكم الشيطان الرجيم شباكه فيهم، وجعلهم يعبدون غير الله.
فقد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما– أنه قال:"كان بين آدم ونوح عشرة قرون: كلهم على الإسلام".
وذلك أنه كان في قوم نوح –عليه السلام– رجال صالحون، وهم:( ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر)، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا لهم أنصابا وسموها بأسمائهم، لأجل أن يتذكروهم بها وينشطوا للعبادة، ويتأسوا بهم في ذلك، وليكونوا قدوة للمجتمع كلما ضعفت همم أبنائه حفزتهم أنصاب الصالحين إلى الاقتداء بهم في الصلاح والطاعة، وبقوا على ذلك فترة.
ثم صاروا يعبدون الله عندها، لطهارة المكان ونزاهته؛ ولأن القرب منهم يبعث في النفس طلب التأسي والاقتداء.
ثم بعد ذهاب أهل ذلك الزمان وذهاب العلماء ونسيان العلم: جاءت أجيال جديدة، وجدت أنصاباً معظمة تحبها القلوب وتذل لها النفوس، وزين لهم الشيطان: أن آباءهم ما فعلوا ذلك إلا لأنها تقرب إلى الله –تعالى-!!؟، فصرفوا لها العبادة من: المحبة والخوف والرجاء والدعاء... إلى غير ذلك من العبادات: زاعمين أنها تقربهم إلى الله.
وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "قال صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد:
أما (ودٌّ): فكانت لكلب بدومة الجندل.
وأما (سواعٌ) فكانت لهذيل .
وأما (يغوث) فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ .
وأما (يعوق) فكانت لهمدان .
وأما (نسرٌ) فكانت لحمير لآل ذي الكلاع .
أسماء رجالٍ صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا: أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم: عبدت".
فأرسل الله –تعالى– إليهم نوحاً –عليه السلام– يدعوهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة من سواه، وأنه لا يستحق العبادة إلا رب العالمين.
قال –تعالى-:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}(الأعراف:59).
فكان جواب قومه:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}(نوح: 23).
فأنت تلحظ أن الصراع الدائر بين نوح وقومه هو في حقوق الإلهية، نوح –عليه السلام– يقول لهم: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، فحق الإلهية والعبادة لا يكون إلا لله –تعالى– وحده.
وهم يرون تعدد الآلهة –لقولهم-:{لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ}، فيعتقدون أن غير الله –تعال – يستحق التعظيم– محبة وذلاً– مع الله.
وهنا أمر ينبغي التنبه له: أن قوم نوح لم يكونوا ينكرون الله، بل كانوا يعرفونه، لكنهم لم يكونوا يوحدونه، بل يشركون معه غيره.
وذلك أن نوحاً –عليه السلام– خاطبهم بعبادة من يعرفونه، كما قال –تعالى-:{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}.(نوح: 1-3).
وأراد منهم: إفراده –سبحانه– بالعبادة، كما قال:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}(هود: 25-26).
فخطابه لهم يدور على التوحيد: (أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ).
واستمر على ذلك مدداً متطاولة من الزمان، كما قال -تعالى-:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}(العنكبوت:14).
وصفهم بالظالمين؛ لأنهم أعطوا حق الله المحض الذي لا شريك له فيه، ولا يتصور العقل له مشارك فيه، أعطوه لعبيد ضعفاء مثلهم، وصرفوا لهم العبادات، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}(الأعراف: 194).
فلا ريب أن يكون الشرك ظلما ؛ لأنه وضع للشيء في غير محله، كما قال لقمان –العبد الصالح– لابنه:{يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(لقمان: 13).
وبعد ذلك توالت الرسل –عليهم السلام– يعقب بعضهم بعضاً بالدعوة إلى إفراد الله بالعبادة، وتنزل عليهم الكتب مشتملة على الأدلة والبراهين الموضحة لذلك، حتى ختموا بنبينا محمد –صلى الله عليه وسلم– الذي جاء بالكلمة السواء (لا إله إلا الله)

خلاصة الدعوة المحمدية:
فقد كانت دعوة نبينا –صلى الله عليه وسلم– قائمة على بيان حق الله –سبحانه– بالإلهية التامة التي لا يشاركه فيها أحد غيره، وتفنيد الشرك وبيان بطلان عبادة الأوثان والأصنام والأحجار وغيرها.
فقد كانت قريش تعبد اللات والعزى ومناة، كما قال –سبحانه-:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}(النجم:19-20).
(اللات): صخرة منقوشة، وقيل قبر رجل.
(العزى): ثلاث شجرات.
(مناة): صنم بين مكة والمدينة .
ومعنى عبادتهم لها: أنهم يصرفون لها بعض أنواع العبادة من: المحبة والخوف والرجاء والدعاء والاستعانة والاستعاذة وغيرها؛ لسببين:
- لتقربهم إلى الله، والدليل قوله:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى}(الزمر: 3).
- ولتشفع لهم عند الله، والدليل قوله:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}(يونس: 18).
ففند النبي –صلى الله عليه وسلم– عبادة من سوى الله، كما قال تعالى:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(آل عمران:64).