في الأصولية و إشكالية الحداثة
05-10-2018, 01:10 PM

من أهم ما يشغل العالمين الإسلامي و العربي اليوم سؤالان أساسيان: أولهما موضوع الإرهاب المستند إلى أصولية إسلامية متشددة، والذي امتدت آثاره لتكتوي بها بلدان العالم قاطبة، و الثاني موضوع الحداثة أو مناقشات الحداثة، التي يعتبرها البعض ردا على الأصولية التي تقف وراء التشدد و التعصب.
هذا لا يعني بحال أن الأصولية المتشددة محايثة للعرب والمسلمين، أو أنها محفورة في جينات الأفراد المؤمنين بالإسلام، فالمطَّلع على تاريخ الأصوليَّة المسيحيَّة في الغرب يسهل عليه أن يقارن بين كلتا الأصوليتين و سيجد كثيرا من أوجه التَّشابه والتَّقاطع، فالأصوليَّة الانغلاقيَّة تظلُّ هي الأصوليَّة في كلِّ الأديان والمذاهب، إنَّ آليات اشتغالها واحدة وكذلك طريقة استحواذها أو هيمنتها على العقول، وبالتَّالي فلا يمكن اتِّهام الإسلام وحده بالأصوليَّة والتَّعصب وإعفاء الآخرين منها، الفرق الوحيد هو أنَّ الغرب تجاوز الأصوليَّة المسيحيَّة بعد أن عانى منها ومن مجازرها الطائفيَّة طيلة ثلاثة قرون في حين أنَّ العالم العربي و الإسلامي لا يزال يتخبَّط بها بل ويعيش الآن أحلك لحظاتها. وإذن فالمسألة مسألة تفاوت تاريخي بيننا وبينهم لا أكثر ولا أقل، وهو تفاوت قد يبلغ القرنين أو ثلاثة فيما يخصُّ مواجهة التَّزمت الدينيِّ والحروب المذهبيَّة. لقد صفُّوا حساباتهم مع أنفسهم على مدار القرون السَّابقة ودفعوا الثَّمن باهظا، ونحن الآن على الطريق، وسوف ندفع الثَّمن باهظا أيضا، و هذا ما يحصل الآن كمرحلة انتقالية عسيرة مرَّت بها الشُّعوب الأوروبيَّة سابقا بعد أن فتكت بنفسها فتكا ذريعا.
نعم نحن نعيش الآن المخاض العسير الذي يضعنا على مفترق طريقين، فإما التصالح مع الذات و العيش تحت سقف وطن واحد يضمن للجميع العدل و المساواة في الحقوق و الواجبات على طريق النهضة و التقدم و المشاركة الإيجابية في الحضارة المعاصرة، و إما أن نلتحق بالهوامش المهملة من التاريخ مذمومين مدحورين.
لقد خرجت أوروبا من الأصوليَّة الدينيَّة الَّتي كانت تتحكَّم بالإنسان من المهد إلى اللَّحد ومن العمادة إلى القبر. خرجت ولن تعود بعد أن كلفها هذا الخروج صراعات فكريَّة وحروب أهليَّة مدمِّرة، فلم يعد الفرد مسؤولا عن طائفته وإنَّما عن نفسه فقط، وهذا هو معنى الاستقلاليَّة الفرديَّة قياسا إلى منطق الجماعة المفروض عليك غصبا عنك حتَّى قبل أن تولد. وهكذا بدلا من الخضوع للماضي وعبادة الأسلاف أحلَّ الغرب منطق الاختراع العمليِّ للمستقبل. لم تعد لحظة الماضي هي المقياس والمعيار وإنَّما أصبحت لحظة المستقبل هي المقياس والمعيار: أي لحظة التَّقدم والتَّطور. من هنا ديناميكيَّة المجتمعات الغربيَّة قياسا إلى المجتمعات الإسلامية الَّتي تظلُّ ساكنة راكدة مستسلمة لأبديَّة الدَّهر، كما وتظلُّ سجينة أسلافها المعصومين وماضيها التراثيِّ المقدَّس بحذافيره. إن الخروج من الأصوليَّة الدينيَّة لا يعني الخروج من الدين بأي حال، بل يعني إلغاء النظرة الشمولية (التوتاليتارية) التي يتخذها الأصوليون المتشددون شعارا و نبراسا تحت عناوين مختلفة؛ كشعب الله المختار في الأصولية اليهودية، أو ألمانيا فوق الجميع بالنسبة للنازية الألمانية، أو خير أمة أخرجت للناس بالنسبة للإسلاموية الأصولية التي تنسى كلمة (كنتم) في بداية الآية، متجاهلة وضع الدول الإسلامية الراهن الذي يسر العدو لا الصديق، و أننا عندما كنا خير أمة أخرجت للناس؛ " كنت تجد في ألف مسجد منتشرة من قرطبة إلى سمرقند، علماء لا يحصيهم العد، كانت تدوي أركانها بفصاحتهم، وكانت قصور مئة أمير تتجاوب أصداؤها بالشعر و المناقشات الفلسفية، ولم يكن هناك من رجل يجرؤ أن يكون مليونيراً من غير أن يعاضد الأدب و الفن". (ول ديورانت-قصة الحضارة)، و أنه قد"كتبت أعظم المؤلفات قيمة وأكثرها أصالة وأغزرها مادة باللغة العربية خلال العصور الوسطى، وكانت اللغة العربية منذ منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر للميلاد لغة العلم الارتقائية للجنس البشري، حتى أنه كان يتوجب على من أراد أن يلم بثقافة عصره بأحدث صورها، أن يلم باللغة العربية". (جورج سارتون-المدخل إلى تاريخ العلوم). عندما كنا خير أمة أخرجت للناس، أخرجنا: الكنديِّ والفارابي والتَّوحيدي وابن سينا و ابن رشد و ابن النفيس و ابن زهر و ابن الهيثم والمعري ... الذين نقلوا أنوار الحضارة إلى الضفة الأخرى من المتوسِّط لتشتعل هناك بعد أن طوِّق العقل لدينا بسياج من النقل المشبوه.
يجب أن يرجع الدين (كل دين) إلى نبعه الصافي و رسالته الأبدية في نشر المحبة و السلام و الإخاء و التعارف بين الناس كافة؛ لا فضل لعربي على أعجمي و لا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، هذه هي الشمولية الحميدة التي يمكن للناس جميعا أن ينضووا تحت لوائها، وليست التقوى هي الاستعلاء على الآخرين تحت أي مسمى، و سلب أموالهم و أنفسهم.
لقد هربت أوروبا الغربية من الأصولية إلى (الحداثة) التي ظهرت إرهاصاتها الأولى منذ أواخر القرن التاسع عشر على يدي (بودلير) الفرنسي صاحب ديوان " أزهار الشر "، لكنها لم تنشأ من فراغ ، بل هي امتداد لإفرازات المذاهب والتيارات الفكرية ولاتجاهات الأدبية والأيدلوجية المتعاقبة التي عاشتها أوروبا قبل ذلك، والتي قطعت فيها صلتها بالدين والكنيسة وتمردت عليهما ، وقد ظهر ذلك جليا منذ ما عرف بعصر النهضة في القرن الخامس عشر الميلادي ، عندما انسلخ المجتمع الغربي عن الكنيسة وثار على سلطاتها الروحية ، التي كانت بالنسبة لهم كابوسا مخيفا ، وسيفا مسلطا على رقابهم محاربا لكل دعوة للعلم والاحترام لعقل الإنسان وتفكيره ، وفكره.
أما الحداثة لغويا فهي: مصدر من الفعل " حَدَثَ " ، وتعني نقيض القديم ، والحداثة أول الأمر وابتداؤه ، وهي الشباب وأول العمر. و أما ما تعنيه اصطلاحا فهي : " اتجاه فكري جديد يخص الحياة الإنسانية في كل مجالاتها المادية والفكرية على حد سواء و يشكل ثورة كاملة على كل ما كان وما هو كائن في المجتمع".
لم تعد لفظة الحداثة في واقعنا اليوم تدل على المعنى اللغوي لها ولم تعد تحمل في حقيقتها طلاوة التجديد و الإبداع، بل أصبحت رمزا لفكر جديد ، نجد تعريفة في كتابات دعاتها وكتبهم فالحداثة تدل اليوم على مذهب فكري يحمل جذوره وأصوله من الغرب، ولا بد من الانتباه بداية إلى ما يجري غالبا من الخلط بين مصطلح الحداثة ، والمعاصرة (modernity ) ، والتحديث (modernization ) فكثيرا ما تترجم جميع تلك المصطلحات إلى " الحداثة " على الرغم من اختلافها شكلا ومضمونا وفلسفة وممارسة.
ونحن في تعريفنا لمفهوم الحداثة (modernism) لا نريد أن نتوقف عند ما قال به خصومها ، بل أن نتعرف عليه مما قال به أصحابها ومفكروها:
عرَّف رولان بارت الحداثة بأنها انفجار معرفي لم يتوصل الإنسان المعاصر إلى السيطرة عليه إذ يقول : " في الحداثة تنفجر الطاقات الكامنة ، وتتحرر شهوات الإبداع في الثورة المعرفية مولدة في سرعة مذهلة ، وكثافة مدهشة أفكارا جديدة ، وأشكالا غير مألوفة ، وتكوينات غريبة وأقنعة عجيبة ، فيقف بعض الناس منبهرا بها ، ويقف بعضهم الآخر خائفا منها، هذا الطوفان المعرفي يولد خصوبة لا مثيل لها ، ولكنه يُغرق أيضا: من " محاضرة الحداثة والتراث د. محمد هدارة. ويتابع الدكتور هدارة قائلا : كما يصف بعض الباحثين الغربيين الحداثة بأنها " زلزلة حضارية عنيفة، وانقلاب ثقافي شامل، وأنها جعلت الإنسان الغربي يشك في حضارته بأكملها ، ويرفض حتى أرسخ معتقداته الموروثة ".
الواقع أن هذا الشك في حضارة الغرب و معتقداته الموروثة قد تنامى و تبلور في أعقاب الكوارث و الدمار الذي ألحقته الحرب العالمية الثانية بأوروبا و أصبح العديد من المثقفين والفنانين الأوروبيون لا يثقون بالحداثة السياسية والاقتصادية والمشروع الجمالي برمته، فظهر ما يسمى ب(ما بعد الحداثة). تعبر كلمة ما بعد الحداثة عن مرحلة جديدة في تاريخ الحضارة الغربية تتميز بالشعور بالإحباط من الحداثة ومحاولة نقد هذه المرحلة والبحث عن خيارات جديدة وقد كان لهذه المرحلة أثر في العديد من المجالات. و في حين أن الحداثة كانت تتجذر في كثيرٍ من الأحيان بالواقع (هوية ووحدة وسلطة ويقين)، فإن ما بعد الحداثة اقتلعت جميع الجذور التي تربطها بالواقع وفقدت البوصلة الحضارية إلى الضياع و التشتت و التشكك و الانفصال عن الواقع ... لقد أصبح مفهوم (ما بعد الحداثة) يعني بطريقة أو بأخرى الثقافة الامبريالية العالمية التي تسعى لتذويب ثقافات و موارد العالم ضمن بوتقتها، أو باختصار أصبحت تعني ثقافة (العولمة). لقد أصبحت تعني: سيطرة الشركات الكبرى على مقدرات و موارد الشعوب، و التفلّت من جميع المعايير و القيم التي ترسخت من خلال الحضارات الإنسانية المتعاقبة عبر العصور.
في واحدٍ من الأعمال الأصيلةِ في هذا الموضوع، وصف الفيلسوف والناقد الأدبي (فريدريك جيمسون) ما بعد الحداثة بأنها "المنطق الثقافي المهيمن للرأسمالية المتأخرة"، و (الرأسمالية المتأخرة): هي الفترة التي تسمى أحيانا الرأسمالية المالية، أو ما بعد الثورة الصناعية، أو الرأسمالية الاستهلاكية، أو العولمة، أو غير ذلك ... من خلال هذا الفهم إذن، يمكن أن ننظر إلى هيمنة فترةِ ما بعد الحداثة على أنها بدأت بعد الحرب العالمية الثانية و في وقتٍ مبكرٍ من الحرب الباردة بين الشرق ممثلا بالاتحاد السوفييتي سابقا، و الغرب ممثلا بالولايات المتحدة الأميركية، واستمرت حتى يومنا هذا.
. في عام 1994، أعطى رئيس الجمهورية التشيكية والكاتب المسرحي الشهير (فاكلاف هافل) وصفا متفائلا لعالم ما بعد الحداثة باعتباره عالم واحد مبنيٌ على أسسٍ علمية، ولكن المفارقة فيه أن: " كل شيءٍ ممكن، ولا شيء يكاد أن يكون مؤكداً."
يعرف (جوش ماكدويل) و (بوب هوستيتلير) ما بعد الحداثة كما يلي:
"إنها النظرة إلى العالم التي تتميز بالاعتقاد أن الحقيقة لا وجود لها، بل تُخلقُ من ذاتها. إن الحقيقة التي أوجدتها ثقافةٌ معينةٌ تبقى ملتصقة بتلك الثقافة، ولذلك، فإن أي نظامٍ يدعي امتلاك الحقيقة هو نظام يسعى إلى السلطة، و يحاول الهيمنة على الآخرين"
مما سبق يتضح أن رواد الحداثة لم يكونوا دعاة للتجديد بمفهومه المتعارف عليه في اللغة ولا يُعنى بالأدب والشعر كما يدعون، وإنما هم دعاة للهدم والتخريب، كما يعلنون عن ذلك صراحة في كتبهم النقدية ودواوينهم الشعرية ومؤلفاتهم بشكل عام . فقد ظل كثير منهم يخلط بين الحداثة كمنهج فكري ، يدعو إلى الثورة والتمرد على الموروث والسائد والنمطي بأنواعه المختلفة عقيدة ولغة وأدبا وأخلاقا، وبين المعاصرة والتجديد الذي يدعو إلى تطوير ما هو موجود من ميراث أدبي ولغوي، والإضافة عليه بما يواكب العصر، ويتواءم مع التطور، منطلقا من ذلك الإرث الذي لا يمكن تجاوزه بحال من الأحوال ، فهو عنوان الأمة ، ورمز حضارتها ، والأمة التي لا موروث لها لا حضارة لها وجديدها زائف ممجوج .
لقد انبهر رواد الحداثة في الشرق من أمثال رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وفرنسيس المراش ورشيد رضا إلى راشد الغنوشي ومحمد عابد الجابري وحسنين توفيق إبراهيم وسواهم بمنجزات الحضارة الغربية، و في محاولة منهم لرتق الجرح الذي خلّفه شعورهم بالتردي والفوات الحضاري إزاء الغرب، وتفوقه في العلوم و التكنولوجيا، غفلوا عن العرج الروحي الذي ألمّ بهذه الحضارة؛ لقد أدت مفاهيم الحداثة و ما بعد الحداثة في الغرب إلى تدمير الهدف الأخلاقي للحضارة الإنسانية و الفشل في إدراك أن المشاكل التي ندعوها أخلاقية مستمرة في وجودها حتى لو نبذنا فكرة أن الخاطئين يذهبون إلى الجحيم، و المحسنين إلى الجنة لأن المشاكل الأخلاقية مشاكل ذات تعقيدات تتعلق بالحياة الإنسانية و المجتمع، و هكذا فالأخلاق هي قوة الإنسان النفسية لتحقيق أشكال أرقى من الحياة، أما إذا انفلتت إرادة الإنسان من القيد الأخلاقي فإن النتيجة ستكون سقوط الحضارة كما ينبئنا التاريخ، هذا بالإضافة إلى أن هذه الحاجة أصبحت ملحة اليوم كي تبعث فكرة الهدف من الحياة أو معنى الحياة، فبالرغم من أن العقلانية و التقنيات الحديثة قد زادت من تقدم الإنسان و رفاهيته على حساب الطبيعة، إلا أن هذا التقدم بالذات قد جعل الرغبات و الشهوات البهيمية متاحة جدا بحيث يسهل الانغماس فيها و الانحدار في اتجاه أشكال الحياة الأدنى إذا لم يتوفر للحضارة الهدف أو الدافع الأخلاقي ليحفظها من التدهور و الانهيار، و لا أدل على هذا إلا ما خلفته الحرب العالمية الثانية من كوارث و دمار هائل نتيجة التطور التكنولوجي غير المسبوق في إنتاج الأسلحة و وسائل التدمير الشامل، فما بالنا لو حدثت حرب كونية جديدة اليوم و قد امتلكت كثير من الدول أسلحة بمقدورها إفناء جميع أشكال الحياة على الأرض في ساعات معدودة ... فالعلم و التكنولوجيا المتقدمة يبقيان آلتي دمار ما لم ترافقهما الأخلاق اللازمة كي يحسن توظيفهما و استخدامهما في سبيل سعادة الإنسان و رفاهيته. و إننا إذ نجد مثل هذا التحليل في مؤلفات الكثيرين من المفكرين الغربيين البارزين مثل (كيركغارد و نيتشة و شو)، فإننا لا نجد مثله لدى رواد الثقافة العربية الإسلامية الذين ما فتؤوا يقفون على أطلال الماضي مرددين الادعاء بتفوق حضارتنا تاريخياً وسبقنا العلمي والفكري و أن ما يتحدانا به الغرب من إنجازات علمية وثقافية إنما هو "بضاعتنا ردّت الينا"، ناسين أن هذا كله قد حدث في الماضي و كأن المطلوب منا اليوم أن نسير بعكس اتجاه صيرورة التاريخ، أي إلى الماضي بدل الحاضر، كي ننهض.
عليه فقد بقي دور المثقف في العالمين العربي و الإسلامي محدوداً، فكان في الإجمال مقلداً ومن دون إبداع حقيقي، ومن دون موقع مميز في تجديد المجتمع لأنه يعمل في بيئة غير مواتية، حيث الأمية مرتفعة، والإنتاج العلمي ضئيل، والتردي الثقافي والمعرفي ناتئ، والسلطة السياسية مستبدة طاغية، وقدرة المثقف على الوصول إلى الجماهير شبه مستحيلة بسبب الأمية الثقافية والاستهلاك شبه المعدوم للثقافة النقدية التجديدية مقابل ثقافة الاستهلاك والخرافة والتقليد.
بالرغم من جميع المصاعب و الاختلاجات التي تواجه المجتمعات العربية الإسلامية على سبيل النهضة فإن الكثير من معالم هذا الطريق يبدو واضحا و متفق عليه من الجميع، و هو يبدأ بالعلم الذي لخصه الوحي يوما بكلمة اقرأ، و اتبعه بكثير من الآيات الكريمة و الأحاديث الشريفة التي تحث على طلب العلم حتى كادت أن تجعل العلماء ورثة الأنبياء. بل هناك تجربة عملية نجدها على أرض الواقع في ماليزيا و هي أقرب إلى الفهم و التطبيق بالنسبة لعالمنا العربي و الإسلامي بسبب وحدة الثقافة و الدين و تشابه التاريخ و الموزاييك الاجتماعي ... المرجع (7)، اجتزئ منه بعض عناوين هذه التجربة الرائدة:
أولاً: لا استقرار بدون تنازلات، و لا تقدم بدون استقرار:
فالتنمية لا تتم إلا إذا حل الأمن والسلام، و لا بد من الدخول في حوار مفتوح مع كل المكونات الوطنية دون استثناء، والاتفاق على تقديم تنازلات متبادلة من قبل الجميع كي نتمكن من توطين الاستقرار والتنمية

ثانيًا: لابد من توجيه الاهتمام إلى الملفات الحقيقية التي تهم المجتمع:
وهى الفقر والبطالة والجوع والجهل لأن الانشغال بالأيديولوجيات ومحاولة الهيمنة على المجتمع وفرض أجندات ثقافية وفكرية عليه لن يقود المجتمعات إلا إلى مزيد من الاحتقان والتنازع، فمع الجوع والفقر لا يمكنك أن تطلب من الناس بناء الوعي ونشر الثقافة.

ثالثًا: الفتاوى لن تحل مشاكل المسلمين:
إن قيادة المجتمعات المسلمة والحركة بها للأمام ينبغي أن لا يخضع لهيمنة فتاوى الفقهاء والوعاظ؛ فالمجتمعات المسلمة عندما رضخت لبعض الفتاوى والتصورات الفقهية التي لا تتناسب مع حركة تقدم التاريخ أصيبت بالتخلف والجهل، فالعديد من الفقهاء حرموا على الناس استخدام التليفزيون والمذياع، وركوب الدراجات، وشرب القهوة، وجرّموا تجارب عباس بن فرناس في الطيران.
إن كلام العديد من الفقهاء “بأن قراءة القرآن كافية لتحقيق النهوض والتقدم!!! أثر سلبًا على المجتمع و أدى إلى انخفاض نسبة العلماء في الفيزياء والكيمياء والهندسة والطب بل بلغ الأمر في بعض الكتابات الدينية إلى تحريم الانشغال بهذه العلوم؛ وبالتالي فإن حركة المجتمع لابد أن تكون جريئة وقوية، وعلى الجميع أن يُدرك أن فتاوى وأراء النخب الدينية ليست دينًا، فنحن نُقدس النص القرآني ولكن من الخطأ تقديس أقوال المفسرين واعتبارها هي الأخرى دينًا واجب الإتباع.

رابعًا: عون الله لا يصيب المُتعصبين:
إن الله لا يساعد الذين لا يساعدون أنفسهم، فنحن المسلمين قسمنا أنفسنا جماعات وطوائف وفرق يقتل بعضها بعضًا بدم بارد، فأصبحت طاقتنا مُهدرة بسبب ثقافة الثأر والانتقام التي يحرص المتعصبون على نشرها في أرجاء الأمة عبر كافة الوسائل وبحماس زائد ثم بعد كل هذا نطلب من الله أن يرحمنا ويجعل السلام والاستقرار يستوطن أرضنا!!! فذلك ضرب من الخيال في ظل سنن الله التي يخضع لها البشر فلابد من أن نساعد أنفسنا أولا وأن نتجاوز آلام الماضي وننحاز للمستقبل ...


المراجع:

1- الأوان: جديد الموسم الثقافي الفرنسي1/2؛ ترجمة: هاشم صالح، أكتوبر 1و2, 2015
2- حميد زنار: “الأصولية كما رويتها لابنتي” L’islamisme raconté à ma fille, ed. Tamaris, Mai 2014
3- مسعد محمد زياد، ديوان العرب: الحداثة - مفهومها ـ نشأتها ـ روادها، الخميس ٤ أيار (مايو) ٢٠٠٦.
4- كرم الحلو، الأوان: في تجديد النموذج الثقافي والحداثة العربية المعطوبة، أيلول 17 (سبتمبر).
5- ويكيبيديا (الموسوعة الحرة): ما بعد الحداثة.
6- المهندس محمد طارق زينة: انحدار الغرب
7- المهندس محمد طارق زينة: دروس من كوالالامبور