الطبقة الحاكمة في أمريكا: تأثير الأثرياء والنافذين في دولة ديمقراطية (2)
26-09-2020, 10:25 AM
الطبقة الحاكمة في أمريكا (2)

المقدمة: ستيف فرايزر و غاري غرستل

(1)

يفضح الكتاب كيف مارست الأقليات الصغيرة من الأثرياء وذوي الامتيازات قدراً كبيراً من النفوذ، وبثبات، في الولايات المتحدة التي قامت على مفهوم حكم الشعب؟ ففي سلسلة من المقالات الرائعة، يتفحص متبحرون طليعيون في السياسة الأمريكية تاريخ النُخب الاقتصادية الحاكمة الذين تظهر بصماتهم على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية.

ونادراً ما قام كتابٌ في النصف الثاني من القرن العشرين بتوفير نظرة بهذه الشمولية عن الطرق التي اعتمدتها طبقة الأغنياء والنافذين للتأثير من خلال ثرواتها ونفوذها في التجربة الأمريكية في الميدان الديمقراطي.

أحد الألغاز الثابتة للسياسة الأمريكية منذ أيام المؤتمر الدستوري وحتى إدارة بوش يتمثل بكيفية تمكن النخب الثرية من ممارسة تأثيرها القوي في الحياة العامة في بلدٍ ديمقراطي. وفي هذا الكتاب، يتناول بعض أفضل المؤرخين الأمريكيين هذه المسألة مقدمين مجموعة من الرؤى الجديدة تتعلق بماضي وحاضر الولايات المتحدة الأمريكية.

والطبقية هي ميزة الحياة الأمريكية التي لا يجرؤ أحدٌ عن الإفصاح عنها، ولكن هذه المقالات تقطع مسافة طويلة في اتجاه شرح تأثيرها في السياسة الأمريكية.

(2)

هذا الكتاب قائمٌ على مفارقة أربكت المؤرخين والمواطنين بشكل عام منذ أن كانت الولايات المتحدة الأمريكية: كيف يُمكن لأمة مُكرسة للحرية والمساواة أن تكون بالرغم من ذلك باعثاً لهرميات عظيمة من السلطة والنفوذ والثروة تُضعف أسس ذلك التعهد الاستثنائي؟

والأكثر أهمية في هذه المفارقة أن البلد ديمقراطي، والحكم هو للشعب. ومع ذلك، لم يتسلم الشعب مقاليد الحكم، بل النخب، والنبلاء، ومؤيدو التمييز الطبقي، وذوو الامتيازات الطبقية. أحياناً يبدون وكأنهم يمارسون الحكم فيما مصالح الشعب نُصب أعينهم، وأحياناً لا يبدون كذلك.

وتنطوي بعض التعابير مثل (الطبقة الحاكمة) أو (النخبة الحاكمة) على تعارضٍ وتضارب. فهي لا توحي بأنها تنتمي الى مفردات السياسة الأمريكية وتاريخها. بعد كل ذلك، فإن انفتاح المجتمع الأمريكي، ومرونته، وتعدديته تتحدى كل ما هو مماثل ل (الطبقة الحاكمة) بحصريتها، واستمراريتها، وصعوبة الدخول فيها.

وهناك شيءٌ ما ولا يمكن وصفه يرتبط بمفاهيم مُعينة كالأولاد من زيجاتٍ سابقة الذين تم استقدامهم من العالم القديم في دول البحر الأبيض المتوسط، وما نشأ عنهم من طبقة أرستقراطية، وطبقة حاكمة مالكة للأراضي، وطبقات اجتماعية عسكرية، وعائلات ذات علاقة بالسلالات الحاكمة. وهناك اعتقادٌ أمريكي شعبي وراسخ هذه الأيام أن تلك الطبقات غير موجودة، أو أنها في طريقها للزوال.

(3)

في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، شاع اتفاقٌ جماعي أن ما يحكم الولايات المتحدة، هي الأحداث، و"التاريخ" وقوى السوق الموضوعية، وليس الطبقات أو النُخَب.

ويستحيل فهم أي من المراحل المميزة العظيمة في التاريخ السياسي الأمريكي، أو فهم الأحداث التي مرت بها الديمقراطية في أمريكا دون الوقوف وجهاً لوجه ضد " الأمريكيين المؤيدين لبريطانيا "، و " مؤيدي الحكم القائم على المال ", و "المصرف المَسِخ " و " الاستعباد "، و" بارونات اللصوصية "، و " أعضاء الطبقات الاجتماعية المهيمنة " و " الودائع المالية "، و " الملكيّين الاقتصاديين"، و " مؤسسات الدولة " و " النخبة المتنفذة " أو " المركب العسكري ـ الصناعي".

ولو ألقينا نظرة شاملة على معالم المأساة الوطنية. فكل رئيس للولايات المتحدة سبق (جون كندي) تمتع بشهرة حيوية ثابتة ترتبط ذكراه بحملة عنيفة ضد نخبة مُغتصبة أو مُحصنة. فقد أطاح (جورج واشنطن) و (جيفرسون) بأتباع الملَكية البريطانية وواجها من ثَمّ محاولات قيام ثورة أرستقراطية مُضادة من قبل الأمريكيين المؤيدين لبريطانيا الذين نشئوا في أمريكا.

وشن (أندرو جاكسون) حرباً ضد (مصرف مسخ) تجرأ على احتكار موارد أمة قليلة الخبرة. وطهر (لنكولن) الاستعباد ومنع الرق. وأطلق (تيدي روزفلت) العنان لوعيد بلاغي منمق ضد أولئك (الأشرار ذوي الثروات الطائلة)، والذين كانوا يشترون أعضاء مجلس الشيوخ والنواب وكأنهم خنازير. ووعد (وودروو ويلسون) بالاضطلاع بشؤون (الودائع المالية). وطرد (فرانكلين ديلانو روزفلت) الصرافين من الهيكل. وهاجم (أيزنهاور) النفوذ المتعجرف ل (المركب العسكري ـ الصناعي).

(4)

ولم تكن العظمة والنبوغ تقتصر على رجال السياسة، بل امتدت لتصل الى المؤرخين والفلاسفة والمفكرين، والذين أشغلهم بنيان المجتمع الأمريكي وكيفية تركز السلطة وتناقلها بين أفراده.

شكك (جون أدامس) بإمكانية الوثوق بصوت الشعب لاختيار نخبة جديرة بالاحترام، ومؤهلة للخدمة العامة، سيما وأن الشعب قد ضلله الدجالون والمراؤون والمتملقون والمخادعون. لم يكن أدامس يشكك بأن الاستقرار الاجتماعي يقتضي دائماً " أن يعرف كل شخص موقعه ويعمل على المحافظة عليه ". فقد يعتقد في الواقع أن " السؤال الكبير الذي سَيُطرح دائماً هو من سيعمل؟ وكان الجواب واضحاً: معظمهم سيعملون وسيحسدون تلك النسبة من "الأشخاص المُفضّلين " المتمتعين بامتيازات والذين يقومون في أوقات فراغهم بالتفكير وممارسة الحكم.

وإن كلاً من جيفرسون، وهاميلتون، ومفكرين سياسيين آخرين من الجيل الثوري، فكروا كما فكر أدامس بأن الحكم الجمهوري لم يكن أمراً مضموناً للحيلولة دون قيام نزاع بين القوى الشعبية ومختلف النخب ـ المالكة للأراضي، والتجارية، والمالية ـ وتخوف ماديسون من أن يحاول النفوذ الاقتصادي يوما التحكم بالسلطة السياسية، وكان مقتنعا بأن الحزب المناهض للمنحى الجمهوري " كان أكثر تحيزاً الى الأثرياء منه الى طبقات المجتمع الأخرى".

(5)

ترسخ مفهوم أو مجموعة من المفاهيم عند كثير من المنتقدين للتشكيل الأولي لطبيعة الحكم في الولايات المتحدة، عبر عنها مجموعة واسعة من الكُتّاب والمفكرين: بأن البلد كان تقريباً تحت رحمة جماعة صغيرة من الرجال ذوي الثروات الطائلة الذين كسبوا تأثيراً سياسياً إضافياً دون مساعدة الناس واتخاذ قرارات ديمقراطية.

فظهرت أعمال الكُتاب في المجلات والروايات والجرائد، وبرزت أسماء لكتاب منتقدين أمثال: هنري جورج، ووليام لويد، وإدوارد بيلامي، وبعضهم من اليساريين أمثال جاك لندن (صاحب العُقب الحديدية) وجون دوس باسوس، استمروا بمهاجمة الغرور المبالغ فيه والشهوة والغرائز الاستبدادية لمورغان وهاريمان وروكفيلر وآخرين بارزين من الطبقة الحاكمة.

يتبع في هذا الفصل