سفر وعقيق
20-01-2021, 11:31 AM
قديما عندما كانت الطهارة ونقاء النفس والطيبة خصالا حاضرة ثائرة جَمَّاعَة نفٌاعة قوية رافعة محفزة على الزهد الروحي ومحبة الأخر, كانت القلوب خيمة رحمة عذراء لم تدنسها المادة وبريق الدنيا, كنا نعيش عمقا ملائكيا سلوكيا عفيفا وأصالة ذاتية متحضرة عريقة, صلة الرحم تاج فوق الرؤوس, لا قلق ولا قلاقل ولا قسوة ولا تشاؤم, تشابه اللباس والنفوس وتعانقت الدور كانها قصور متساوية متخاصرة متماسكة كروح المياة التي تحيينا وتطهرنا من الدنس, سعداء منصهرين في المحبة.
كنا نرى عشبة القيز عندما تزهر في فصل الربيع هبة ربانية, نطاردها بعمق مهذب ونخاف عليها من التفتت, تبادلنا نفس الشعور فتطلق من فرحتها عسلها القرمزي, علما أنها دواء لمعالجة انكسار الأهداب, أحبها أجدادنا القدامى وقدسوها لأنها تشبع بطونهم الجائعة وتداوي تحطم جفونهم وتزين مروجهم بورودها الجميلة, والتي عندما يرونها تسعد أرواحهم وتنتعش أمالهم لأنهم يرونها فأل خير ورخاء, يجالسونها ليلامسوها برقة عندما ينهكهم التعب وتشتاق أرواحهم لرائحة الثرى.
كنا نجتمع على كانون جمر تحت رماده حبات من البطاطا, رائحتها تطهر وتعطر الجو, حكايات الجدة تحملنا بعيدا في رهبة بين الجبال والبراري والدروب والمغارات, لنعيش الخيال الحقيقي الممزرج بخوف يجعلنا ننكمش لتتقلص طاقتنا لندخل في ثقل ترتخي له جفوننا, لنسبح عميقا حد الذوبان في أحلام جميلة لم تعد اليوم موجودة, رائحة البخور تعانق الحي بأكمله تدغدغ الأنوف وتنشط الجوارح وتذهب الحزن, رائحة خبز البيت أو المطلوع نشتمها من بعيد ونجدها عند الجميع.
المعلم أب وقديس ومربي مكانته عظيمة عند الأولياء والتلاميذ, شرطي البلدية محترم من الصغير والكبير, وسيط خير والساعي بين الناس بالمعروف في الريف والحضر والكل سعداء, البسمة دستورنا والاحترام قانوننا, قليل من الماء يكفينا واليوم آلاف اللترات لا تروينا, راديوا صغير بنغماته يفرحنا واليوم آلاف القنوات والقلق يطاردنا, مشتتين بين فزع من الغد ونهم لا حد له, أنفاسنا معدودة وأمالنا تعدت المعمورة, لا قناعة ولا تدبر أية, يقول تعالى في سورة سبأ (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (آية 39).
.
مفاتن الدنيا جرفتنا وفرقتنا وجعلت مكان الراحة قلقا, كانت المطالعة متعة وعزلة راحة وقصر ارتخاء وجِواء , والبادية استراحة ونقاهة, وشرب فنجان قهوة أو شاي ذوق رفيع ونشوة مجنحة واليوم لم يعد للحلو طعم ولا للمر وخز, تهنا وتلاشت مكابحنا وانجرفنا مع تيار الكماليات حتى الأكل أصبح يأتينا معلبا فتعلب فكرنا وأصابه الصدأ فلم نعد نفرق بين النقد والوقاحة واللغو والفصاحة والطهارة والنجاسة, اختلطت الأمور علينا ولم يعد للذوق مقام ولا للباس احترام.